حَتَّام أخْنُقُ غَصّاتي وأنْتَظِرُ |
طالَ الطَّريقُ وأوْهَى عَزْمي السَّفَرُ |
جارَتْ عليَّ النَّوى واسْتَنْزَفَتْ كَبِدي |
فكَيِفَ يَضْحَكُ في قَيْثارتي وَتَرُ؟ |
أنَّى التفتُّ رأيْتُ الأٌُفْقَ مُعْتَكِراً |
أفي سَمائيَ أمْ في مُقْلَتي الكَدَرُ |
وَيْحَ الغَريبِ لَكَمْ أغْرَتْهُ بارِقَةٌ |
وكَمْ تَنازَعَه التَطْوافُ والسَّهَرُ |
يَعيشُ في ظُلُماتٍ مِنْ هَواجِسِهِ |
باللهِ هَلْ يستريحُ الواجفُ الوَجِزُ |
نهارُه عَرَقٌ باللَّيْلِ مُتَّصِلٌ |
ولَيْلُهُ سَقَرٌ في إثْره سَقَرُ |
يَغْفُو تُهَدْهِدُه الأحْلامُ زاهيةً |
ويَسْتَفيق فلا يَبْقَى لها أثَرُ |
أضاعَ في الكَدْح والتَّذْكار غُرْبَتَه |
فماتَ حَيَّاً... وكَمْ في مَوْتِهِ عِبَرُ! |
يا شامُ لولا طِلابُ المَجْد ما انْتَثَرتْ |
في الشَرْق والغَرْب هذي الأنْجُمُ الزُّهُرُ |
نادَى فَطَاروا إليه لا يَرُوعُهُم |
ما يُضْمِرُ الغَيْبُ أوْ ما يُعْلِنُ القَدَرُ |
لَمْ تَسْعَ حَيْث سَعَتْ أقدامُهم، قَدَمٌ |
ولا تَسامَى إلى آفاقِهِم نَظَرُ |
كُرْمَى لِعَيْنك ما يَلْقَوْنَ مِنْ خَطَرٍ |
ما هان إلاَّ على مِحْرابك الخطَرُ |
يا شَامُ باسْمِكِ كَمْ غَنَّوا وكَمْ هَزَجُوا |
ويَعْلَمُ اللهُ كَمْ أنُّوا وكَمْ زَفَروا |
شَادُوا على مَلَكوتِ الحُبِّ دَوْلَتَهمِ |
فاخْضَوْضَلَتْ وحَلاَ للقاطِفِ الثَّمَرُ |
تبارَكَ الحُبُّ كَمْ راجَتْ تِجارتُه |
وكَمْ ترفَّع عمّن باسمه اتَّجرُوا |
لَمْ يَهْجُروكِ، بِرَغْم البُعْدِ، ثانيةً |
شَتَّانَ شتَّان مَنْ غابُوا ومَنْ هَجَروا |
لأَنْتِ خَفْقَةُ وَجْدٍ في جَوانِحِهم |
تَخْبُو النُّجومُ ولا تَنْفَكُ تَسْتَعِرُ |
* * * |
فَيْحاءُ يا تَوْأم الفِرْدَوْسِ دُونَكِها |
تَحيَّةً بعَبير الشَوْقِ تأْتَزِرُ |
وأحرَّ قَلْبيَ كَمْ أصْبُو إليكِ وكَمْ |
أطْوي جَناحي على نارٍ ولا شَرَرُ |
أهْوَى تُرابَكِ تِبْراً لا يُقاس به |
تِبْرٌ، وكَيْفَ يُقاس التِبْرُ والمَدَرُ؟ |
أهْوَى سَمَاءَك صاغَ الله أنْجُمَها |
شُقْراً... وأحْلَى الدًّرَاري الأنْجُم الشُّقْرُ |
واهاً على جَدْولٍ في المُنْحَنَى هَذِرٍ |
نَشْوانَ يَسْكَرُ منه البُلْبُلُ الهَذِرُ |
مِياهُه فِضَّةٌ تَجْري على ذَهَبٍ |
مَنْ زانَ قاعَكَ بالإِبريزِ يا نَهَرُ؟ |
الكَوْثَرُ الطَّاهِرُ الرَقْراقُ والدُه |
فلا يُطاوِلْه في الأنْهار مُفْتَخِر
(1)
|
واهاً علَى قَرْيةٍ بالأُفْقِ عالقةٍ |
يَزينُها الفاتِنانِ الدَلُّ والخَفَرُ |
لا هَمَّ يَشْغَلُها لا غَمَّ يَدْخُلُها |
ما دامَ يَمْلَؤُها الإِيمان والسَّمَر |
تَمَسّكَتْ بحبال الله واعْتَصَمَتْ |
بالطَّوْد يَزْلُق عَنْ هاماتِه البَصَرُ |
كأنَّها والدُّجَى يَغْشى نَوافِذَها |
سَفينةٌ تَتَراءى ثُمَّ تَسْتتَرُ |
واهاً على رَبْوةٍ بالحُسْن كاسِيةٍ |
يَزْهو على كلِّ عُشْبٍ عُشْبها النَّضِرُ |
تَرْتادُها الطَيْرُ أسراباً ويَقْصِدُها |
مِنَ المَجانين أو لَيْلاتُهم زُمَرُ |
للصَّيْفِ في ظِلَّها الرَيَّان مُنْتجَعٌ |
وللشتاءِ ومَنْ يَشْتون مُؤتَمرُ |
واهاً... وماذا تُفيدُ الواهُ مُغْتَرباً |
يَكادُ يَفْلَتُ منْ راحاته العُمُرُ |
أخافُ - والشَوْقُ يَطْويني ويَنْشُرُني - |
يَقْضي المَشُوقُ ولا يُقْضَى لَهُ وَطَرُ |
* * * |
قالُوا ولُبْنانُ هَلْ تَنْساهُ؟ قُلْتُ لَهُمْ |
هَيْهاتَ يَنْسَى ليالي عِزَّهُ الوَتَرُ |
لي فيهِ ألْفُ أخٍ طابَتْ شَمائِلُهُ |
وألْفُ أخْتٍ هُمُ الأطْيابُ والزَّهَرُ |
فكَيْفَ يأخُذُني في حُبِّه حَذَرٌ |
إنّ المحبَّةَ مِنْ آفاتها الحَذَرُ |
ذَكَرْتُ ماضيكَ يا لُبْنان فأتَلَقَتْ |
في خاطري صُوَرٌ واسْتَيْقظَتْ صُوَرُ |
هَذي سَرايا العُلى مِنْ شَطِّكَ انْطَلَقَتْ |
تَغْزُو بإيمانِها الدنيا فتَنْتَصِرُ |
لَمْ تَحْمِلِ النِّيرَ للأعناقِ بَلْ حَمَلَتْ |
رِسالةَ النورِ فاسْتَهْدَى بها البَشَرُ |
حُرّيةُ الفِكْر قد أرْسَتْ قوَاعِدَها |
أيام تَرْسُفُ في أغْلالها الفِكَرُ |
بَيْروتُ عاصمةُ التاريخ ما بَرحَتْ |
للشَّرْع مدرسةً تَزْهو با العُصُرُ |
يَأْوي إلى ظِلّها البَاكي فتَحْضِنُه |
ويَنْكُتُ العَهْدَ راجيها فتَغْتَفِرُ |
تُراثُ فِيْنِيْقِيا صانَتْ ذَخائِرَه |
ولَمْ تُفَرِّطْ بما قَدْ خَلَّفتْ مُضَرُ |
ما عَزَّتِ الضّادُ إلاَّ في حِمايَتِها |
هَلْ يَضْحَكُ الحَقْلُ إنْ لَمْ يَسْقِهِ المَطَرُ |
شَمْسُ الحضارةِ مِنْ آفاقِها سَطَعتْ |
إْن كان مِنْ غَيْرها قَدْ أشْرَق القَمَرُ |
طارَتْ على صَهَواتِ الرِّيحِ شُهْرَتُها |
ولا يَزالُ اسْمُها يَنْمو ويَنْتَشِرُ |
* * * |
لُبنانُ يا دُرَّةَ الشَرْقَينِ إنَّ يَداً |
تَمْتَدُ صَوْبَك بالعُدْوان تَنْكَسِرُ |
لَمْ تَعْرِفِ الشَمْسُ أعْلَى مِنْكَ ناصيةً |
فداءُ مَجْدِك – مَهْما عزَّت – الدُّرَرُ |
اللهُ حاميكَ مِنْ غازٍ ومِنْ جَشَعٍ |
فَلْيَعْصِف الهَوْلُ، فالعُقْبى لَمَنْ صَبَروا |
الناسُ عِنْدَك إخْوانٌ، أحَبَّهُم |
لله أسْرَعُهم للعَفْوِ إن قَدَروا |
ما للضَّغينةِ في جَنْبَيْكَ مُتّسعٌ |
ولا مكانَ لمَنْ إنْ عاهَدوا غَدَروا |
حَدِّثْ وحَدِّثْ بما اسْتَنْبَطْتَ مِنْ بِدَعٍ |
إنَّ الكِرامَ إذا ذَكّرتَهم ذَكَروا |
باسْمِ المحَبّةِ خُضْتَ البَحْرَ مِنْ قِدَمٍ |
وباسْمِها سارَ في أعقابكَ الظَّفَرُ |
الأدْعياءُ على ميراثِك اجْتمَعوا |
فازْجُرْهُم بِسياط الحَقِّ يَنْزَجروا |
إنْ فاخَروك بماضٍ مِنْ مآثرِهمْ |
فأنْتَ مُبْتدأ الدنيا وهُمْ خَبَرُ |
وإن تَبَاهَوا بما خَطُّوا وما نَحَتوا |
فالحَرْفُ مِنْكَ، ومِنْكَ الفِكْرُ والحَجَرُ |
بَعَثْتَ قَدْموسَ أستاذاً فعَلَّمهم |
لولاه ما كانَ شيءٌ اسمه حَضَرُ |
بَنَى العُقولَ بلا مَنٍّ وهذّبها |
إنَّ الكريمَ لَيُعْطي ثم يَعْتَذِرُ |
يا جيرةَ الأرْزِ إنْ الأرْزَ رايَتُكُم |
فلا يَلُمَّ به ضَيْمٌ ولا وَضَرُ |
أبْلَى الزمانَ وما زالَتْ ملابِسُهُ |
خَضْراءُ يَسْكَرُ مِنْ أنفاسها السَّحَرُ |
إنِّي لأسمعُ فَخْرَ الدين يأمُرُكم |
بالذَّوْدِ عَنْ حُرُماتِ الدار فائتمروا |
فيئوا إلى نَهْجِهِ يَسْلَمُ لكم وَطَنٌ |
وامْشُو على دَرْبِه تُحْمَدْ لَكُمْ سِيَر |
لأنْتُمُ أُسْرةٌ في الحق واحدةٌ |
فكذِّبوا قَوْلَ هاذٍ إنَّكُم أُسَرُ |
وأنْتُمُ الفئةُ الصُّغْرى، وكَمْ فِئةً |
كُبْرى مُؤَزّرةٍ لَمْ يُجْدِها الكِبَرُ |
ماضيكُم مُشْرِقٌ، فَلْيَزْهُ حاضِرُكُم |
إنَّ الشُّبولَ مِنَ الآساد تَنْحَدِرُ |