شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثانياً: الشَّاعِريَّة
تبدو لنا شاعرية عبد الله بلخير، في توظيفه لكل ما يقوى عليه من أساليب بلاغية مستحبة عبر تصويره والتقاطه المعاني العامة والجزئية، الدقيقة والشاردة.. جميعها تتوارد لتصب في غرضه العام الذي يقف منه موقفاً جاداً وملتزماً ومسؤولاً جليلاً. كما أنه يبذل قصارى جهده الشعري والإِبداعي في انتقاء الألفاظ والمعاني والصور والأخيلة.. كي يولد شعراً يليق بالمناسبة والفكرة والموضوع.
ولقد تضافرت عوامل جمة في تكوين شاعرية بلخير، نجملها بالمعاني التالية:
أولاً- المنبر الشعري: جُلَّ شعر عبد الله بلخير قاله من على المنبر الملكي والمجلس الأدبي.. أي نظمه في قادة البلاد، وقادة الفكر.. في المناسبات الملكية، والأدبية، والدينية. فكان يجوِّد شعره بالصقل والسبك، وباختيار اللفظ الجزل الفخم الرصين.. كي يحوز رضى وإعجاب ولياقة المقام.. الذي هو دائماً منبره، وليمنح شعره لقب: [أدب الملوك أو الشعر الأرستقراطي]، وليصبح اسم الشاعر يتكرر مع الثنائية الشاخصة في تاريخ الأدب ألا وهي: النابغة والنعمان، أبو تمام والمعتصم، المتنبي وسيف الدولة، أحمد شوقي والخديوي، عبد الله بلخير وعبد العزيز.
وإن الشاعر ليؤكد -من خلال المنبر في تمجيد مآثر العظام- أن الاهتمام بالملوك والنخبة الفكرية لهو تجسيد لكل الطاقات المادية والروحية والوجدانية التي تكمن في ضمير الأمة، وأن الفرد المثال هو خلاصة وروح الأمة في حضارتها وأمجادها وتراثها وفكرها كما ذكرنا سابقاً.
ثانياً- أعلام الشخصيات والبلدان (الشعر والتاريخ): إن كل قصيدة من قصائد الشاعر بلخير تشكل مكتبة معارف زاخرة، لأن معارفه التاريخية والجغرافية والأدبية تفيض بالأعلام والحقائق، وأعلامه ليست أسماء وكلمات جافة محنطة، بل هي رموز ودلالات مجنحة، ترفد شعره دائماً بدفقات وإيحاءات شعورية. وحين يرصع شعره بتلك المعارف العَلَمية، فإنما هو تطعيم الفكر بالوجدان، والذهن بالشعور، والموضوع بالرؤى وعندها يمتلك شعره العقل والقلب. ومهما حاول الشاعر أن يقرب لقارئه معاني أعلامه التاريخية والجغرافية والدينية والأدبية.. بالشرح المبسط في بعض هوامشه، إلاَّ أنها عملية لا تفي بالغرض العام، فيظل القارىء الجاهل لعالم الشاعر التاريخي السحيق، ولتجربته الشعرية الأصيلة.. يظل خارج فعّالية شاعرنا وأجوائه الرحبة المشرقة. لأن الشاعر عبد الله بلخير يتعامل مع شعره -وبخاصة التاريخي الملحمي- من خلال نبش التاريخ، والبحث عن الأحداث والشخصيات والأمكنة التي كانت تاجاً متألقاً في غرة العصر والعالم والحضارة، وإحياء ذلك التاريخ يتطلب منه قوة خارقة في تقمص معالم الأمكنة الجامدة الخرساء.. وقد ترك الأشخاص فيها نبضاً وحيوية ودماً وحياة.. فكان حين يحيي مكاناً، إنما يحيي تاريخاً حافلاً بالأحداث البطولية الشريفة الفريدة.
وليس معنى ذلك أن شاعرنا لا يحتفي إلاَّ بالشخصيات التاريخية الفذَّة التي صنعت أمجاد العرب والمسلمين وملاحمها البطولية، وهم يصارعون ويقارعون الأعداء من مشركين وجهلة، وفرس وروم وفرنج.. وإنما هو حريص -في الوقت نفسه- على تأكيد استمرار عظمة الأعلام، بكل فئاتها واختصاصها وأعمالها، أي إن أعار أهمية لأعلام التاريخ البطولي الملحمي، فإنه -بذات الاهتمام- يتجه إلى أعلام الفكر والأدب والشعر والفن.. فكان ميدانه التاريخي فسيحاً رحباً يتسع لكل أعلام العرب والمسلمين في مختلف إنجازاتهم الحضارية -في العلم والأدب- وانتصاراتهم الحربية. فكأن الملاحم لديه هي بعث التاريخ من جديد، بكل صوره وأحداثه وأمكنته ومظاهره.. ودلالاته الروحية والمادية.
ولذلك فقد استطاع بلخير أن يوظف الشعر في ملاحم التاريخ، فكان جُـلَّ شعره -قصائد ومطولات وملاحم- يكرع ويعب على نحو ما من منهل التاريخ حقائق وأحداث ومعلومات لا يعرفها إلاَّ المؤرخون والمثقفون ودارسو التاريخ..
فاستطاع بلخير أن يجعلنا نقرأ التاريخ بروح شعرية.. استطاع أن يجعلنا نقلب صفحات التاريخ، ونقرأ أمجاد العرب وبطولاتهم وحضارتهم وحياتهم الفكرية والأدبية والدينية من خلال قصائده وملاحمه، فكان جديراً بلقب: المؤرخ الشاعر بحق.
ثالثاً- الذاتية وتعامله مع الأعلام: إن الذاتية من أبرز مصادر شاعرية عبد الله بلخير.. وإن تعامله ومعاناته وتجاربه الشخصية مع أعلام البيئة والأمكنة والناس والتاريخ.. لتجعل نفسه تشف عن بريق ذاتي يفيض بالحرارة والمشاعر والذكريات. وإن الشاعر حينما يلهج بأعلامه ينطلق من موقف ذاتي ذي وجهين: الأول هو ارتباطه بالأعلام ارتباطاً روحياً ووجدانياً وذاتياً.. بما يعلق في ذهنه، ويوحيه من آثار الماضي والتاريخ القديم بكل معانيه وإشراقه، والتاريخ الحديث بذكرياته ومعاناة جميع مراحل حياته التي لما تنسَ بعد من ذاكرته. والثاني هو انبثاقه من حرارة المناسبة وانفعاله بها، فلا يجد سوى الماضي -البعيد والقريب- مسرحاً تستريح فيه روحه، وتمتص كل حرارته وانفعاله.. ليجيء شعره أخيراً معبراً بصدق وأصالة عن الوجهين، متغلغلاً في جذور الماضي، ممتداً في أعماق الأجيال، منتهياً في ضمير الأمة. ومن هنا قلنا إن شعر عبد الله بلخير تتسع دائرته لتستغرق الإِنسان العربي لأنه يتعامل مع تلك الأعلام وبخاصة أماكن البلدان، بروح الحب والحس القومي، ومنه نال حب شعوب تلك البلدان، وقد لمسنا الكثير مما نحن بصدده في شواهد سابقة. ولكن قصيدته (ذكريات يفوح بها أريج مكة وعبير الرياض) (1) تبرز ذاتيته بشكل أوضح. ومنذ مناسبتها (المقدمة) النثرية وحتى البيت الرابع والتسعين، (آخر بيت فيها) تشرق روحه، وتشتعل عواطفه، وتتألق شاعريته. فتنقل إلينا عدوى انفعاله وذاتيته من خلال أحلى الذكريات، وأصدق الأحاسيس، وأرق المشاعر.. فلا نملك إلا أن نلتصق به التصاقاً عفوياً رائعاً.. إذ عاد تواً من رحلة طويلة في أوروبا إلى القاهرة، والتلفاز يرجز بصوت صديقه الشاعر أحمد الغزاوي بين يدي الملك قصيدة موسم الحج.. فتتفجر شاعريته):
