للأرْزِ رَبٌّ مِنَ الأخْطار يَحْميه |
فيا عبيدَ الخَنَى لا تَطْمَعوا فيهِ |
وهَلْ يهونُ على آفاقِهِ عَلَمٌ |
لَمْ يَحْنِ هامَتَه إلاَّ لِباريهِ؟ |
أفْنَى الزمانُ شُعوباً عزَّ جانِبُها |
وظلَّ لبنانُ، رَغْم الضَّعْفِ، يُفنيهِ |
تَزُلُّ عنه نِبالُ الكَيْدِ خاسِئةً |
وَيشْتَري لَعْنَة التاريخِ شانيهِ |
كَمْ غاصبٍ ظنَّه سَهْلاً لآكِلِه |
شُلَّتْ يَداهُ ولَم يَبْلُغْ مجانيهِ |
وكَمْ تَنَازَعَ أعْصارٌ شَواطِئَهُ |
ثمَّ استحالَ نَسيماً في رَوابيهِ |
لَمْ يَزْهُ بالصَّارمِ البتّارِ يَرْفَعُه |
على الرقابِ يَؤجُّ الموتَ في فيهِ |
بَلْ بالمحبَّةِ تَسْري في مَلاعِبِه |
فيَعْشُبُ الصَّخْر مِنْ زَهْوٍ ومِنْ تِيهِ |
يُعْطي، ولكِنْ بلا مَنٍّ ولا صَلَفٍ |
ما أقْبَحَ الجودَ، حُبُّ الذاتِ يُمْليه |
إنْ لَمْ تَمُجْ بكُنوزِ التِبْر تُرْبتُه |
فاللهُ عَنْ تُرَّهات الأرْضِ مُغْنيه |
ما زالَ صَوْت "أبي سُعْدَى" يُهيبُ به |
إلى المَعَالي، فلا يأْلُو يُلَبِّيه |
يَكْفيه أنَّ له في كلِّ مُجْتَمَعٍ |
مِنَ المآثِرِ أبْقاهنَّ، يَكْفيهِ |
* * * |
لُبْنانُ لَيْسَ – كما يَدْعونَهُ – جَبَلاً |
تقَاصَرَتْ "حَمَلايا" عَنْ أدانيهِ |
لُبنانُ مَدْرسةٌ للشِعْر وارِفةٌ |
يَفيضُ بالوَحْي باديه وخَافيهِ |
وَهيْكلٌ للنَّدَى والحبِّ مُؤْتَلِقٌ |
ما جَنَّةُ العِزِّ إلاَّ مِنْ أساميهِ |
دَمُ العُروبةِ يَغْلي في جَوانِحِهِ |
وتاجُ فينقِيا يَكْسُو نَواصيهِ |
أبو النُّسورِ يُربِّيها ويُطْلِقُها |
للمَجْدِ، تَرْبُطُ تاليه بماضِيهِ |
ساحَ الجَمالُ فلَمْ يَسْتَهْوه بَلَدٌ |
حتى رآهُ فراعَتْهُ مَغَانيهِ |
فاخْتارَه دونَ أوطانِ الوَرَى وَطَناً |
تَطيبُ حتى على البَلْوى ليَاليهِ |
أُعْجوبةُ الحَرْفِ سَحَّتْ مِنْ عوارِفِهِ |
لَوْلاهُ لَمْ تَخْرُجِ الدُّنْيا مِنْ التِّيه |
لَتَشْهَدُ الضّادُ لمَّا انهار حائِطُها |
أنَّ العِلاجَ أتاها مِنْ مَشَافيهِ |
لَمْ تَلْقَ إلاَّهُ بَيْنَ الأهْلِ "مُعْتَصماً" |
يَحْمي حِماها ولا يَنْفَكُّ يَحْميه |
لِلشَّمسِ بُرْجٌ عَجيبٌ في خَرائِبهِ |
الفَجْرُ يَهْدُمهُ والليلُ يَبْنيهِ |
وللدَّراري على تَلاَّته مَرَحٌ |
آمنتُ بالله ما أحْلَى دَرَاريه! |
فَيْروزُ في تاجِهِ الوَهَّاجِ لؤْلؤةٌ |
أفْدي بأكْثَرَ مِنْ رُوحي لآليهِ |
وأخْطَلُ الشِعْرِ في قَيْثارهِ وَتَرٌ |
غنَّى، فأَسْكَرتِ الدنيا أغانيه |
سارَتْ قَصائِده كالشًّمسِ وانْطَلَقتْ |
تَطْوي الزمانَ وتَسْتَجْلي خَوافيه |
في ظِلِّ أرْزَتِه صاغَ الأميرُ، ولَمْ |
يَكْفُرْ بنِعْمَتِه، أحْلَى قَوافيه |
بشَّتْ له جارةُ الوادي فألْبَسَها |
ثَوْباً مِنَ الشِّعْر لا تَبْلَى مَعانيه |
وشاركَ الفَنُّ في تَخْليد فِتْنَتِها |
فَبُوْرِكَ الفَنُّ ما أسْخَى أياديه! |
يا مَنْ يَعيبُ على قَلْبي صَبابتَه |
هَيْهات عَنْ واجبِ العُرْفان تَثْنيهِ |
أُحبُّ لبنانَ لا خَوْفاً ولا طَمَعاً |
كَرَّمْتُ حُبِيَ عَنْ زَيْفٍ وَتمْويهِ |
لَكِنْ لأنَّ له دَيْناً ولي شَرَفٌ |
يَسومُني أنْ أُسمّيه وأقْضيه |
يُغْرَى اللَّئيمُ بمالٍ أو بغَانيةٍ |
أمّا الكريمُ فبالمعروفِ تُغريه |
نَزَلت مَغْنَاهُ فالتَفَّتْ جَهَابِذةٌ |
حَوْلي تَقَاسَمُ قَلْبي ما يُعانيهِ |
فزالَ غمِّي وما زالَتْ بَشَاشَتُهُم |
تَغْلُو بتَفْريج آلامي وتَرْفيهي |
يا فِتْيَةَ المَجْدِ لا شَلَّ الزمانُ يَداً |
تمرُّ بالطَّلَلِ البالي فتُحْييهِ |
أقولُه، والدَمْعُ في عَيْنيَّ يَشْكُرُكُمِ |
جُرْحُ الشقيقِ، شقيقُ الروح يَشْفيه |
إن يَطْوني البُعْد فالأشواقُ تنشرني |
وإنني نازحٌ لا بُعْدَ يَطْويه |
غلْواءُ أبعدنا عَنْ أيْكِنا قَدَرٌ |
لا يَسْتطيعُ قَويٌّ أن يُقاويهِ |
فلَمْ نَبِتْ ليلةً إلاَّ على مَضَضٍ |
يزْدادُ عندَ طُلوعِ الفَجْر داجيه |
لولا عُيونُكِ غامَ الأفْقُ في نَظَري |
وانْسَدَّ كلُّ طريقٍ في حَواشيهِ |
هَلْ يَعْلَمُ الأهلُ يا غَلْواءُ لَهْفَتَنا |
وَيذْكُرُ العَهْدُ يا غَلْواءُ ناسيهِ؟ |
ما زالَتِ الشامُ في أجْفاننا حُلُماً |
وَيْحَ الغَريبِ متى تُقْضَى أمانيه؟ |
إنْ لَمْ يُتَحْ ليَ قَصْرٌ في رُبَى وطني |
رَضيتُ عنه بقَبْرٍ في بَراريهِ |
* * * |
يا أهْلَ لُبْنانَ لا تَزْهوا بَجَنَّتِكم |
لَنَحْنُ بالروحِ فرْعٌ مِنْ أهاليهِ |
نَهْفُو إليه كما نَهْفُو إلى بَرَدَى |
نَرْتَوي منه، بل بالدَّمْعِ نَرْويهِ |
الشَرْقُ رَغْم اختلاف الدار عائلةٌ |
يَحْلُو لقاضيهِ ما يَحْلُو لدانيهِ |
فسَيِّجوه بسُورٍ مِنْ عَزائمكم |
وأدْرِكوه بنورٍ في دَياجيه |
لا تَفْتَحوه لِشُذّاذِ الوَرَى وَطَناً |
هَلْ يَدْفَعُ الضَيْمَ عن بَيْتٍ حَراميهِ؟ |
مَنْ جاورَ الذِئْبَ فلْيَذْكرْ مخالِبَه |
ما كلُّ ما يُبْطِن الجلاَّدُ يُبديهِ |
كَمْ غَفْلةٍ أثْمَرتْ شَراً لِصاحبها |
ويَقْظةٍ جنَّبتْهُ شَرَّ قاليهِ |
أرَى الجنوبَ يُعاني ألْفَ داهيةٍ |
لا تَتْرُكوه غَريقاً في دَواهيهِ |
السَّيْلُ قَطْرَةُ ماءٍ ثُمَّ تُعْقِبُها |
سَحابةٌ... ثُمَّ تَسْتَشْري نَوازيهِ |
أخْشَى يُؤدي اختلافُ الرأيَ بَيْنكمُ |
إلى ائتِلافِ النَّوايا في أعاديهِ |
فوَحّدوا صَفَّكم تَسْلَمْ كَرامَتُكمُ |
وتَدْفَعوا عَنْ حِماكم شَرَّ غازيه |
عارَكْتُمُ الدَّهْرَ مُنْذُ اشتدَّ ساعِدُه |
فلانَ شامِسُه وانْقادَ عاصيهِ |
أنَّى ذَهَبْتُم زَهَا بالخيرِ سَعْيُكمُ |
وأمْرَعَ القَفْر كاسيهِ وعاريهِ |
على هُداكُم بَنَتْ رُوما حَضَارَتَها |
وأرْشَدُ الناسِ مَنْ لُبْنانُ هاديهِ |
لَمْ تَنْزِلوا بَلَداً إلاَّ لِنُصْرَتِهِ |
لا يَبْلُغُ القَصْدَ مَنْ ساءتْ مَساعيهِ |
مِنْ شَطِّكِم أبْحَرَ العِرْفان وانْطَلَقتْ |
مَثالثُ الشِعْر تَسْتدعي مَثانيهِ |
هذا هو الفَتْحُ تُسْتَجْدَى عَوارِفُه |
ولا يعيَّرُ بَيْن الناس راجيه |
* * * |
اللهُ كَمْ أرْهَقَ التَّطْوافُ أجْنِحَتي |
وأرْخَصَ الشوقُ دَمْعاً كُنْتُ أغليه |
يا جارةَ الأرْزِ لا تَقْسي على كَبَدي |
حَلَفْتُ بالأرْزِ ما يُبكيكِ يبكيه... |