نَأَى عَنَّا ولَمْ يَبْرحْ قَريباً |
وغابَ ولَمْ يَغِبْ أَلقاً وطِيبا |
تَحَدَّى دَهْرَه مُذْ كانَ طِفْلاً |
فعاشَ وماتَ مُنْطَوياً غريبا |
كذا يَحْيا الأديبُ، فَليْسَ بِدْعاً |
إذا كَرِهَ الرَّقابةَ والرَّقيبا |
تَقَطَّعَ دِرْعُ عَنْتَرةٍ وَظلَّتْ |
قَصيدةُ حُبِّه بُرْداً قَشيبا |
رَأيْتُ الطًّيْر أنْواعاً ولَكنْ |
أيَهْوَى الروضَ إلاّ العَنْدَليبا؟ |
سلاحُ الشِعْر ذو حَدَّيْنِ ماضٍ |
فإنْ غامَرْتَ فيه فكُنْ لبيبا |
كَثِيرُ كَثيرِهِ زَبَدٌ، ويَبْقَى |
قليلُ قَليلهِ ثَمَراً رَطيبا |
أَبَا الحِكَمِ الغَوالي يَنْتَقيها |
ويَقْذِفُها على الباغي لَهيبا |
نَصيبُك َ إنْ تُضَرِّسُك الليالي |
فلا تَلْعَنْ، بَل اشْكُرْهُ نَصيبا |
لَكَمْ خَنَقَتْ بُيوتُ العزِّ صَوْتاً |
وكَمْ حَرَقَتْ نِطاسياً نَجيبا |
وكَمْ هَزَّتْ يَدُ الحِرْمانِ كُوخاً |
فأطْلَعَ أصْمَعِياً أوْ حَبيبا
(1)
|
شَقيتَ فجاء شِعْرُكَ سَلسبيلاً |
نَقياً، لا رَكيكَ ولا رَتيبا |
تَقَلَّبَ في الأسَى فازدادَ طيباً |
وأطْرَبنا نَسيباً أو نَجيبا |
يَسيرُ رُواتُه شَرْقاً وغَرْباً |
ويَمْلأ ذِكْرَه الكَوْنَ الرَّحيبا |
يَموجُ على الشِّفاه نَدَىً وَرَاحاً |
ويَسْري في القُلوب شَذاً حَبيبا |
نَطوفُ على الجِياعِ بِهِ وَنَسقي |
بسَائِغِ مائِهِ الحَقْلَ الجَديبا |
جِباهُ المارقينَ به رُغامٌ |
يُعابُ إذا شُعاعُ الشَمْسِ عيبا |
تَنَاهى حِكْمَةً، فَبلَغْتَ فيه |
- وإنْ كَرِهَ العِدَى - شَأْواً عَجيبا |
* * * |
رَفيقَ الدَّرْبِ طالَ عليَّ لَيْلي |
وكُنْتُ أظُنُّه فَجْراً قَريبا |
بروُحي أنْتَ، هَلْ يَرْثيك فانٍ |
على عكَّازهِ يَمْشي دَبيبا |
ألَيْسَ مِنَ العَجائبِ أنْ يُداوي |
مَريضُ لا دَواءَ لَهُ، طَبيبا؟ |
تَناثَرَ عِقْدُ أحْبابي وأخْشَى |
إذا اسْتَعْجَلْتُ يَومي، أن أخيبا |
يَمرُّ العَيْش بَعْدهَمُ، ويَحْلو |
لِقَلْبي أنْ يُسامِرَهم وجيبا |
سَلامُ الله يا أحبابَ رُوحي |
كَرِهْتُ العَيْشَ مَخْزوناً كئيبا |
رياحُ البَيْن قَدْ هاضَتْ جَناحي |
فمَنْ لي أنْ أطيرَ وأن أطيبا؟ |
لَئِنْ خُولطتُ في عَقْلي فإنِّي |
فَقَدْتُ بَصيرتي طِفَلاً رَبيبا |
حياتي بَعْدَكم سِجْنٌ رَهيبٌ |
حَنانَكُمُ افْتَحوا السِجْن الرَّهيبا! |
حَكيمُ الأرْزِ جُرْحُ الأرْزِ جُرْحي |
فماذا إن بَكَيْتُ دَماً صَبيبا؟ |
ألَمْ يَمْسحْ ببَسمَتِه دُموعي |
ويَدْفَعْ عنِّي اليومَ العَصيبا؟ |
فتَحْتُ على مَحاسِنِه عُيوني |
وعَلَّمني وقَوَّمني أديبا |
سَقاني شِعْرَه الصَّافي حَليباً |
فما أشْهاه في نَفْسي حليبا |
ألاَ فَلْتَنْقَطِعْ أوتْارُ قَلْبي |
إذا لَمْ أهْوَه حَمَلاً وذيبا |
* * * |
شَهيدَ الشِعْر صارَ الشِعْر لَغْواً |
وأجْدَبَ بَعْدَ أنْ كانَ الخَصيبا |
يَعيثُ به البُغَاثُ، ويَدَّعيه |
خَنافسُ لا يَخافون الحَسيبا |
يُسَمَّى عِنْدَهم شِعْراً جَديداً |
وأرْحَمُهُ فادْعوه نَعيبا |
ولَيْسَ الذَّنْبُ ذَنْبَهمُ، فإنّا |
تصارَخْنا فَلَمْ نَسْمَعْ مُجيبا |
* * * |
شَهيدَ الحِكْمةِ الغَرَّاءِ دَعْني |
على قَبْرِ النُّبوغ أقِفْ خطيبا |
لأبْكي فيكَ نَسْراً لا يُبارَى |
وخِلاًّ لا يُجارَى، بَلْ نَسيبا |
على حَرَمِ القَريضِ قَد التَقَينا |
شَباباً ثُمَّ لازَمْناه شيبا |
طَواكَ المَوْت!... لكنْ سَوْفَ تَبْقى |
على آفاقِنا ألَقاً وطيبا! |