سمعت صوتك في بيتي المطل على
أهرام مصر ومجرى نيلها الجاري
سرى من (أم القرى) كالبرق أشرقت الـ
ـدنيا به، في ثوانٍ ذات أسحار
فلحت في شاشة التلفاز مرتجزاً
حولية الحج طيفاً مرقصاً ساري
يلوح منها عبير (أم القرى) وروا
بي (طيبة) وشذا (نعمان) في داري
فكدت أمشي إلى التلفاز أحضنه
شوقاً وألثم فيه طيفك الساري
وفاض ما غاض من شعري وكنت ولا
تزال ملهم أفكاري وأشعاري
ورنحتني رؤى لاحت على عجل
تموج ملء أحاسيسي وأفكاري
واحـر قلباه للذكرى تجيش بها
خواطري وفؤادي الخانق الواري
أكاد أصغي إليها كالصدى بعدت
أغواره في ثنايا بئر أو غار
فيها من أنفاس (نجد) حينما عبقت
بها قوافيك مثل الندا في النار
شممت فيها شبابي في (الرياض) فيا
ذكرى (الرياض) وأيامي وتذكاري
ربيع عمري بنجدٍ كله عبق
بذكريات تغني والهوى ساري
هذه هي الشاعرية العفوية التي تفيض شعراً ذاتياً خالداً، يجرنا -بالرغم عنا- إلى أجوائه. وكان قلبه وما ينبض به من حب متأرجحاً بين (نجد) و (مكة). فبعد أن امتلأنا بعبير (الرياض) وتحسسنا دفء الأعماق، واهتززنا بخلجات العواطف. يجرنا من جديد إلى مكة لنشم معه أريجها، ونعيش ذكرياته وأيامه التي عاشها شاخصة ملء السمع والبصر والروح والوجدان. ولنبسمُ معه في عالم الطفولة والبراءة والمثل والدين، من خلال رؤيته وذاتيته فيستمر في مناجاته لزميله الشاعر أحمد الغزاوي:
الذكريات أهاجتني وأنت بها
في (حارة الباب) من (أم القرى) الداري
والذكريات عبير العمر يعبق في
أيامه، وليالي مده الجاري
لي في (الشبيكة) عهد لا أزال به
صباً ففيه صباباتي وأخباري
أضاء فجر حياتي في (أزقتها)
ولا يزال بها قلبي وآثاري
في كل شبر تراب في (ملاعبها)
ذكرى ترفرف في سمعي وأنظاري
لم تنسنيها روابي (النيل) وهي هنا
جناين الأرض من حور وأزهار
بكل (حفنة رمل) من محصبها
لا أشتري (لندن) الغنا ولا (باري)
درجت في (برحة المحجوب) أحسبها
دنيا الورى ذات أقطار وأمصار
إذا النوى طوحت بي (للحجون) بدت
لي (مكة) ذات أبعاد وأسفار
وطالما قمت في (الماحي) (2) مكبرة
خلفي صفوف تراويح وأذكار
يؤمها (ابن ثمان) فـي عمامتـه
إذا تلا (الجزو) كان الحافظ القاري
فتظل الذاتية في شعر عبد الله بلخير مغرقة بما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس وخلجات ذاتية، وتجارب شخصية.. ومصدر تدفق شعري مثير ومحبب بحيث تبدو نفسه شغوفة نرى كل ما سكن فيها من حب ونقاء وأصالة وذكريات.
رابعاً- أساليب بلاغية: ومما يخصب شاعرية عبد الله بلخير، اعتماده على أساليب بلاغية متعددة في إبداعه وتوليده الصور الشعرية وبنائه الجملة العربية الحصيفة، وتزويقه المحسنات البديعية والأشكال الجمالية.
وتتكون الصورة الأدبية لديه من مزج وحشد معاني البيئة والتراث والثقافة والذاتية والانكفاء على مخزن الذاكرة، وتتوج أخيراً بالأصالة والحرارة والصدق.. وتتماوج بشكل فني بديع.. وقد مرت معنا لطائف كثيرة لذلك النمط، وهي أكثر من أن تحصى أي إن عناصر تكوين الصورة الأدبية لدى الشاعر مستمدة من البيئة الصحراوية، والتراث الشعبي، والبيئة الدينية، وبخاصة أجواء مكة والمدينة والرياض.. وقد يغرق في المحلية المكية -بما يعيشه الفتيان والشيوخ تحت ظلال أم القرى وحرمها- وإنها لمحلية ذات مدلول وإيحاء روحي وديني تجسد تراثاً أصيلاً من القيم الروحية والمبادئ الدينية التي تداعب قلوب العرب والمسلمين أينما كانوا.. وكما مرت معنا بعض النماذج الشعرية في هذا المقام وهي كثيرة منها قوله:
ملايين مثل النمل، لا في صراعها الـ
ـحياة على جهد الضعيف تدربا
ولكنه في العد كالرمل تعبث الـ
رياح به عبر الفيافي تقلبا
تموج به كثبانه في زعازع
يسمونها فيما تهب به الهبا (3)
كذلك ستمر معنا نماذج أخرى في كلامنا عن لوحاته الشعرية.
والجملة عنده بناء رصين محكم، لأنه يحشد لها كل ما يمكن من مواد متينة حصيفة، فتزيد رسوخاً وسبكاً وإشراقاً، فتتضافر لديه كل خصائص أنواع البديع والمعاني لتؤدي دورها في إبراز جملته الشعرية عبر المقام الذي تنطلق فيه.. وحتى في اقتباسه أو تضمينه مما يسعف به مخزن الذاكرة من نصوص قرآنية ومحفوظات عربية قديمة أو حديثة، ويدبج به شعره ومعانيه وأخيلته يجيء بطعم آخر، وروح جديدة بعيداً عن القوالب المستنفدة الهجينة. والأمثلة كثيرة، نجدها في معظم نصوصه.
ثم إن ذلك الاقتباس أو التضمين من آيات وشعر أو عبارات غيره ليست اقتباساً أو تضميناً جامداً أو نقلاً أجوف، وإنما هو تعانق بين أفكار شخصيته وتلقيح لمشاعر أو عواطف رائديه.. بصياغة أخرى.
ولكم وظف أساليب الاستفهام والتمني والنداء وغيرها توظيفاً استنفد كل خصائصها الجمالية لتأدية معانيه المرجوة التي تتسرب إلى أحاسيسنا بعفوية، وحتى وهو يلجأ إلى تقديم ما حقّه التأخير في جملته، فإنه يبرع في تلك الطريقة، ويمنحنا بُعداً نستشفه بعد تأنٍّ وروية.
والأمثلة كثيرة أيضاً. مثلاً في قصيدته (ثلاثة أعياد)، فإنه يمدنا باللهفة والتشويق لمعرفة كنه هذه الأعياد الثلاثة، فيدع للقارئ فسحة التأمل والتفكيـر
وإثارة الاهتمام.. فكلما أصاب عيداً راح يبحث عن الآخر حتى يصل إلى الثالث. على أنها كانت الأعياد تتوالى بلمحات خاطفة، وقد أيقظت فيه الذهن والشعور:
ثلاثة أعياد: قدومك سالما
وإقبال عيد الفطر باليمن معرب
وعيد جلوس العاهل المنقذ الذي
تميس به (نجد) وتفديه (يثرب)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :683  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج