تحيـة |
من فؤاد الشايب إلى زكي قنصل |
ليسَ كثيراً عديدهم أدباء العربية المعاصرين في الأرجنتين. وبوسعي أن أعدَّهم على الأصابع الخمس، أحفاد العصر الذهبي الكبير، لولا أنني الآن مع شعر المهجر في حديقة نزهة، لا في ميدان بحث ودراسة. |
الحديقة هي الشاعر زكي قنصل نفسه، والأزاهير هي هذه الضمة من إنشاده الشعري القومي التي أراد أن يقدمها إلى قرائه بعنوان (نور ونار). أما النور فحق، لأن الشاعر رمز مع تلك الشموس العلوية التي تبعث الحياة والضياء بتقدير الله، وأما النار، فمن منَّا لا ير النار في بيته، وحديقته، في حطبه وخضرته، بل في ثيابه وضلوعه. |
النور؟ إنني لأهزُّ كتفي سخرية عندما لا أعود أرى للنور مشرقاً في هذا العصر البابلي. وما النور اليوم سوى مصابيح مرفوعة على أبراج مشيدة، تحركها مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً، أكف من لا يريدون سوى تزيين الباطل في مدى الرؤية، ونفي الحق إلى سراديب الظلام. أيّ نور هذا الذي ينبعث من الغريب، تزويراً للبيان والهدى والرؤية، وتأكيداً لقدرة العلم على تزييف الضوء وتضليل البصر وإغواء فضيلة المبصرين. |
وأما النار، فأكرم بها من عنصر للطُّهر، عندما لا يعود أيُّ شيء سواها قادراً على محو الإثم والدنس من الأرض، بإشعال يابسها وأخضرها، ودكِّ عاليها على سافلها، إنها النار التي لا توقِدُ هامات الرجال مشاعل ضاربة في حلوكة الليالي، ولا تذيب الحديد والفولاذ لتِقُدَّ منه سيوفاً ومدافع وصواريخ... فحسب، بل أيضاً، تلك النار التي لا تبقي ولا تذر في أمواج دوارها المتصاعد: غالبين ومغلوبين، خاذلين ومخذولين، جزّارين وضحايا. والأرض التي لا يستطيع أن يُجريَ فيها محراثَه صاحبُها، فليرم عليها نارَه. إن الأرض لمن يحرقها.. عندما لا يكون من سبيل إلى بعث الحياة إلاَّ من رمادها. |
إنني أومن بخرافة الفَيْنق الكبير.. أومن بقهر الموت للموت. |
* * * |
مكثت طويلاً في حوار ملتهب مع شعر زكي قنصل، هذا الشعر المكتوي بنار الجَوَى والحنين واللوعة. وعندما كنت أكتب هذه الكلمات في تقديم ديوانه، كنت أستعين بنوره، وأقبس من ناره. وإنه لأعظم من النغم في ديوانه، ما وراءه من أصداء لا سبيل إلى ترجمة موسيقاها كلاماً. والشعر كلام مكبوت، كما أرى أحياناً، يفصح بعضُه عن كله، وظاهره عن ضميره، ليصبح في تصاعده وشوقه تعبيراً عن المستحيل. |
إننا لنقرأ بعض الشعر فنقول انتهى صاحبه إلى هذا. وعندما نقرأ شعراً مثل شعر زكي قنصل لا نلبث أن نقرر: لا يزال لديه الكثير ليقوله. إنه شعر مملوء عافية، وانطلاقاً وطموحاً. ومن رصد نجم الشاعر خلال السنوات العشر الأخيرة، من معاناته الشعرية، عرفه في مراحل متعاقبة من التصاعد والتحليق والتجويد، جَرْياً على سنَّة الأولين من فاتحي العصر الذهبي للأدب العربي في المهاجر، الذين قَدِم معظمهم إلى الأمريكات، بين صبي أُميٍّ، ومراهق عازف ربَاب، أو قائل زجل، فَغَدوا، وهم يصقلون حجارة مأساتهم النادرة في السر وفي العلن، أولئك الذين قلَّدوا الأدب العربي أجمل قلاداته في القرن العشرين. وعندما تُذكر أيدي الفضل على العروبة والعربية في المهاجر، شعوراً وشعراً، يُذكر زكي قنصل وأخوه إلياس قنصل. (والقنصلان الدائمان) كما يلقبان في بوينس أيرس هما من الرعيل الثالث في التعاقب التاريخي، لحقب الأدب العربي في المهاجر الأمريكية. وقيل هما، مع عُصْبة من إخوانهم، شعراء وناثرين، آخر حبات العنقود الذهبي. وعندما أتيح لي أن أعرفهم، في ندوة تضمهم باسم (ندوة الأدب العربي) قلت إنهم ليسوا آخر حبات العنقود، بل عصبة تحدِّي الغروب، يرفعون أكفهم دون الأفق، مع عجلة الزمان، ويقيموا مهرجاناً أدبياً جديداً في سماء العربية. |
بل يجب أن أعترف هنا: أن شمس اللغة العربية دخلت في طَفَلِها المهجري، وكلما زال ابن سبعين أو ثمانين من رجال الجالية، ينقص عدد الذين تفترُّ ثغورهم لسماع العربية نقصاً فادحاً. وإننا لنعدهم عدّاً بأسمائهم، أولئك الذين يحضرون المناسبات الأدبية، ويتمتعون بالإصغاء إلى كلمات شعرية. ولكن الشاعر لا يفطن إلى انزلاق الأرض تحته، وتساقط قرائه حوله، فيستمر ينظم وينشر للعدد القليل فالأقل، في حلقات الندوات أو في الجرائد التي لا تزال تصدر متثاقلة متسكِّعة، ومشتركوها يُفقدون واحداً بعد الآخر، كما تنفرط حبات سبحة عتيقة. |
فإن لم يكن ثمة أمل بإنشاء أجيال جديدة، على حُبِّ اللغة ومعرفتها، فسيرى الشاعر نفسه ذات يوم كفارس خُطِفَ مِنْ على صهوة جواده. إذ علق شعره بأغصان شجرة، وبات يصيح وحيداً في الخلاء بعيداً عن القرية المهجورة. |
كل شيء يسير في منحدر الغروب إلاَّ عصبة من فتيان الشِّعر والنثر في ندوة الأدب العربي، يقفون بقاماتهم المنتصبة بوجه الشمس، ولا يريدون أن ينظروا إلى أشباحهم وراءهم، تتطاول وتمتد كأشباح أرواح هاربة، وإنهم ليعقدون ندواتهم الأدبية كل مساء أربعاء، ويتواصلون مع الأحداث الفكرية العربية، تحليلاً ونقداً، وقد أقاموا مؤخراً مهرجانات لذكرى شوقي. |
وأخيراً فهذه خُصَل من نار حمراء صهباء تخرج من بين أنامل الشاعر قنصل لتقول لنا ببيان ملتهب، ما يشغل عقل الشاعر وقلبه في يومه هذا، ومقامه هنا. وبالحق فإنها لمشاغل كل عربي، مقيم أو مغترب، إزاء الدور الحاسم الذي تقبل عليه أمة كاملة لتلعب ورقة مصيرها في ملتقيات النار والدخان والتراب. |
كل فقرة وتر من هذه الأناشيد، إشادة بالوطن، وترنيمه بهواه، وتسجيعة باكية على نكباته وأوجاعه، وكل انطلاقة أو لفتة أو إشارة منها دعوة إلى التصاعد والتكامل والتفوق، حيث لا تشير وقائع الأحداث إلاَّ إلى كل نكسة مريرة، وهزيمة فادحة. إن الشاعر هنا لا يمرغ جبينه بالتراب أو ينفش شعره نادباً قاذفاً كريهته، وشاحذاً باليأس والأسى قريحته، إنه مؤمن بمصير أمته، وبمجد انتصارها. إنه لا يلتفت إلى مَرْمَى حجر قريب عن يمينه أو شماله، ليسجل نظماً سياسياً يلقي فيه اللوم على حزب ما، أو على سياسةٍ ما، أو على دولةٍ ما، أو على قيادةٍ ما، بل إن النكبة عامة في نظره، والتبعات عامة مثلها. وإن كنا نرى الشاعر في بعض مراراته، يعضُّ على شكيمته ضاجاً بألمه، ويجرح حيث يوجد الجرح فينكؤه، فليس ذلك إلاَّ تعبيراً عن حزن عام، ينظر من خلال أنواره المخنوقة وأعلامه المنكَّسة إلى شعب يثور، وأمة تنهض، وينظر سواه من خلال المشهد نفسه إلى شعب متقهقر وأمة مخذولة، ومصير أسود. |
كَبَوْنا… ولكن ما كَبَتْ عَزَماتُنا. |
ولا مات نورٌ في الجوانح هادِ |
كَبَوْنا لكن لم تُعفَّر جباهُنا |
ولم تتزعزع في النفوس مبادي |
|
أصحيح هذا أم لا؟ |
|