شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رابعاً: ملحمَة طارق بن زيَاد فَاتح الأندلسْ (1)
يتنفس القارئ هنا مع (طارق بن زياد) في أجواء ملحمية، أكثر مما وجدناه في بعض ملاحم بلخير السابقة. فقد راح القارئ يشهد -عن كثب- التاريخ من وجهه البطولي الملحمي. إذ وضعنا الشاعر في ذات المكان الذي كان مسرحاً للعرب والمسلمين في أعظم حدث تاريخي يجسد البطولة الإسلامية في المواجهة مع الصليبية في الأندلس.
وقف بنا الشاعر عند (صخرة أو قلعة الفتح) من مضيق الجبل، عبر البحر المتوسط، والمحيط الأطلسي، والجزيرة الأندلسية. ويشاء الله أن يزور الشاعر بلخير تلك القلعة مع الملك فيصل والملك خالد في عام 1943. يوم كانت تلك الصخرة الشاهقة في ذلك العام تحت سلطة بريطانيا وأساطيلها التي تملأ بحار الدنيا.. وقد تجولوا يوم ذاك في كل كهف ومنفذ لتلك الصخرة العالية ذات التاريخ الإِسلامي الكبير، وكان الحاكم البريطاني العام لجبل طارق يومئذٍ يطلعهم على أسرار تلك القلعة.
ويبدو أن ما اختزنه الشاعر في أعماقه من أحاسيس تاريخية ودينية آنذاك لم يتهيَّأ لها الانبجاس الشعري إلا عام 1977، في صيف قضاه في جبل طارق من جديد ليصوغ لنا هذه الملحمة. وكان الشاعر قد رسم هيكل وملامح خطوط تلك القصيدة في رحلته الأولى، ثم عاد في رحلته الثانية بعد أربعة وثلاثين عاماً "حيث استكمل رسم هذه الملحمة الكبيرة المدمدمة" كما يقول مقدمها في صحيفة الشرق الأوسط.وإن ما تضمنه مقطعا الملحمة: الأول والثاني، من أوصاف ورؤى وانطباعات.. ما يؤيد هذا القول، كما سنبين ذلك بعد قليل.
لقد بلغت هذه الملحمة مائة واثنين وأربعين بيتاً، موزعة على اثني عشر مقطعاً، وأهم المعاني التي فاحت بها ملحمة (طارق بن زياد فاتح الأندلس) هي: صخرة الفتح رمز للإِسلام بنوره وهدايته وأمنه وسيادته، وحاضر الصخرة أو جبل طارق في عام 1943 أيام السيادة البريطانية، ثم تاريخ الجبل أيام الغزاة الرومان والقرطاجيين، في عهد (هرقل) و (هنيبال). ثم تاريخ الجبل مع الفتح الإِسلامي، ماهيته؟ دواعيه.. ثم طارق والفتح، كيف تم؟ نتائجه.. وأخيراً عودة للصخرة من خلال حلول الحاضر بالماضي، وإسقاط الماضي على الحاضر من خلال مصير صخرة الفتح، وصخرة القدس.. ومن ثم الضياع الدائم.
وقد يبدو للوهلة الأولى -وعبر تلك المعاني العامة- أن الملحمة تسجل لنا وقائع تاريخية، وحقائق عابرة كما ترقد في بطون الكتب.. ولكننا ما إن نتعمَّق في تلك الحقائق والمعاني، حتى تنداح أمامنا دفقات من المشاعر الوجدانية التي أوحتها لنا لغة شعرية تزخر بالصور الأدبية، والعواطف الجياشة والإِيقاعات الموسيقية الصاخبة... عندها يستحيل السجل التاريخي إلى ميدان حي في أبطاله وأحداثه وملاحمه.
يفتتح الشاعر ملحمته بالحكمة التي تفصح عن دورة الحياة، وتقلبها وعدم القرار على حال -كما رأيناه في ملحمة مؤتة- وقد أطلق تلك الحكمة الكثيرون من قبله، وبخاصة عن مصير الأندلس، كأبي البقاء الرندي في قوله:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا تدوم على حال لها شان
على أنَّ الشاعر بلخير في بيت واحد لتلك الحكمة يثير فينا أفكاراً وأحاسيس غزيرة موحية:
فلك الحياة على الورى دوّار
دورانه، الإِقبال، والإِدبارُ
وحين يقف عند (صخرة الفتح) أو جبل طارق، فإنه يضفي عليها هالة من الإِشراق والتوهج والهيبة والعلياء.. إلى آخر ما هنالك من معاني العظمة التي شرفها به الفتح الإسلامي..
ولقد صور الشاعر تلك العظمة للقلعة، من خلال انعكاس الحدث التاريخي الكبير على الإِسلام، والعباد، والبحار، والسماء، والأساطيل، والحكم، والقادة.. لأنَّ تلك الصخرة، لم تعد قلعة صامدة، وإنما هي صورة للمسرح الملحمي الذي جرت عليه أحداثٌ جسامٌ ناطقة بالقوة والتحدي والإِقدام والإِصرار والثبات حتى الخصر والفتح العظيم. وإنها هي تلك المشاعر التي كان يحسها الشاعر، وهو يزورها لأول مرة عام 1943 مع قادة عرب. والحرب العالمية الثانية ما زالت قائمة.. وأساطيل بريطانيا وغيرها تمر تحت ظلالها في حماية مدافع الصخرة المشرعة على مشارف المحيط:
ويشع منها في غياهب ليلها
كالبرق في غسق الظلام [فنـار]
كما كانت أحاسيس الشاعر صدى لأجواء الحرب المستعرة يومئذٍ وما تحمله من تحركات بحرية، واستعداد، ورصد وأبراج، ومدافع.. وتوتر في المشاعر، ورعب في النفوس. لقد وضعنا الشاعر بلخير في جو الحرب، كمقدمة حربية مستعرة للدخول في عالمه الملحمي من الفتح، وكأن الوضع العسكري البحري لبريطانيا في الصخرة وفيما حولها يومئذٍ هو التمهيد لملاحم عسكرية ستقع على هذه الأرض:
في كل شبر من حنايا صخرها
(عين) و (أذن) تجتلي وتدار
ترنو (العيون الزرق) من فجواتها
للبحر، لايغفى لها (منظار)
ترفو إلى مدِّ المحيط وجَزْره
فترى به ما لا ترى الأبصار
وتراقب الأفق البعيد فإن بدا
طيرٌ، درت مجراه، أو طيّار
وتحسُّ همس الموج لو عبثت به
ريحُ النسيم، درى به (الرادار)
وإذا بها الثكنات والأبراج والـ
حجرات والأدغال والأوكار
وإذا المدافع ثمَّ في لهواتها
قد صُوِّبت، فهي الحمى القهّار
قام الحماة عليه من فجواتها
يترصدون، قد اختفوا وتواروا
ويظل الشاعر بلخير يعزف لنا سيمفونية الحرب على جبل طارق، عبر تاريخه السحيق.. لقد عبرت المضيق جيوش الغزاة من الرومان، بقيادة هرقل، الذي احتل (العدوتين): الدنيا والقصوى. ولم يجد مقاومة أو حماية وصداً لجبروته وغزوه وطغيانه واستعماره.. كما كان ذاك الجبل -قَبْل هرقل- قد شهد غزو (هنيبال) القرطاجي الذي كان يحدوه الطمع والشر والتدمير:
فإذا رياضك في البلاد بلاقع
وإذا ديارك، ما لها ديَّار
وإذا كانت (صخرة الفتح) قد عانت الطغيان والغزو والتدمير والفناء من جيوش جيرانها (القرطاج والروم والإنكليز) فإن وضعها سيكون مشرقاً زاهياً مع الفتح العربي.
من هناك تحددت معالم التاريخ.. وهناك رسم التاريخ أنصع صفحة لملاحم العرب في الأندلس. كان لذلك المكان سجل تاريخي لا ينسى، ولحظات خالدة في جبين الدهر منذ دعا موسى بن نصير الجيوش إلى الفتح واختار طارقاً للقيادة بعد أن استجار به القوط ومنذ:
زحفت فيالقهم لنجدة من دعوا
كالسيل يُزْبد مدُّه الزفّار
ومشت طلائعهم تحوض غياهب الـ
ـبحر المحيط كأنها التيار
يتزاحمون على (الجهاد) فإنه
أمل الغزاة تسابقوا وتباروا
نزلوا على شاطي (الجزيرة) بعد أن
جازوا (المضيق) فما ونوا أو خاروا
وتدفقت راياتهم في ساحها
كالصبح فيه البعث والأسفار
فإذا بأرجاء (الجزيرة) لجة
خضرا، تماوج نورها والنار
وإذا العمائم والصوارم والقنا
بحر تلاطم موجه الغوار
يدوي صدى التكبير في أكنافها
كالرعد، وهو مدمدم زآر
وبعد أن يقف بنا الشاعر عند وصفه هذا لجيوش الفتح العربي -وقد أصبحنا نعيش وسط الخضم الملحمي المتلاطم والرعود المدمدمة- لا بدَّ له من أن يركِّز على مشهد شخصية الملحمة.. المتمثلة بطارق بن زياد كأعظم بطـل ملحمي. وقد تشبع الشاعر بلخير بروحه الملحمية البطولية.. إذ تلاشت الحدود بين الشاعر الملحمي، والبطل التاريخي.. ذابت الفواصل بين المبدع ومفجر الإِبداع.. بين الذات المبدعة والمادة الإِبداعية. أصبح شاعرنا بلخير -كدأبه الدائم في ملاحمه الكثيرة- البطل الملحمي المعاصر وهو يتقمص شخصية طارق، أو وهو معجب به، حين حلت في روحه كل مفاخره ولحظاته التاريخية الحاسمة. استحال الشاعر بلخير -وهو ينشد لنا غناءه الملحمي- إلى صورة مثيرة خالدة للتاريخ الإِسلامي الأندلسي.
وإذ نقول إن الشاعر تقمص شخصية طارق، بكل أبعادها وأعماقها وقوتها وعزمها وإيمانها.. فإنما يعني ذلك أن الشاعر بلخير الملحمي قد استطاع أن يتسربل بكل معاني البطل الملحمي العربي المسلم، وهو إزاء خصمه، وحيال موقفه الذي ستتحدد عبره نهايات وأهداف ورسالات وتطلعات من المبادئ والمناهج والتعاليم.. وستسفر عن تلك المواقف أصالة الرجال ومعدنها وجوهرها.. يوم المحن، وساعة الشدائد، ولحظة الحسم..
ولقد تمكن شاعرنا بلخير -من خلال ذلك الحلول والتقمص الملحمي البطولي- أن يجسد لنا شخصية طارق، والتي أصبح معها القارئ، يهتز كبرياءً وأنفةً وغلواً.. ويطرب زهواً وافتخاراً.. لما بدا على طارق من معاني الرجولة والقيادة والتصميم والعزم والثبات والإِيمان والبطولة.. وما بدا على جنوده وفيلقه من معاني الحماسة والاندفاع والشجاعة والتجاوب مع إرادة ورغبة وحماسة وطموح طارقهم، ومن ثم لما سلكه وحققه هذا (الطارق) البطل وما استحوذ به على قلوب جنوده من الإِكبار والإِجلال.
كما أن الشاعر بلخير كان موفقاً ومبدعاً في تصوير اللحظات الأولى للمعركة الفاصلة التي صنعت الفتح الكبير، لأنه أجاد في مد قارئيه بفيض من المشاعر الوطنية والدينية التي أصبحوا معها يتوقون -بشكل عفوي واندفاع تلقائي- إلى الضرورة الملحة، من هذا الواقع المعاصر، لأمثال تلك المواقف التاريخية المجيدة، ولأمثال طارق وجنود فتحه في هذا الحاضر المر المهزوز.. عسى أن يصنعوا لهذه الأجيال صنيعهم.. وقد بـات الجميع يتمـرغ بأوحـال الخنوع والذل والهوان والإِهانة.. التي فرضتها الصهيونية وإسرائيل..
أجل لقد أفلح الشاعر في تصوير شخصية بطله طارق تصويراً ملحمياً.. أخذ يحيط بمشهده الحربي قبل أن يطلق خطبته المشهورة التي يثير بها حماسة مقاتليه.. فقد كانت ثمة روح سماوية أخذت تتردد مع نداء المؤذن إلى الصلاة.. فكان صداح أذانه موسيقى علوية ترافق منظر الجنود وهم متحفزون لخوض المعركة. كما كانت جموع الجحافل وهي تصلي وراء القائد الملحمي والإِمام الديني تضفي على الميدان القتالي تعانق أصداء السماء بالأرض، وعودة سيرة الرسول وصحابته ومجاهديه وهم يقارعون أعداء الله... إذ كانت الصلاة دوماً للمجاهدين (قبل خوض غمار الوغى) طاقات وشحنات روحية تقوي العزائم، وتثير الهمم، وتلهب النفوس، وتحرز النصر المحتم، وبخاصة حين تدوي الحناجر بـ (آمين):
ودوى (الأذان) على مشارف (صخرة الـ
ـفتح المبين) كأنه استنفار
فإذا الجحافل حول (طارق) تملأ الـ
ـميدان، فيها النصر والأنصار
صلى فكبرت (الجموع) وراءه
فاهتزت الآكام والأشجار
وتلا، فأمّنت الصفوف كأنها
سحب تعالى عدها الموار
ودعا، فرددت الصوارم والقنا (الـ
ـتأمين)، تروي رجعَه الأغوار
وما زال الشاعر يضيف سمات أخرى لبطله قبل أن يهدر بخطبته.. من خلال التركيز على الملامح القيادية والمتمثلة في العينين. النظرات التي يرسلها على فرسانه وفيالقه وراياته وبحره وسفنه، لذلك ما أن ينهي طارق الصلاة حتى نراه يقوم من بين الصفوف، ويأمر جموعه بأن تستوي.. ثم نراه قد:
ألقى على الفرسان نظرة فارس
كالصقر، أقوى خلقه الإِبصار
ورمى بعينيه الفيالق حوله
فإذا بها مثل الجبال كبار
وأجال في الرايات طرف محارب
فإذا السهول، أسنة وشفار
ورنا إلى (بحر الزقاق) بطرفه
فإذا السفين بشطه أكوار
وما أن أحس طارق بالسكينة والاطمئنان، وبدا له أن الجو مشحون بالتحفز والتأهب، وأن كل ما حوله راح يصغي إليه حتى الأسلحة من الصوارم والقنا.. حتى كان صوت خطبته يدوي "كالرعد في أصدائه الإِنذار" وتطول خطبته لتستغرق عشرين بيتاً، كلها تنطق بأجواء اللحظة الحرجة الحاسمة، وتفصح عن دور القادة في المعركة، وقدوتهم في القتال وطلب الشهادة، وعقيدة المسلمين في الجهاد.. وأخلاق الفاتحين في القتال والبطولة، واستلهام مواقف الشرف في الجهاد من تعاليم القرآن والرسول.. وقد عاد الشاعر بلخير بطارق، في هذه الخطبة، إلى النبع الإِسلامي الصافي. وأنهى طارق خطبته:
ثم انثنى، فدعا، فكبر، فالتقى الـ
ـجمعان، فاشتبك الجميع وثاروا
فتلاطمت أمواجهم فإذا بها
بحر محيط صاخب زخّار
يا هول ما شهدته (صخرة طارق)
هزم العدو، فولت الأدبار
فرسا على تلك الشواطىء والذرى
ملك له غبب المحيط قرار
ستظل تروي للورى تاريخه
عبر القرون الكتبُ والأسمار
وهكذا كان الفتح، وكان النصر لطارق قائد المسلمين، وكان الهلاك للذريق ملك القوط، والانهزام لهم. وقد عبر بعد ذلك الشاعر بلخير عما أسفر عنه الفتح، وعما أصبح عليه وجه الدنيا بعد الفتح.. بصورة ناطقة موحية بالبشر والتألق.. كما أبرز لنا حال الفاتحين المسلمين، وما هم عليه من إشراق وتواضع، وتدين، وحال (القوط والنورمان) وما أصبحوا فيه من انكسار وفرار وجهل "لا يفقهون ولا يعون حضارة الدنيا.. فهم بين الشعوب صغار".
ولقد ظل الشاعر بلخير في (ملحمة طارق بن زياد) لصيقاً بالأرض.. بمكان المعركة.. بصخرة الفتح.. وكأنه يشم رائحة الغبار والدخان، ويسمع صوت حوافر الخيول وقرع السيوف والطبول، ويرى بريق البيض والسمر.. ويشهد جثث القتلى، ونزيف دمائهم.. كأن كل تلك المناظر الملحمية ما زالت ملء سمعه وبصره وأحاسيسه.. ما زالت آثارها تحتويه أينما اتجه في أرض الجبل. ومن هنا كان شعره يدور في هذا الفلك الملحمي.. فكانت (صخرة الفتح) لازمة لشاعريته ومناجاته ورؤاه وأهازيجه.. كما كان طارق حياً ينبض في عروقه، ويدب في وجدانه.. وفي نياط قلبه وحتى بعد انجلاء المعركة، ومجيء الفتح، وسيادة طارق.. ظلت الصخرة:
جبارة البحرين كنتِ لطارق
شرفات مجد تجتلى وتنار
والخيل حولكِ، والأساطيل التي
ملأت (زقاق الفتح ) وهي كبار
لكأنني أرنو إليك وطارق
في ظل سفحك مارد جبار
كما ظل طارق:
يختال ما بين الصفوف كأنه
فيها وبين صفوفها صقار
والبيض فجر، والكتائب غابة
خضرا، كأن رماحهم أمطار
والضفتان عليهما الفرسان في
زرد الحديد، كأنهم أقمار
وعليه من نظرات جحفله الولا
والحب والإِجلال والإِكبار
وحينما نرى الشاعر بلخير لا يفرد ملاحم خاصة في فلسطين أو في لبنان أو في قطر عربي مستعمر.. فإنما لأنه ذو شخصية شعرية عامة، ونظرة فكرية ووجدانية شمولية وقومية وحضارية.. فإنه من خلال المنظور الملحمي الأندلسي يرى العالم العربي بأسره.. فيسقط عليه الماضي المجيد، وينبه إلى العبر والعثرات، ومواطن السقوط، وحالات الضياع التي مرَّت بتاريخ العرب في الأندلس.. ومنه يصل إلى أن التاريخ يعيد نفسه.. وأننا نقرأ صفحاته السود ذاتها في تاريخنا المعاصر. لذلك فإننا نشهد الشاعر بلخير في نهايـة هذه الملحمـة -وكما فعل في ملحمتيه الأندلسيتين السابقتين- ينزف مرارة وقهراً وخوفاً من أن يجيء يوم ونبكي على صخرة القدس، مثلما أصبحنا نبكي على صخرة الفتح. ولذلك فقد بدا لنا ملتهب العاطفة، فوار الانفعال، ثائراً، ناقماً، يكاد أن يهز بيديه الأمة العربية كلها، ومن خلال التنبيه للمصير الذي آلت إليه ديار العرب الكرام، من نهب للغزاة، وهوان وذل وعار..
ونرى الشاعر بلخير مرة أخرى في ملحمة طارق، يستوحي من شعار الأندلس -ولا غالب إلاَّ الله- قيماً تاريخية وحضارية ودينية ووجدانية، تلهب الحس والفكر.. وتثير من الدلالات المعاصرة الشيء الكثير:
أترى الألى اختاروا (الشعار) دروا بما
يومي (الشعار) إليه حين اختاروا
(لا غالب إلاَّ الله) باقية على (الـ
ـحمرا) يرددها بها الزوار
مضت القرون، ولا تزال هناك ما
جفت بها الأقلام والأحبار
أترى سيقرؤها غداً في (المسجد
الأقصى) وفوق قبابه من زاروا؟؟..
إن ملحمة (طارق بن زياد) لتضيف عناصر غنية جديدة إلى الملاحم الأندلسية السابقة، كالتركيز على الحدث التاريخي للمعارك والبطولات، والانتصار والفتح، وتحقيق الأهداف والطموحات العربية الإِسلامية، من خلال قادة أبطال، يتمتعون بكل خصائص الفرسان الشجعان المؤمنين بتعاليم أمتهم، ورسالة دينهم.. بالإِضافة إلى الحس التاريخي، والاحتواء الوجداني لكل أمجاد الماضي، والوقوف على مواضع العلل التي تستشري في جسم الأمة العربية وتحِدُّ من استمرار ازدهارها وإشراقها، عبر ذلك الإِسقاط المعاصر، واستلهام العبر:
عظة الدهور لكل حكمٍ ماجنٍ
قبضت زمام أموره الفجار
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1087  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج