شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثالثاً: الوحْدَة الموضوعيَّة
نجد في كل ما قدمناه من الملاحم الشعرية والشواهد التي وقفنا عندها، أن الفكر يغلب على شاعرية بلخير، أي إن المضمون يفيض عن أفكار غزيرة.. فتنهال عليه المعاني المتتالية، فتتواكب -في كثير من الأحيان- في وحدة عضوية لا انفصام في أجزائها ودقائقها، تسير في خط واضح.. لذا فيبدو لنا مسارها متألقاً، تنتهي إلى النهاية، بعد أن استنفد كل أفكاره ومعانيه إزاء موضوعه الرئيس. وليس معنى ذلك أن بلخير لا يعير أهمية للشاعرية والإِبداع الفني، بل هو يوظف وجدانه ولغته وصياغته في إلباس معانيه شكلاً منسجماً مع فكره وثقافته وتراثه وعصره.. وحتى لتتداخل جذوره الثقافية والتراثية في تجاربه ومعاناته ورؤيته المعاصرة. فيخرج الشعر من أعماقه مزيجاً جميلاً من الشعر التراثي الأصيل، والمعاناة الفردية والجماعيـة المعاصرة، أي يعبـر عن المضمون، أو الموضوع الجديد بصياغة مألوفة للأذن العربية، وبشكل قديم، حتى ليؤكد للسامع والقارئ أن صورة الشعر العربي القديم ما زالت قادرة على استيعاب جُل الموضوعات المعاصرة، والتجارب الذاتية والوجدانية والإِنسانية.
ولو وقفنا عند قصيدة بلخير [ركبت الهوا من أجل عينيك] التي نشرتها له مجلة "الفيصل" (1) لوجدنا الكثير مما نحن بصدده. فالتجربة ذاتية، بل مغرقة في الذاتية، ومع ذلك فإننا نراها تذوب في تجربة أوسع، ومعاناة أشمل وأعم.. تذوب في التجربة العربية الكبرى.
فنطالع في مقدمة القصيدة، أو مناسبتها، ما تقوله المجلة من أنه "بعد عزوف عن ركوب الطائرات عشرين عاماً، جاء موسم تخرج طلاب الماجستير في جامعة (كورنيل) بمدينة (أثيكا) في ولاية نيويورك بأمريكا، حيث كان موعد تخرج ابنه الأستاذ المهندس سبأ عبد الله بلخير من تلك الجامعة في الهندسة والاقتصاد.. فركب الأب الشاعر الهوا في طريقه لحضور حفل تخرج ابنه، فكانت قصة هذه الرحلة... ".
والقصيدة طويلة -ومن البحر الطويل- وتبلغ أربعة وسبعين بيتاً، موزعة على عشرة مقاطع. وليس تقسيم القصيدة إلى تلك المقاطع غير فسحة للقارئ، كي يستروح قليلاً من آن لآخر، ويتابع جولته الشعرية مع عبد الله بلخير، في رحلة متكاملة شائقة.. وتتعانق -من خلال تلك المقاطع- ثقافة الشاعر العربية والدينية، بأحاسيسه ومشاعره الوطنية والعربية والإِسلامية والوجدانية، بصوره الشعرية القديمة والحديثة.
فنقرأ في المقطع الأول صورة الشاعر، وقد حمل -وهو في الجوزاء- حبه الكبير لولده.. ومن أجله ركب الهواء على (براق) من حديد، ومن الأماكن المقدسة إلى أمريكا، فيسترسل ويفيض لنا عن وصف ذلك البراق، قائلاً:
ركبت الهوا من أجل عينيك والعلى
جدير بها أن أركب الجو والبحرا
سرى بي (بُراقٌ) من حديد مجنحٌ
ترجُّ جناحاه (المجرة)، و (الشعرا)
يقود جناحيه عُقَابٌ محلِّقٌ
من (العرب) يطوي البحر والجو والبرا
سرى بي من (البيت الحرام) كأنه
شهاب تعالى يقذف النار والجمرا
سرى بي إلى (الدنيا الجديدة)، والهوى
يسابقه، فاضت به كبد حرّى
يسابق نورَ الشمس، وهي تخُبُّ في
أشعتها، للغرب، تنشرهـا، نشرا
على رفرفٍ رفَّتْ جناحاه! يرجُفُ الـ
فضاء به خفقاً، ويسعره سعرا
إذا انساب ما بين النجوم يكاد أن
يُذيبَ سناها، ثم يعصره عصرا
وفي المقطع الثاني يقف الشاعر عند هوية طائرته التي يمتطيها، فيجدها (سعودية) تحمل شعار المملكة: (لا إله إلاَّ الله)، وكأن الشاعر يستمـد من ذلك الشعار الأمان والثقة وطرد الخوف والوساوس الشيطانية التي كثيراً ما تخامر نفس المسافر عبر الأجواء السماوية حتى نحس مع الشاعر أخيراً بقدرة العلم على إبطال فاعلية السحر:
(سعوديةٌ) سلطانها في جلالها
إذا ما سرت يحلو لركبانها المسرى
بها (كلمة التوحيد)، عوذةُ عايذٍ
بحافظ (مرساها) على القاع و(المجرى)
تخاف (عفاريت) السماوات نورَها
فتُصعَقُ منه، حين يملؤها ذُعرا
ويحرقها حرُّ اللظى من شواظِها
إذا استرقتْ سمعاً، أو استنكرتْ ذِكراً
أو استكبرتْ عن أن تسبِّح باسمه
وتسجُدَ للعلم الذي يُبطِلُ السِّحرا
وإذا كان الشاعر في المقطع الثاني قد وقف بنا عند هوية الطائرة السعودية، فإنه في المقطع الثالث، يقف بنا عند هوية قادة ذلك الطيران.. وإذ هم شباب من الصقور العربية، يمتلكون قدرة عجيبة على قيادة طائراتهم، وما توصل إليه العلم في ذلك الاختراع الهائل، فيسمعنا شعراً يتمم وصف رحلته.. لذلك نراه يدخل إلى قائد إدارتها ومعرفة أسرارها: وقادة (الجنبو) كلهم سعوديون من أبناء الجزيرة.
صقور شباب العرب، في الجو حلقوا
لهم في السموات الطباق بها مسرى
يجوبون أجواء الفضاء كأنهم
أشعة شمس، حينما انتشرت ظُهرا
على كل رعَّادِ الجناحين ناره
لهيبُ البراكين، التي زفرت زفرا
رأيت فتى منهم يقود (بُراقنا)
كأن بكفَّيه، وقد قاده سحرا
تعالى على (جنبو)، تدمدم تحته
كما الرعد، فيها العلم تحمله وقرا
تطاول من فوق السحاب جناحهُ
يميل به يُمنىً ويهوي به يُسرى
تعالى، إلى أن كاد يستلم السما
وينثر منها النيرات بها نثرا
دخلت عليه في عرين قياده
فألفيته من خلف مقوده صقرا
تحيط به الآلات والليل مظلم
تحيِّرُ من لا يدر من أمرها أمرا
تدب دبيب النحل فيها عقارب
تراءت بها خضرا وحمراء أو صفرا
محاجرها غصَّت بها في وميضها
تضيء كأضواء الحُباحِب في صحرا
يدور عليها طرفه متفحصاً
ويرنو إلى (الرادار) وهو به أدرى
يُريه زوايا الأرض وهو مرفرف
عليها، ودنيا من عوالمها الأخرى
وتأخذ الشاعر روعة المشهد، فينتابه الاعتزاز بفتاه، قائد الطائرة، ابن بلده وقومه وأمته.. وقد أثبت جدارته في قيادة الطائرة الجبارة المحلقة فوق السحاب.
ويروح الشاعر في حديث ودي معه، وحوار يمتلىء بالمعاني الموحية، لذاك الفتى الذي يمثل الإِنسان العربي في الجزيرة العربية، في بدوها وحضرها.. ويمثل الأصالة العربية، والجذور العميقة للأرض والبادية والصحراء التي تصقل النفوس وتنمي المواهب والقدرات. فتجيء المدارس العلمية الحديثة تجسيداً لتلك المواهب والقدرات.. فينطلق العربي عبر العلم رائداً للفضاء الهائل، ومؤشراً ودليلاً للقوة العربية ووحدتها. كما نلمح في ذلك المقطع بعض الأبيات التي تبرز الأصالة العربية وجوهرها من خلال الصحراء وسفينتها المتمثلة ببعيرها. وكأن من يجيد فن قيادة (بعير الصحراء) لا يصعب عليه قيادة (بعير الجو) أو أن بدوي الصحراء قد يحطم كل ما تعارف عليه من عدم انسجام ومفارقات مع العصر ومنجزاته العلمية، وليؤكد أنَّ البادية أو الصحراء لا تتعارض مع العلم الحديث.. وإنه لائتلاف جميل زيَّنه لنا الشاعر في صورة متناسقة أخّاذة ولا سيَّما أن القصيدة قيلت بدافع علمي:
فتىً من بلادي، وابن قومي، وأمتي
ألا سلمت أمٌ، سقته العلى دَرّا
أسائله: ممن فتانا؟ فقال لي
بزهوٍ: من (البدو) الألى غلبوا (الحضرا)
فقلت: أمن عدنان؟ قال: أنا أنتمي
إلى كل فخذ في (جزيرتنا) الخضرا
وسيان عندي (البدو) و (الحضر) كلهم
قبيلي، أمن (قحطان) أم (مضر الحمرا)
أنا حضري الدار، لكن مولدي
بإحدى الرمال السافيات من الغبرا
لجدي على كثبانها الحمر خيمةٌ
ترُفُّ بها أطنابها، الصبح، والعصرا
يُشبُّ بها (نارَ القِرى) فيؤُمُّها
السُّراةُ، فيلقون الكرامة والبِشرا
درجنا بها نحبو ونمشي، سراجنا
بها نارُ جدي في مفازاتها القفرا
إلى أن تلقتنا (المدارسُ) في القُرى
بأنوارها أمست بداوتُنا تقرا
ومن ثم سالتْ بـ (الرعاة) مناكب (الـ
جزيرة)، نحو (الجامعات)، بهم تتري
يغُبُّون من (نور الحياة)، وها أنا
مثال (فتى العصر) الذي تنجب (الصحرا)
رُويت من (العلم) الذي فاض خيره
على (العُرب)، حتى أصبحت أرضهم خضرا
وأخرجهم للنور، من ظُلَم الدُّجا
وأبدلهم من بعد عُسرهم، يُسرا
فأصبحتُ (طياراً) وقد كان (والدي)
و (جدي) (جَمَّالَيْن)، في عيشة عُسرى
أقود (بعير الجو) وهو كما ترى
(بُراقي) الذي يسري، (فسبحان من أسرى)
فأطوي به في ساعة ما بمثلها
تجوب المطايا، من مفازاتها شهرا
أهزُّ به (أرض العروبة) كلها
فتصحو، وتمشي نحو (وحدتنا الكبرى)
وتبلغ مشاعر الزهو والاعتزاز قمتها عند شاعرنا بلخير، فتهز عواطفه حباً لذاك الفتى الطيار، ويمور كيانه ووجدانه إعجاباً به وبأهله وبلده وأرضه التي أنجبته.
ويتابع بنا الرحلة -أو القصة المتكاملة- عبر طائرته التي اجتازت به الجزيرة العربية، وآسيا الصغرى، وجبال الألب، والمحيط الأطلسي.. حتى نيويورك، ومن ثم نهاية المطاف والنزول في (كورنيل) وبها جامعتها التي جاء لحضور حفل تخرج ابنه منها:
تبسمتُ مزهواً بما قاله الفتى
وهزَّ كياني، ما أشاد به ذكرا
وكدت من الشجو الذي قد أثاره
أقبل، في عرنينه، البدو، والحضرا
رأيت به (صقراً) سرى بي محلقاً
من (أم القرى) يطوي بنا السهل والوعرا
طوى من شماريخ (السراة) هضابها
وألوى بما قد طال من (آسيا الصغرى)
وزمجر فوق (الألب) تهتز تحته الـ
ـذرى، وهو من علياه يرمقها شزرا
ومال بنا فوق المحيط فجازه
كأنسام فجر، لا يُحسُّ لها إسرا
وحطَّ على (نيويورك) كالريح إذ جرتْ
على الماء رهواً، لا يُحَسُّ لها مجرى
وأمستْ ربى (كورنيل) مِنَّا كأنها
من (أم القرى)، وادي (الحَوية) أو (شبرا)
نزلنا بها كالمُزن لامس روضةً
ففاحت بها أزهارُ أغصانها عِطرا
ثم يصف لنا حفلة التخرج، ولما يشاهد ابنه بعد، وكيف راح يقلب طرفه في الجموع إلى أن يراه وقد تسلم شهادته، ويومىء ولده إليه بالشهادة، ويحييه من بعد. فتهيج العواطف وتمس سويداء قلبه وتسكره:
و (كورنيلُ)، في (حفل التخرج)، موسمٌ
إليه بدا (معراجنا)، وله (الإِسرا)
تجمع فيه (الناجحون)، كأنهم
بـ (أروابهم) لما أطلّوا به فجرا
مشوا في جموع كالمجرة أشرقت
بهم، جنبات الحفل، قد نفروا نفرا
فقلبتُ طرفي في الجموع لعلني
أرى (ابنيَ) فيهم، من أساريره السمرا
فلاحَ لنا عالي الجبين، تماوجت
(ذؤابته)، من حول جبهته الغَرّا
يسير كما سار (اللِّوا) في جحافلٍ
أو (البدر) يسري بين أنجمه الزهرا
تحفُّ به الأنظار ترنو قريرة
إليه، فيزهو (والداهُ) بها شُكرا
تَسلَّم من يُمنى (الرئيس) (شهادة الــ
نجاح)، وأومى لي بها، وبها (البشرى)
وأحنى جبيناً، كالتحية، مومياً
إليَّ بها، فضتْ ملامِحُها بِرَّا
فمسَّت عُرى قلبي، فهاجت عواطفي
فأمست (سويداء الفؤاد) بها سَكرى
وتفيض العواطف من جديد، حين يصفق له، ويكون اللقاء، والأم الزوجة بجانبه تجهش بالبكاء من فرط فرحتها وروعة لقائها به.. وتكون الفرحة الكبرى:
فيا من رأى قلباً يصفق لابنه
وعينين تبكي في مسرتها، كبرا
ترنحتُ أمشي نحوه باسطاً له
ذراعي في زهو، أتيه به فخرا
أضمُّ على قلبي حناياه لاثماً
بمفرقه ما قد تعالى به قدرا
وأجهشتِ (الأم الحنون) بجانبي
ولم تستطع من عظم فرحتها صبرا
فأسبلتِ الدمعَ الغزير، وقلبها
يصفق من فرط الجوى ومن الذكرى
فمَنْ مثلَهَا في الأمهات، فإنه
ليوم مناها، يوم فرحتها الكبرى
وينفرد الأب الشاعر في تحليل مشاعره وعواطفه إزاء ولده.. فتنبجس لنا منه أرق وأصفى ما في أعماق الشاعر من حب وزهو وفخر وإعجاب.. إذ يرى فيه معنى الرجولة، وملامح المجد المنتظر. وكما أصيب -قبل ذلك- بالزهو من مشاهداته للفتى الصقر العربي.. كذلك هنا، حين يرى ابنه -ابن العشرين- وقد جدد فيه عمره وشبابه:
فيا سبأي (2) ، يا من ملأت جوانحي
ضياءً، ويا من قد جبرت بها كسرا
ويا من تهادى في الصفوف كأنه
وقد سار فيها، في كواكبها، بدراً
‌رفعتَ جبيني، يوم أعليت هامتي
وزدتَ على عمري المُقَدَّر لي عُمرا
وأنت على (العشرين) ما زال عابقاً
عليك ندى فجر الحياة بها نشرا
تحث الخطى نحو الرجولة وهي في
محياك للمجد الجدير به (طفرى)
وتنتهي قصيدته أو رحلته، بعد أن أعاد علينا من جديد المطلع الذي كان يلخص حبه لولده وللعلياء.. ومن أجلهما يقطع المسافات والمحيطات، ويجشم نفسه الأهوال والأخطار، كي يحظى بمشهد قلما يتكرر:
ركبتُ الهوا من أجل عينيك والعلى
جدير بها أن أركب الجو والبحرا
ولم نورد القصيدة بكاملها إلاَّ لنتعرف على الفكرة أو الموضوع، أو التجربة الشعرية لدى شاعرنا بلخير، وكيف تمر عبر وجدانه وفكره بصورة فنية متسلسلة آسرة وقد استحالت تلك الوحدة الموضوعية عنده: إلى عمل قصصي متكامل أضافت أبعاداً أخرى إلى شاعرية بلخير، وروحاً جديدة لشخصيته الشعرية والعربية.. أبرزها القلب الكبير المشحون بالطاقات والرؤى والعواطف الدينية والعربية والوطنية والإِنسانية والوجدانية.. والمقدرة على صياغتها شعراً عربياً وذاتياً أصيلاً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :569  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 33 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج