ثالثاً: عبْد الله بلخيْر ورفيقا السِّيْنية: البُحترى وَشوقي |
ومن هنا، فإن أندلسيات عبد الله بلخير -وبخاصة غرناطة- لتختلف عن أندلسيات شوقي في درجة المشاعر القومية التي تثيرها في نفوس العرب. |
وإنها لنقطة هامة -ونحن ندرس ملحمة غرناطة الأندلسية- تستأهل منا وقفة خاصة.. لنرى موقع الشاعر عبد الله بلخير بين رفيقيه في السينية: البحتري وشوقي. وقد تناول صاحب كتاب
(1)
إيوان المدائن، الدكتور عبد السلام فهمي موقف البحتري المريب من أمجاد الفرس وأفضالهم على العرب بقوله: "والبحتري عربي أصيل يمثل النزعة العربية الإِسلامية، وموقفه من الفرس أصحاب الثقافة القوية في ماضيها، المغلوبة في حاضرهـا مما يجعـل موقفـه |
موضع الغرابة.. أكان مدفوعاً حقاً بشعور الشاعر الذي هو ملك الإِنسان لا ملك قومه وحدهم، يندب أثراً ذل بعد عز، وينعيه بدموعه التي لا يملك غيرها" وليس في هذا التبرير ما يبرئ البحتري من موقفه المشين من بني قومه، وتاريخهم ودينهم.. ألم يخطر ببال (البحتري) -وهو أمام الإِيوان- أمجاد العرب والمسلمين أيضاً، وفتوحاتهم؟.. ألم يتصور الفاتح العربي (سعد بن أبي وقاص) وهو يهيمن على المدائن، ويستولي على الإِيوان ونفائسه؟ ولو قارنَّاه بموقف (الشريف الرضي) من الإِيوان حينما مرَّ به، لوضحت لنا النزعة العربية لكل منهما. يقول الشريف الرضي: |
آل ساسان حدا الخطب بهم |
واسترد الدهر منهم ما أعارا |
بعدما شادوا البُنى ترفعها |
عمد المجد قباباً ومنارا |
|
أو تلك المواقف الأخرى التي ذكرها لنا الدكتور (الفهمي) عن علي بن أبي طالب، وكل من مرَّ بالإِيوان وعبَّر عن انطباعاته حياله.. وفيها جميعاً، نتعرف على رؤية العرب والمسلمين في مثل تلك المواقف الطللية أو الأثرية، وما تثيره فيهم من مشاعر دينية ووعظية.. فيها الكثير من العبر والحكم. وكذلك شعراء الأندلس، في رثائهم للممالك والمدن، ينطلقون في انطباعاتهم، عبر الزوال بمثل تلك العبر والحكم، كابن اللبانة، وأبي البقاء الرندي، وابن عبدون وغيرهم. |
وإذا كان البحتري (العربي) والخاقاني (الفارسي) ينزعان في مشاعرهمـا وعواطفهما نزعة إعجاب وتقدير وتعاطف حيال الإِيوان، فلنر كيف ينزع شاعران عربيان -شوقي وبلخير- في مشاعرهما وعواطفهما حيال الأندلس؟!. |
وإذا كان البحتري لم يصبه الزهو والتفاخر وهو أمام إيوان كسرى الذي هدَّ العربُ أركانَه، وقوَّضوا صروحه. فإن لرفيقيه في السينية موقفاً آخر، وقد أبصرا آثار العرب في الأندلس وأمجادهم، ومن قوضها. وقد عرفنا الكثير عن انطباعات الشاعر بلخير إزاء الفردوس المفقود، ومشاعره القومية حيال الأمة العربية بين ماضيها وحاضرها.. ومن خلال أندلسياته. فلنعرف شيئاً من أندلسيات شوقي في سينيته: |
يضع شوقي أمامنا مقدمة نثرية عن رحلته إلى الأندلس، ليعترف بتأثير البحتري عليه، وتأثره بتلك السينية. منذ اتخذه رفيقاً له في الرحلة. ولا يكتفي بالإِعجاب به، وإنما ينقل لنا إعجاب الآخرين، مثل (صاحب الفتح القسي في الفتح القدسي) الذي يقول: "فانظـروا إلى إيوان كسـرى، وسينية البحتـري في وصفه، تجدوا الإِيوان قد خـرَّت شعفاته، وعُفِّـرت شرفاته، وتجـدوا سينية البحتري قد بقي بها (كسـرى) في ديوانه، أضعـاف ما بقي شخصـه في إيوانه". |
وقد عبر شوقي في سينيته التي بلغت مائة وعشرة أبيات، عن أحاسيس كئيبة، تصور الغربة والحنين إلى الوطن، وذكرياته في أماكن محددة في مصر، أخذت تتراءى له في مخيلته، كالجزيرة والنيل والجيزة، والأهرام، وكأن بتلك الأهرام تولدت فيه معاني العِبَر والحِكَم من التاريخ وزوال الدول، ليقف بنا أخيراً عند الأندلس، وقد غاب مجد العرب فيها. فيقوده ذلك التاريخ إلى أمجاد عظيمة تتمثل بقوة قادتها، وازدهارها العلمي والعمراني. فيورد بعض الأعلام السياسية والفكرية، مثل: الناصر، والداخل، والقاضي (منذر) ا لمعروف بالعدل والزهد، والوزير ابن مقلة المشهود بجودة الخط، وكان شوقي في مشاهداته يتناوب بين اليقظة والحلم، ولكنه يقظ في وصف (غرناطة) ودار بني الأحمر، التي أصبحت خالية من أهلها، إلاَّ من السياح الذين ينظرون "في خشوع ونكس"، ثم يصف أخيراً ضياع الأندلس وتسليم مفاتيحها وقد "باعها الوارث المضيع ببخس" ومن ثم رحيلهم من خلال مشهد إبداعي رائع، يصف المفارقة بين حالهم عند الدخول وحالهم عند الخروج: |
ركبوا بالبحار نعشاً وكانت |
تحت آبائهم هي العرش أمس |
|
ويختمها ببيتين في العبرة والاتعاظ وهو يقترب من وطنه مصر في عواطفه ومنفاه: |
حسبهم هذه الطلول عظات |
من جديد على الدهور ودرس |
وإذا فاتك التفات إلى الما |
ضي فقد غاب عنك وجه التأسي |
|
ومن هنا يتبدى لنا الكثير من أوجه الشبه بين سينية شوقي وسينية بلخير في الحالات التي عرضناها.. من تصوير للحزن والكآبة، واستنطاق الأطلال، وإحياء التاريخ المجيد، وغروب الأندلس، منذ رحيل العرب عنها بلا رجعة بالإِضافة إلى الثقافة التاريخية والفكرية للأندلس. إلاَّ أنَّ هذا التشابه عام، تفرضه التجربة الإِنسانية والذاتية والعربية إزاء آثار تاريخهم العربي المندرس. إلاَّ أنَّ لكل منها نظرته ونزعته وأبعاده وأسلوبه وشخصيته.. |
فإذا كان شوقي -في وصفه وتصويره للآثار الأندلسية- وصافاً ماهراً، يجمع بين الحس والخيال، فإن بلخير لا يعبأ بمرئياته الحسية بقدر ما تشع به من دلالات تاريخية، ومعانٍ تربط حاضره بماضيه، ومن هنا تميز بلخير بذلك الحس التاريخي الذي لا ينفصل عن واقع أمته. |
فكان شوقي رغم إحساسه بالمرارة التي يعانيها في الغربة نتيجة نفيه بأيدٍ دخيلة على وطنه، ورغم هيمنة الاستعمار على أجزاء كثيرة من أمته العربية والإِسلامية، ورغم هذا التاريخ العربي الأندلسي الزائل الذي يشهده، ويشهد آثار قوته.. رغم ذلك كله، فإنه لم يجرأ على إسقاط غروب شمس الأندلس، وما رافقها من عداء صليبي أوروبي للحضارة العربية، على واقع العرب في محنهم مع ذات الأعداء. أي أنه لم يستفد من التاريخ في رؤية عصرية للواقع والحاضر.. لم نلمح سوى هذين البيتين الأخيرين، وبهما، كما كان يظن، يقدر تعميمها على ساحة عريضة من الواقع المصري أو العربي. |
وحتى في وقفات التشابه -التي ذكرناها- بين شوقي وبلخير، تتميز شخصية كل منهما.. فإذا كان شوقي في وصفه للأطـلال، وإحياء الأمجـاد من خلال الشخصيات التاريخية ومواقفهم البطولية، فاتراً تعـوزه حرارة الأجواء الملحمية، والتصاقه بالبطولة العربية، فإن بلخير -كما بدا لنا دائماً- يعيش التاريخ العربي في الأندلس بكل أصالته وقوته وعظمتـه، وكأنـه واحد من أفذاذه. |
ولو حاولنا أن نقف عند أجود مشهد في تصوير الأمجاد الأندلسية السالفة والبطولة العربية لما وجدنا أفضل من قول شوقي: |
فتجنت لي القصور ومن فيـ |
ـها من العز في منازل قُعْسِ |
ما ضَفت قط في الملوك على نذ |
ل المعالي ولا تردَّت بنجس |
وكأني بلغتُ للعلم بيتاً |
فيه مال العقول من كل درس |
قدساً في البلاد شرقاً وغرباً |
حجَّه القومُ من فقيه وقس |
وعلى المجمعة الجلالةُ و (النا |
صرُ) نورُ الخميس تحت الدِّرفس |
يُنزل التاجَ عن مفارق دونٍ |
ويُحلَّى به جبينَ البرنس |
|
بينما مشاهد بلخير التاريخية لأمجاد وبطولات ومواقف العرب وقادتها في الأندلس كثيرة ومتلاحقة.. وتعج بالأصالة العربية والوعي والإِدراك والثقافة الحقة لتاريخ العرب في المشرق والمغرب.. وفي مختلف عصوره القديمة والإِسلامية الذهبية فيصبح شعره الأندلسي كتاباً تاريخياً ملحمياً مفتوحاً على كل أجناس العرب وقبائلهم وأيامهم وأحداثهم وبطولاتهم. فلو قرأنا أي مشهد تاريخي منه، لأدركنا الفرق بين الشاعرية، ولعرفنا أن شوقياً ما زال غريباً وبعيداً عن معمعة الملحمة العربية والأندلسية وكأنه لم يستوعب حيوية وأصالة العرب في الأندلس طيلة سنواته الخمس في المنفى. |
يقول مثلاً بلخير: |
خُيِّلتْ لي، تموج أكنافها بالـ |
ـخيل، كالصبح، في صهيل وعس |
أشرقتْ في سنا الخلافة تزهو |
برجال، شمِّ المعاطس نُطس |
والكراديس من (تُجيب) ومن (حميـ |
ـر) (صنهاجة) الفتوح و (قيس) |
وقفوا في رماحهم، وظُباهم |
كسنا الفجر بين طرد وعكس |
في ظلال المصفّقات من الرا |
يات في (خزرج) ترفُّ و (أوس) |
فوق هامات قادة العرب من (عبد |
مناف) ومن بني (عبد شمس) |
والأذانُ الدّاوي على الهضبات الـ |
ـخُضرِ، يدعو إلى فرائض خمس |
تتعالى به قراهم، وتسمو |
حين تصحو عليه. أوحين تُمسي |
* * * |
وتراءى لي (الخليفة) في (إيـ |
ـوانه)، مصبحـاً بها، أو ممسي |
حوله الفاتحون، في زرد الفو |
لاذ، يزهون في إباءٍ وبأس |
|
وبهذا قصَّر شوقي عن بلخير في الأنفاس الملحمية، ولم يفلح في سبر أعماق التاريخ العربي، وينطق الآثار بما تراه عينه التاريخية، وبما تضفيه عليها عواطفه ووجيب قلبه، والتصاقه بتراثه وأمته وأبطاله. لقد كان البحتري مندهشاً، ومأخوذاً بإيوان كسرى.. فجاء وصفه للقصر والجرماز وصورة أنطاكية -الملحمة الحربية بين الفرس والروم- تعبيراً عن إعجاب بحضارة الفرس وأمجادهم وقوتهم.. فكان في وصفه دقيقاً ماهراً، يصبغ مرئياته بعيني حسه وخياله. وكذلك شوقي في وصفه لغرناطة، وقصر الحمراء. فإذا كان البحتري لا يرى في الإِيوان أطلال العرب المقفرة (كأطلال سعدى)، بل جعلت منه الليالي (مأتماً بعد عرس). فكذلك أيضاً يرى شوقي بأنه قد: |
مشت الحادثات في غرف (الحمـ |
ـراء) مشي النعـي في دار عرس |
|
بينما كان الخاقاني يعيش المعاناة الكبرى، حيال مشهد الإِيوان، الذي يراه رمزاً لزوال مجدهم، مجد الفرس وحضارتهم.. فكان ينطلق في وصفه ومعاناته منطلقاً قومياً، إذ وجدناه متألماً لما يرى، وأصبحت قصيدته تشكل مناحة محرقة، وقهراً نارياً يلسع قلبه، فذرف سخين دموعه لذلك المصير، مصير أمجاد قومه.. على أن النزعة الذاتية هي المميزة لإِبداعه الوصفي الذي كان مزيجاً من حرارة وجدانه، وعمق فكره، وسبحات خياله. |
لذلك فقد كنا نرى في أندلسيات عبد الله بلخير بعض ملامح الخاقاني الوجدانية والقومية أكثر من ملامح البحتري وشوقي في سينيَّتَيْهما. |
على أنَّ بلخير يظل في أندلسياته بطلاً ملحمياً معاصراً، كما رأيناه في قرطبة التي استحالت لديه إلى تاريخ أندلسي حي.. لا يرى في وجهها المعاصر، غير عالم التاريخ المتوج بالبطولة والفكر والحضارة.. وكذلك في غرناطة، لا يرى في قصورها غير تخت لملك الإِسلام، ولا يشم من أريجها غير ربيع مجدها.. فكانت عروساً في ليلة زفافها. وحين يتألق حبه لغرناطة أو الحمراء، فيحس بها كالكعبة.. ويكاد يقبل كل ركن من فنائها، لأنها أصبحت لديه -أو كما كانت في التاريخ- أعجوبة العروبة. |
وهكذا هي رؤية بلخير الأثرية. فمرئياته ليست إلا تاريخاً مستيقظاً بإشراقه وتألقه وجماله وعظمته، لأنه لا يرى بحسه المادي، وإنما بروحه وحسه التاريخي. |
كما أنه -في الوقت نفسه- لا تخفى المعالم الأخرى للوجه الأندلسي الذي صوَّره لنا بلخير.. الوجه الطروب والطلق بالحب والجمال والطبيعة والغناء والموسيقى والموشحات.. أظهر تلك المعالم كوجه حقيقي للأندلس والواقع العامر بالطرب والمتعة والحرية.. فكانت الحياة العابثة اللاهية التي استحوذت أخيراً على العرب وسلطانهم، وقادتهم إلى نسيان الواجب والأمانة. فانتهوا إلى سقوطهم وضياعهم وغروب أندلسهم، كما صورها بلخير في أندلسياته. |
وما زالت الأندلس، وحضارة العرب فيها، وأفولهم عنها.. مصدراً غنياً للمبدعين بمختلف مذاهبهم وأجناسهم.. وتحضرنا هنا ملحمة أراغون الأندلسية (مجنون الزا) التي استلهمها من ذات العالم الأندلسي، الذي صوَّره لنا بلخير في أندلسياته، وبخاصة عشية سقوط غرناطة. |
وكما كان بلخير هو الشاعر البطل لملحمته (غرناطة) فكذلك أراغون "وهو الشاعر نفسه الذي يلعب دور مجنون الزا، والذي ينتقل بين الحين والآخر ليلعب دور غرناطة، ويتحدث باسم أهلها وملكها وبيوتها وحماماتها وقناطرها وينظم أناشيدها المرة المتفجعة، ولقد عبر أراغون عن سر التفاته إلى هذا العالم العجيب الذي كان موضوعاً لملحمته -عالم الأندلس- هو بما يثيره من أحلام وأشواق وحنين، وبما جسد من توق إنساني لمدن جُبلت حجارةُ بيوتها من شعر، وفلسفة، وأخوة، وموسيقى، وورد، وقُبَل.. نعم وفيها لصوص ومتعصبون، وزنادقة، ونخاسون.. لكن هذا كله كان ضمن الإِيقاع، كان درجات في النقاء الأصلي، في روح الأندلس الذي صنعه العرب المسلمون، أو الذي صنعوا أنفسهم على مثاله
(2)
. |
وقد التقى أراغون بشاعرنا بلخير أيضاً، في عملية إسقاط المرئيات الأثرية، والأطلال التاريخية على الواقع التاريخي المعاصر للآمة الفرنسية.. أمة الشاعر. فقد استعاد أراغون –وهو يقرأ أغنية فرنسية عن سقوط غرناطة – ذكرى سقوط باريس في يد الألمان.. وكما توحدت باريس بغرناطة، توحد أراغون بالملك أبي عبد الله. على أنَّ توحُّدَ بلخير كان أوسع إذ توحدت لديه العربية بالأندلسية. |
|