ثانياً: ملحمَة غرناطة وقصُور الحَمراء |
لقد استكمل الشاعر عبد الله بلخير صورة المأساة في هذه الملحمة.. لأن فيها تجسيماً للمأساة بكل معالمها وأبعادها.. إذ أحاط بها من كل جوانبها. فإذا كان في الملحمة الأولى قد صوَّر الجانب الحضاري المشرق لتاريخ العرب في الأندلس.. فإنه في الملحمة الثانية سنراه يصور الجانب الحزين المظلم لذلك التاريخ. |
وإذا غلب على مشاعر بطلنا في الأولى: الحركة والفرح والطرب.. بما استوحاه وأحياه من مجد وقوة وإشراق في الفن والأدب والفكر والاجتماع والسياسة والحكم.. فإن مشاعره في الثانية، سيغلب عليها الحزن والرثاء والبكاء والحرقة.. على ضياع تلك الأمجاد. |
على أنه سوف لا يفقد اتصاله وحلوله في عالم التاريخ المشرق كما سنرى. نرى بطلنا في غرناطة وجها لوجه أمام قصور الحمراء. غرناطة التي كانت عاصمة لدولة بني الأحمر، الدولة التي استطاعت أن تقف في وجه التوسع الفرنجي مدة تزيد على القرنين والنصف. غرناطة التي عرفت أزهى عصورها في حكم بني الأحمر.. وشهدت ازدهار الحركة الأدبية والفكرية والعمرانية، فشيدت فيها قصور الحمراء، التي وقف عليها بطلنا. كما شهدت سقوطها كآخر معقل للفاتحين العرب.. شهدت كيف تخاذل حماتها، كيف باعوها، كيف سلم آخر ملوكها (أبو عبد الله) مفاتيح الحمراء إلى الفرنجة.. |
وإن وقوف الشاعر -البطل الملحمي- على قصور الحمراء في غرناطة، دار الحكم أو الخلافة آنذاك، وفي أول لقاء من الملحمة،. يعتبر الامتداد التراثي والتقليدي لشاعر المعلقات في عصورها الجاهلية الذهبيـة. وإذا كانت معالـم الأطلال أو الآثار في ملحمتيه قرطبة وغرناطة متباينة في الوصف والوقوف، فإنهما متشابهتان في الجو والانطباع والرؤية التاريخية والحضارية، ومخاطبة الحاضر للاعتبار. |
لذلك فإننا نقول إن شاعرنا في وقوفه على آثار التاريخ العربي في الأندلس يمثل الوجه الآخر لشاعر المعلقات الجاهلية في وقوفه على ديار الحبيبـة وأطلالها الدارسة، وما توحيه من مشاعر وخواطر وذكريات وشوق وصبابة، فكلاهما ينهل من نبع عاطفي وفيض وجداني واحد.. مع فـرق فـي بعد الرؤيـة والموقف من الجماد الطللي الفردي، والعمـران التاريخي الحضاري العام
(1)
. |
وإن ذلك الاختلاف الذي نوهنا عنه، في وقفتي بطلنا على آثار قرطبة وغرناطة، ما هو إلاّ في درجة وضوح معالم تلك الآثار المرئية، ومدة الوقوف عليها.. فقد كانت آثار قصور الحمراء واضحة وناطقة أكثر مما رأيناه في جامع قرطبة، الذي كان واضحاً في ماضيه التاريخي فقط. |
كما أن شاعرنا كان في ملحمتيه يعاني تجربة ذاتية ووجدانية مختلفتين، ففي الأولى كانت مقدمته بهيجة راقصة، بينما في الثانية -كما سنرى- كانت المقدمة تتنفس في جو كئيب حزين متشائم. |
نجد في افتتاحية (غرناطة) خلوة نفسية، وإفاضة كئيبة، فتشف نفس الشاعر -من خلالهما- عن أحاسيس عميقة ومرهفة، لمعاناة جديدة لم نعهدها لدى بطلنا.. نقل إلينا هموماً وأحزاناً وضياعاً وغربة.. لا ندري كنهها.ولنقف قليلاً عند هذه المعاناة النفسية، وذاك الغمر الكئيب. |
أهي تجربة تقليدية في وقفته، وقوف القدامى والمعاصرين على الأطلال والآثار، في بكائهم وندبهم وتأسيهم واعتبارهم؟!. |
لقد بكى شعراء المعلقات وغيرهم على أطلال الأحبة، وحزن وتأسى واعتبر شعراء الآثار، سواء على آثار وممالك الأندلس الزائلة، أم على المدائن وإيوان كسرى. |
أم هي حالة إنسانية، يعانيها كل شاعر أو سائح وهو يقف أمام آثار التاريخ -بصرف النظر عن انتمائه أو قربه لذلك التاريخ- معتبراً بمصير الإنسان وزواله، كما زال صانعو هذا التاريخ؟؟!. |
أم هي معاناة ذاتية وخاصة بالشاعر، ولم يفصح عنها..؟! |
على أننا رغم ذلك كله، فإننا لا ننفي عن الشاعر تلك الشخصية التي تميَّز بها، وبخاصة في رحلاته إلى الأندلس، إذ جاءها بهموم كبيرة، وبروح العربي المسلم، وقد أطل من أرض الكرامات، ومهد النبوة، ومهبط الإِسلام. جاءها وفي روحه القداسة والطهارة والصفاء والإِشراق.. التي يستشفها دائماً من أم القرى ويثرب. |
وهو كما عودنا دائماً، يحمل هموم أمته ومعاناتها من عز الماضي، وقهر الحاضر بعد فاجعة الفواجع في حزيران 1967.. وهكذا تظل لكل شاعر همومه الخاصة والعامة وانطباعاته المتفردة. وإن كان ثمة قضايا إنسانية تمر بالشعراء، فربما هي التي تكسب موضوعهم الواحد مسحة نفسية متشابهة على نحوٍ ما. وربما هي التي تكوِّن قضية التأثر والتأثير، التي نجد ملامحها في (السينيات) الثلاث لـ (البحتري وشوقي وبلخير
(2)
)، والتي أكسبتها نغماً موسيقياً ونفسياً واحداً. وهذا ما اعترف به شاعرنا: |
ناح (شوقي) علـى مشارفهـا قبـ |
ـلي، تشاجى بـ (البحتري) في تأسي |
وتشاجيت منهما، حينما سا |
لت دموعي، على يراعي وطرسي |
|
وإذا كانت هموم البحتري وشكواه في سينيته -وقد أشرف على الأربعين- بسبب مقتل المتوكل أو لخلافه مع ابن عمه. وهموم شوقي -ولم يتجاوز الخمسين- بسبب غربته في المنفى وحنينه إلى وطنه. فإن هموم شاعرنا بلخير -وقد تجاوز الستين- في سينيته وهو أمام قصور الحمراء، فيمكن لنا أن نعزوها -بالإِضافة إلى حسه القومي- للتشاؤم الذي قد يصيب المرء أحياناً في التفكير بالرحيل عن الدنيا كلما تقدَّم به العمر فهو يقول في رابعة غرناطة هذه: |
هو عمر مضى.. وقد أذَّن العصر، |
فأضحى مصبح العمر ممسي |
وهو في دورة المحاق، |
فلم تُبق الليالي من بدرها غير سدس |
|
أو قد يكون منشأ همومه وكآبته، هو ذاك الاسترجاع السريع لماضي ذكرياته العابرة.. ولحياته الخاصة التي لم تخلُ من تنغيص وكدر وتقلب وكرب. فكان يخوض أمواجها. بجلد وإعياء، وبـ "ظهور وغطس " فيقول عن تلك الذكريات في مقدمته الشفافة: |
مومضات، تشع طوراً وتخبو |
في شريط، في ظلمة الذهن منسي |
تتعالى به حياتي.. وتكبو |
بين كرب من الزمان وأنس |
خاض أمواجها شراعي يطوي الـ |
جحر طياً، به يسير، ويرسي |
تتغشاه من أعاصيره الهو |
ج.. مثال الجبال (رضوى وقدس) |
فهو ما بينها يغوص، ويطفو |
ثم يمضي على ظهور وغطس |
|
وإن مقدمة شاعرنا الحزينة، والتي بلغت اثني عشر بيتاً، تشكل لحناً مؤثراً، وإيقاعاً آسراً، تشف لنا فيهما نفسه بوضوح، وتشع بالوميض الانفعالي الذي نتحسس حرارته. |
وحين يقف بطلنا أمام قصور الحمراء، تتخذ ذكرياته وأحاسيسه منحى آخر في عالم الوجدان وإن كان هناك نبع واحد لكل انفعالاته وعواطفه ومشاعره.. أصبحت الذكريات تصطبغ بالتاريخ، والأمجاد، أمجاد الحمراء، وأمجاد بني الأحمر في عز ملكهم وهيبتهم.. ولكن سرعان ما يرجعه خياله إلى واقعه.. إلى هذه القصور التي راح يطوف في أرجائها، ويتحسس منعتها وقوتها، ليتجرع الألم والحزن، فتتحول تلك الآثار إلى معالم مشؤومة، فأصبح كأنه يطوف بقبره.. وأحس بمن حوله من السائحين بالوجوم الذي أخذ يقرأه في نظراتهم "وكأنهم في عزاء موت فقيد لهم" أو كأن أولئك السائحين راحوا يستشعرون تجربته، ويحسون إحساسه ومعاناته في قضيته مع غروب العرب في الأندلس. |
كان الميدان الذي يتنفس بطلنا في أرجائه -وهو يطوف القصور- هو القهر والتحسر والتأسي.. والمفارقات هي التي تثيره، وتحلق به في أجواء الرثاء والبكاء. المفارقات بين عالم اليوم وعالم الأمس. فيحاول أن يتأسَّى بزوال الممالك القديمة لكل من: (دارا، وقسطنطين، وتحتمس، وهنيبال، والإِسكندر) في بلاد الفرس والروم ومصر.. لأنها لم تقم على أساس صحيح: |
سنَّة الكون، أن يزول، وينهار |
بناء الباني على غير أسِّ |
|
ويرى في غرناطة بعض معالم أم الـقرى، ولكن الحاضر حزين، إذ خلت المقدسات من أهلها. |
لم يكن بطلنا ينظر إلى مرئياته الحسية بعين بصره إلاَّ قليلاً. كانت كل نظراته الأثرية، تتم من خلال رؤية تاريخية وفكرية وقومية، ودينية.. كان الخيال لديه لا يتقد إلاَّ عبر الإِحساس التاريخي والقومي. فكأن خياله لا يحيا إلاَّ في تلك المجالات. فلم يكن يصور الآثار بأحاسيس وروح هاوي الآثار، وإنما يصورها كما يريدها رجل التاريخ القومي المعاصر. فهو لا يرى مرئياته إلاَّ على ضوء التاريخ، ولا يرى في آثاره إلاَّ الوجه القديم الزاهي.. ولا يرى إلاَّ الأمجاد الأندلسية أو العربية. |
ولهذا هو دائماً في حاله اتكاء مستمر على أريكة الماضي، فيعمل على إحيائه بكل إشراقه وأبطاله، ومواقفهم الملحمية الفذَّة. فيرى الخليفة من بني الأحمر وحوله الفاتحون، وغرناطة تغص بالوافدين، لينهلوا العلم من أعلامها وعلمائها.. ولا يرى غرناطة إلاَّ أعجوبة العروبة السامية، فيها. كل بني جنسه من قيس وعبس وعبد مناف وشمس.. في سوق عكاظ، وفي سدرة المنتهى. |
وإذا كان شاعرنا قد صور لنا في ملحمة (قرطبة) الازدهار الفكري والعلمي من خلال إقبال أهل الأندلس على علمائهم.. فإنه في ملحمة (غرناطة) قد صوَّر وجه الأندلس الحضاري المزدهر من خلال إقبال أوروبا كلها بشغف لتستضيء بضياء قرطبة وغرناطة: |
كانت الأرض كلها تتلاقى |
حول أبوابها، ومن كل جنس |
تتلقى العلم الغزير على أعـ |
ـلامها الغرِّ، من إمام وكيس |
ووفود الرومان والغال والجر |
مان، حول الأبواب أطياف نكس |
وقفوا في الصفوف، يلتمسون الإِذ |
ن، لا ينبسون فيها بنبس |
كلما لاح حاجب، حفت الأنـ |
ـظار منهم به، ولفت بوجس |
كلهم شاخص إلى الإِذن في غمـ |
ـزة طرف، أو في إشارة خلس |
شرف باذخ لهم، أن يقوموا |
في صفوف، على ظلال الدرفس |
يستظلون بالخلافة فيها |
وهي عدل، يبني، وينشي، ويكسي |
|
ويظل بطلنا في تأرجحه بين الواقع والخيال والحاضر والماضي، في نقلات شعرية وفنية، وفي وقفات حسية ووجدانية، وبتتابع عجيب، لا ملل ولا رتابة في العرض والبث.. لما تكتسي مشاهده من تلوين وتجديد وحيوية في الوصف والتعبير. |
فمرة تبدو لنا (حمراؤنا) تختاً لملك الإِسلام فوق روابي (البيرنيه) الخضراء، وأخرى معبقة بأريج الخزامى والورس في الربيع، وأخرى تختال في مطارفها الحمراء كعروس في ليلة عرسها. كل ذلك يجعل شاعرنا متجاوباً متلاحماً في رؤاه ومشاعره، حتى ليخيل إليه- وهو يطوف بالحمراء- وكأنه يطوف بالكعبة، فينسى واقعه، ثم يستيقظ، ويعرف أنه كان في وهم وخيال، إثر التلمس العقلي.. ويذكرنا بالبحتري وانخداعه بمنظر أنطاكية قي إيوان المدائن. |
ومع عودته إلى الواقع، تتفجر أحاسيسه غماً وقهراً، فيتهاوى خائر العزم.. ولكن يظل بصورة البطل الملحمي، الذي ينفذ إلى عمق المأساة ويحل فيها.. |
فطالما هو يمثل كل التاريخ، فإنه يعاني كل مرارته وهمومه ومصيره المأساوي: |
وتحسست مهجتـي، وعـرى قلـ |
ـبـي، فلم أهتدِ إليها بحسي |
فتهاويت، خائر العزم، ثاوٍ |
واضعاً راحتيَّ من حول رأسي |
شارد الذهن، لا أرى ما أمامي |
حاسباً رجس أمتي أمسِ رجس |
وعلى هامتي هواني على نفسـ |
ـي، هوان المجنى عليه المِخس |
فكأني وحدي الملوم على تعـ |
ـس جدودي يهزني هول تعسي |
|
إن التيار الانفعالي الخاطف الذي يهزه من حين لآخر، ليعي الحقيقة التي تستغرقه من كل جوانبه.. حقيقة ضياع الأمجاد. كيف كنا، وكيف أصبحنا؟!. |
ولقد وقف عند المأساة، وصور أبعادها، وكل ملابساتها، وأسبابها.. على يد أحد ملوك الطوائف. فجسد حقيقة المجون، كعامل في ضياع الملك.. وبصورة فتنة النساء التي دوخت عقول بني يعرب الذين باعوا الإِسلام بثمن بخس.. فغربت شمسه: |
فتداعت صروح ملكهم تهـ |
ـوي، فضاع المجد المفدى بطمس |
ومضى عصر عزهم، في دبورٍ |
ورجال، لا كالرجال وبؤس |
ثم غابت شموسهم، فطوى الإِسـ |
ـلامُ أعلامَ ما أصيب بدرس |
وانتهى ما بنى الجدود بأيدي |
خلفٍ فاجر السلوك أخسّ |
ضاع ما ضاع، في ندامة من شبَّـ |
ـك كفيه، بين فرك وفحس |
فتردوا بالعار، بين شعوب الأر |
ض طراً، والخزي في كل طرس |
|
وإن المشهد المأساوي المؤلم الذي انطوت عليه خاتمة قصة العرب في الأندلس، لتعيش في نفس كل عربي، قصة وجودهم بعد حكم دام ثمانية قرون من عام الفتح.. في تلك النهاية التـي سلـم أبو عبد الله مفاتيـح الحمـراء إلى (فرديناند وإيزابيلا)، وخرج وأهله إلى منفاه أسيراً باكياً، فقالت له أمه: |
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً |
لم تحافظ عليه مثل الرجال |
|
فقد ظل مشهد الذل -الذي عاناه ذاك الأسير الباكي- يقهر شاعرنا، فكان يتمنى لو رفض موقفه المتخاذل.. وهو ما يتأمله الأحرار الذين لا يستسلمون ولا يرضون بالهزيمة والعار.. لقد ترجم شاعرنا مشاعر هؤلاء الأحرار، ورسم طريقهم، وأوضح ما كان يجب أن يكون موقف الصمود والبطولة والقتال: |
ليت ذاك النذل الهجين الذي سـ |
ـلم مفتاح ملكه وهو مخسي |
عندما لاحت النجاة، وعزّ النَّـ |
ـصر، وانهارت الصفوف بركس |
قام شاكي السلاح، في الدرع والمغـ |
ـفر، تحت العجاج للمجد حرسي |
يستثير الدنيا يطهر ماضيـ |
ـه، بموت يمحو الذنوب ويقسي |
حين يلقى مصيره كهزبر الـ |
ـغاب، دامي الأنياب، لا كابن عرس |
يتحاشى ذل الدهور طريـ |
ـداً هائماً في القرى يُعشَّى بفلس |
غير أن الهوان، والتعس والجبـ |
ـن، قضاء على الأذلاء، نفسي |
حينما آثر الحياة أسيـ |
ـراً صاغرأ في هوانه المستحسي |
|
ويستحضر بطلنا قصة من التاريخ العربي المجيد، قصة تماثل الموقف، ولكنها تختلف في روح الشخصيات والبطولة قصة أسماء بنت أبي بكر وولدها عبد الله بن الزبير يوم طوقته قوات الحجاج وحاصرته وهو يقاتل في حرم مكة فلم يكن عند (عائشة) أم الأسير الباكي ثبات (أسماء) التي دفعت ولدها إلى الشهادة بينما عائشة تلك دفعت ولدها إلى الخيانة والتنازل عن الحكم ليعيش ابنها أبو عبد الله بعد الاستسلام المخزي طريداً ذليلاً في قرى المغرب. فكانت حرقة شاعرنا بلخير على تلك النهاية الخيانية تثير فيه التمني لعقاب الخونة الأنذال.. وإنه يرى صورة تلك الخيانة قائمة على مدى التاريخ، وإن لذلك الخائن أشباهاً عديدة في أيامنا المعاصرة ولهذا يرفع الشاعر عقيرته: |
ليته مات تحت أقدامهم ذبـ |
ـحاً كذبح النعاج، أو ذبح تيس |
أو أقاموه بين عودين مصلـ |
ـوباً، على باب قصر شيرى بمرس |
لتبقَّى على مدى الدهر تذكا |
راً، لمن باع ملكه ببيع وكس |
يتلقَّى لعن العروبة والإِسـ |
ـلام لحناً على خزاياه حلس |
وهو فرد أشباهه في مدى التـ |
ـاريخ جَمٌّ، لا ينتهون بكنس |
|
هكذا غربت الأندلس، ولم يبقَ اليوم في إسبانيا أي أثر لأمجادهم غير شعار بني الأحمر على شكل (ميدالية) طبع عليها [ولا غالب إلاَّ الله] يتهافت عليها السياح في أسواق غرناطة، ليعلقوها في أعناقهم للذكرى. ويختم شاعرنا ملحمته بصورة حزينة لخروج اللاجئين العرب من الأندلس بقوة الحديد والنار والدم.. وكيف أصبحت حالتهم في المغرب العربي وهم يلوكون ذكرياتهم في فردوسهم المفقود في أحلام يقظة بلهاء مخزية: |
ما تناسوا أبواب دورهم فيـ |
ـها، ولا الساح من قراهم بمنسي |
في صناديقهم، مفاتيحها ذكـ |
ـرى، وفي الذكريـات بعض التأسي |
حلم طالما تغشَّى جفون العـ |
ـرب أن يرجع الذي ضاع أمس |
|
ثم بصورة أخرى للمأساة المعاصرة.. في استمرار المآسي العربية.. فإن ما شاهده العرب وعانوه في الأندلس، على يد النصرانية، من محاكم تفتيش، وحرق لكل معالم الحضارة العربية والإِسلامية. ليشهدونه اليوم في فلسطين، كما شهدوه في (صبرا) و (شاتيلا) على يد الصهيونية، من حرق للمقدسات، وغزو واجتياح للأراضي العربية. فهي ليست إلا مظهراً من مظاهر الاستعمار المعاصر، وتجسيداً لأحقاد الفرنج على العروبة والإِسلام منذ أيام صلاح الدين. إلى اليوم وإلى الغد المظلم المخيف. |
على أن الشاعر متفائل في النهاية، ولا بد من الثأر، ولا بد أن يطل فارس جديد، في صورة عمر. وينهي شاعرنا عبد الله بلخير غرناطة بمشهد ملحمي، نرى ونسمع فيه ذلك القائد (عمر) يقود سراياه بأسلحة حديثة من الطائرات والصواريخ، وخلفه ألف مليون مسلم، ليرعدوا إسرائيل وحكامها، ويبيدوها: |
(عمر) في الطريق للقدس فلينـ |
ـتظر الكون صبح ما كان ممسي |
لكأني به يقود سرايا الـ |
ـفتح تختال في عمائم برس |
فوقه الطائرات قاذفة النيـ |
ـران، ماجت على كتائب طلس |
وهو في عارض ترامى على الأفـ |
ـق صواريخه أشعة شمس |
فاسمعي ما أقول يا قولداما |
ئير كقصف الرعود من غير همس |
ألف مليون مسلم في زوايا الـ |
أرض لن يتركوا فلسطين فاخسي |
|
وإن هذا المشهد الملحمي المثير، ليكشف لنا عن خبايا جعبة بلخير الشعرية الملحمية، التي ما زالت لم تفرغ من كل معاني الشعر الحماسي البطولي.. ما زال لدى شاعرنا عناصر فنية لم يستخدمها في شعره العربي الملحمي. وإن تلك الأبيات الستة لتحرك في قارئها انفعالاً حاداً يبرق بالأمل والتفاؤل والثقة.. وقد تناسى القارئ -من خلال ذلك المشهد الحي- المأساة إلى حين، وتناسى الخيال، والتصق بالواقع البطولي المشرف، وامتد إلى الغد المفرح المشرق. وقد عادت إليه كرامته وزهوه. |
|