كفى بفضلِكَ نوراً عند ذي كَمَدِ |
أَنْ أَشْمَسَ الليل رغم الهمِّ والنكَدِ |
فيا نَدِيَّ وريقِ الظِلِّ في وطنٍ |
أرادَهُ اللهُ يبقى كالخلودِ ندَي |
مـن بعـضٍ فضلِكَ هـذا الشعـرُ أَنْضـدُهُ |
وكان منذُ ربيعٍ غيرَ مُنْتَضِدِ |
يا غابَةَ الفَضْلِ تُسْقى من مكارِمِها |
غِراسُها من أَبٍ حُرٍّ إلى وَلَدِ |
أَنْزَلْتَني منكَ قلباً شَعَّ من نُسُكٍ |
فبارَكَتْهُ حقولُ النُسْكِ بالرَغَدِ |
مهلاً فَدَيْتُكَ، إني غيرُ مُقْتَدِرٍ |
حَمْلَ الجبالِ وغابات الندى بيدي! |
أَجَلْ تَعِبْتُ وَمَلَّ البحرُ أَشْرِعَتي |
أَلَعْنَةٌ؟ فأَعيشُ السَبْيَ للأَبَدِ؟ |
عطشانُ أَبْحَثُ عن نبعِ يُعَمِّدُني |
بالماء، إنَّ قليبي كالفراتِ صَدِي! |
كلُ النوارسِ قد عادَتْ لساحِلِها |
فما لنورسِ قلبي بعدُ لم يَعُدِ؟ |
يَرودُ بعضُ بُغاثِ البغي من عَسَلٍ |
وغيرَ قَيْحِ صديدِ القهرِ لم أَرُدِ |
أَدُورُ حولَ نواعيري فما وَصَلَتْ |
قوافلي غيرَ بِئْرٍ مُقْفِرٍ حَرِدِ |
تثاقَلَ الفجرُ لم يقربْ لنافذتي |
وَحَوْلَ شُرْفَةِ أهلي سَيْفُ مُرْتَصِدِ |
فيا جَليدَ ليالي النفي كُنْ لَهَباً |
بين العروقِ، ويا نيرانُ فابْتَرِدِي |
يا شَهْقَةَ الضوءِ في قِنْدِيلِ أَزْمِنَةٍ |
خَبَت هناكَ ألا باللهِ فاتَّقِدي |
أنا الغَريقُ بأَمْواهي.. يُمَزِّقُني |
سيفي، وَيَنْهَشُ نابُ الحزنِ من جَسَدي |
لِمَنْ تَفَتَّحَ زهرُ الشوق في مُقَلي |
وَعَرْبَدَ الوجدُ كالطوفان في كَبَدي؟ |
لِمَنْ وُهِبْتُ مياهَ العِشْقِ إنْ شَفَتي |
تَعْيا، وَيُوهِنُ هذا البعدُ من عَضُدي؟ |
بيني وبين حقولِ الرافدين دمٌ |
على الدروبِ، وصحراءٌ من الكَمَدِ! |
حقائبي ضَجِرَتْ مني.. وأَضْجَرَني |
إني أخيط قميصَ النفي في جَلَدِ |
عامٌ وبعضُ حُطامِ العامِ، لا خَبَرٌ |
مِمَّنْ أُحِبُّ، ولا ليلي بِمُبتَعِدِ! |
فإنْ كَتَمْتُ لهيبَ الوجدِ أَحْرَقَني |
وإنْ فَضَحْتُ رأيتُ النارَ في بُرَدِي |
أُنِيخُ قلبي لأحلامي، وما طَرَقَتْ |
إلاَّ وتطرقني الأحلامُ في نَكَدِ!! |
فَيا حطامَ شبابي كيفَ تشفعُ ليْ |
كُهوُلةٌ، ورمادُ العمرِ مِلءَ يدي؟ |
* * * |
وَقِيْلَ ما قيلَ عني.. أنني دَنِفٌ |
عيناهُ من سَهَرٍ: حقلان من رَمَدِ! |
وقيلَ عنيَ مجنونٌ يُؤَرِّقُهُ |
راحُ المدائنِ لا ريحانةُ الرُؤُدِ |
وأنني سندبادٌ دون أَشْرِعَةٍ |
بِحارُهُ دَمْعُهُ لا مَوْجَة الزَبَدِ! |
وكافرٌ بنعيمٍ كان يمكنني |
أنْ أَجْتنيهِ بمدحِ "القائِد" الوَغِدِ |
وكنتُ أَحْسَبُني طفلاً، إذا ركضتْ |
بيَ السنونُ: أتاني طائرُ السَعَدِ |
جَلَسْتُ أَنْبِشُ أيامي، أَمَعْصِيَةٌ؟ |
وهل على بُرْدَتي البيضاءَ مِنْ سَوَدِ؟ |
إني سأَلْتُكَ غفراناً، فما عرفَتْ |
عينايَ موبِقَةً أو جُرْمَ مُفْتَسِدِ! |
وكنتُ منذُ ربيعِ العمرِ مُنْغَرِساً |
جذراً بظلمةِ كَهْفٍ مرعبٍ صَلِدِ |
وإذْ خرجتُ: فلا طفلي ولا أَبَتي |
سوى حقولِ جراحاتٍ بلا ضَمَدِ! |
وكان شكلُ رغيفِ الخبزِ – من سغبٍ – |
نجماً من الطينِ في سَقْفٍ بلا وَتَدِ! |
وليسَ أَظْلَمَ من أَرْضٍ مَنَحْتُ لها |
زهرَ الشبابِ، ولم تمنحْ سوى صَفَدِ! |
* * * |
سأَلْتُكِ العفوَ يا أماهُ عن وَلَدٍ |
ما خانَ ثَديَكِ لا غابَ عن عَمَدِ! |
ويا تَقِيَّةُ صَفْحاً ثُمَّ مَعْذَرةً |
فَنَزْفُ جُرْحِكِ من عيني ومن كبدي |
جـارَ اللئامُ – وما جار الزمانُ – وَقَدْ |
أبى وليدُكِ كُفْراناً بِمُعْتَقَدِ |
إني أُقايضُ باقي العمرِ أَجْمَعَهُ |
بساعتين قُبَيْلَ النومِ في اللَحِدِ!! |
فيا دوارسُ: مني شَوْقُ مُغْتَرِبٍ |
ضُمِّي لصدرِ أبي – في رِقَّةٍ – وَلَدي! |
لكِ السلامُ قبورَ الأهلِ قاطبةً |
تَنَعَّمي برياضِ الواحدِ الأَحَدِ |
أكادُ حتى رُفاةُ الميتِ أحْسِدُهُ |
غَداةَ يملكُ أرضَ القبرِ في بَلَدي! |
أَعَدَّ ليْ وطني لمَّا فُتِنْتُ بهِ |
سيفين قَدْ شَهَقا جيلين في جسدي! |
أُصَبِّرُ الروحَ: يا روحي اصبري فَلَنا |
وعدٌ مع المُرتَجَى والمَنْهَلِ الغَرِدِ |
وإنَّ مَنْ رَحَلوا عنّا سَتَجْمَعُنا |
إليهمُ بعدَ حينٍ دارةُ الصَّمَدِ! |
* * * |
خَبا الوِجاقُ.. فلا أُخْتٌ لِتُسْجرَهُ |
ولا العجوزُ، وَجَمْري غيرُ مُنْخَمِدِ! |
وأَعْجَبُ العَجَبِ المفضوحِ في وطني |
أَنَّ المُشَرَّدَ أَضْحى مَوْضِعَ الحَسَدِ!!! |
تَرَكْتُ "دجلةُ" يعوي في خرائبِها |
كلبٌ، وَتَمْرَعُ ذِئبانٌ بلا عَدَدِ |
فما جَلَسْتُ إلى شُطآنها غَرِداً |
إلاَّ وَيَسْبقني نحو العذابِ غَدي! |
تَمَخَّضَ الرِجْسُ يوماً في مرابعها |
فَلَيْتَ "صَبْحَةَ" لم تَخْصَبْ ولم تَلِدِ
(1)
|
فيا كريمَ عشيرِ الحرفِ: شَرَّفني |
منكَ السؤالُ عن المحزونِ للأبدِ |
ويا أديبَ عشيرِ الجودِ: في مُقَلي |
شكرٌ، وفي خافقي شكرٌ، وفي خَلَدي |
أبا الفضائِلِ عذراً، إنَّ قافيتي |
تَعْيا، ويخذلني حرفي فلم أُجِدِ |
فيا مَسَرَّةُ: كوني زادَهُ أبداً |
ويا نعيمُ: أَقِمْ في دارِهِ وَزِدِ |
ويا ضياءُ: اسْتَحِمْ في روضِ مُقْلَتِهِ |
ويا نجومُ: على شُبّاكِهِ احْتَشِدي |
للهِ دُرُّكَ.. تبقى زادَ قافيتي |
إنْ أَعْسَرَ البحرُ؟ تبقى بحر مُقْتَصَدي |
كفى بفضلِكَ نوراً، لم يَعُدْ رَمَدٌ |
في مُقْلَتَيَّ، ولا قلبي بِمُنْتَكِدِ! |
* * * |