رابعاً: الأناشيد العربية |
شهدت بعض الأقطار العربية -التي ابتليت بمختلف أنواع الاستعمار- حركات وطنية، تحررية، تندد بأساليب الاستعمار الوحشية، وتقارع الظلم والاستبداد.. وكان الطلاب هم جذوة تلك الحركات، ووقدة مشتعلة في الأوسـاط الشعبيـة. بما يثيرونه من حماسة وعنفوان في أفئدة الجماهير التي تسمع هدير الطلبـة وهي تنشد الأناشيد الوطنية والعربية، فتلقى تلك الأناشيد صدى قوياً فـي أسمـاع ووجدان الطلبة والشعب. لما تحمله من إيقاع موسيقي حـاد، أشبـه بـ (المارشات) العسكرية، وبما تتضمنه من معاني الفخر والاعتزاز والإباء. وقد استمرت تلك الأناشيد الوطنية والعربية، تتردد من حناجر الطلبة بعد استقلال أوطانهم، كرمز للحرية وجلاء المستعمر. ثم أضيفت أناشيد جديدة تحمل معاني البناء والعمل لتعمير البلدان والأوطان، وإقامة صرح عظيم يقوم على الإيمان والتضحية والجد والعمل والعلم.. فكانت تلك الأناشيد جميعها موسيقى عذبة ونقية تجلو النفوس مما قد يطرأ عليها من صدأ الخمول والضعف.. فتجيء تلك الأناشيد شحنات قوية تعيد لإرادة الشباب وطاقتهم شيئاً من حيويتها ودأبها واستمرار قوتها وإشرا قها. |
وقد افتقدت بعض الأقطار العربية بالمقابل، لظروفها السياسية أو الحضارية، مثل تلك الأناشيد الوطنية والعربية، كبلاد الجزيرة العربية. |
على أن المملكة العربية السعودية لم تخل من محاولات فردية، برزت من خلالها أناشيد عربية. وكان شاعرنا عبد الله بلخير رائداً في محاولاته التي تمخضت أخيراً عن تلك الأناشيد، والتي طبعت عام 1354هـ. أي أنه أنشأها منذ خمسين عاماً، وهو تلميذ على مقاعد مدرسة الفلاح بمكة. وقد رأى -في تلك الحقبة- أن جميع مدارس الدولة لا توجد فيها أهازيج وطنيـة، ولا أناشيـد |
حية تبعث في الأجيال الصاعدة الحماسة والإباء. والشمم والنخوة.. وتزلزلهم من جمودهم وركودهم وانقطاعهم عما يجري حولهم في دنيا العروبة والإسلام.. فقد كانت الصلة مقطوعة، والزيارات معدومة، والتجاوب مفقوداً.. لأن البلاد كانت في عزلة تامة عما حولها في مضمار الثقافة والعلم. ولم يكن أحد قد سمع- أثناء ذلك وبعده- بالأهازيج الحماسية التي كانت تموج بها سورية والعراق بوجه خاص
(1)
.. |
على أنه وفد إلى الحجاز -بعيد إعلان الشريف حسين ثورته على الأتراك- طلائع من بعض أدباء وشعراء وضباط سورية.. كي يلتحقوا بالثورة، منهم: خير الدين الزركلي، وخالد محمد الخطيب، وفؤاد الخطيب، وكامل القصاب، وعمر شاكر.. كما جاء إلى الحجاز نوري السعيد، وعلي جودة الأيوبي، ومحب الدين الخطيب.. فسرَتْ بوجود هؤلاء نسمات جديدة منعشة، وحملوا معهم بعض ما شاع وذاع في الشام من أهازيج الحركة العربية منذ إعلان الدستور العثماني في عام 1908. |
ومع وجود هذا الإرهاص الجديد في البلاد، فإن مدى أثره لدى الأجيال كان محدوداً وباهتاً، لأسباب كثيرة، بينها عدم وجود المجال الحر لتطور جديد، وعدم استعداد البلاد في عهد الحسين لتقبل ما هب عليها فجأة من النوافذ والأبواب إلاَّ أناشيد محدودة قيلت تمجيداً لثورة الحسين من بعض شعراء سورية والحجاز وبقيت الحال على هذا، حتى بدأ الشاعر بلخير يلتقي بالصحف الواردة من بلاد العرب: مصر وسورية ولبنان والعراق والمهجر.. فبدأت تسري في وجدانه وشبابه روح أخذت تهزه وتحركه وتملأ صدره بأنفاس جديدة، وتهب عليه في يسر ونسيس. |
ولذلك فقد فكر بلخير -وهو في مدرسة الفلاح- أن يجاري من حوله من العرب في الصيحة بالشباب عن طريق الأناشيد. فأنشأ تلك الأناشيد عام 1354هـ كما قلنا. وقد بلغ عددها نحو ثلاثين نشيداً، زخرت بروح عربية عابقة بأريج جديد، فيها الإشادة بالوطن والعرب ومكة والحجاز وجزيرة العرب كلها.. والوحدة العربية الشاملة. والإهابة بالشباب إلى العلم والمعرفة والنهضة والمجد أي احتوت على جل مضامين شعره. |
وقد رفع الشاعر عبد الله بلخير تلك الأناشيد لجلالة الملك فيصل -وكان نائب الملك في الحجاز- وقابله، لأنه كان على صلة وثيقة به.. وشرح له ضرورة بعث همم الأجيال، وسد حاجتهم في المدارس إلى هذا اللون من الدعوة إلى العزة والمجد والتجديد.. فرحب الملك بذلك، وأحالها على مجلس الشورى فألفت لجنة لدراستها ثم أقرَّت مديرية المعارف عدداً محدوداً ومنتخباً من ذلك العدد.. وقرر طبعها من قبل الدولة بأمر مجلس الشورى
(2)
، وعممت على المدارس فحفظها، الشباب، وتغنوا بها، وهزجوا بمعانيها وإيقاعاتها في طوابيرهم الصباحية، وفي الحفلات، والدعوات، والمنتديات.. حتى شاعت، وذاعت في أنحاء المملكة. ثم ظهرت الأناشيد المدرسية. |
ولنقرأ بعض الأناشيد الوطنية والعربية لشاعرنا بلخير كعمل ريادي في المملكة، ورغم ظروف البلاد السياسية والفكرية التي أشرنا إليها في الصفحات السابقة.. فإنها تعتبر فتحآ جديدا بمقارنتها بغيرها مما هو موجود في الشام ومصر ولبنان، وتحمل الكثير من سماتها، بل كل أنفاسها وروحها. ومثلها. |
يقول الشاعر بلخير في نشيده [شباب العرب]
(3)
: |
يا شباب العرب مهلا |
زمن القول تولّى |
وهلال الجد هلاّ |
وأتى دور العمل |
نحن في عصر جديد |
نحن في عصر الحديد |
فلنعد ماضي الجدودِ |
بجهادٍ وأمل |
نهض الغربُ ونمنا |
ومضوا هم وقعدنا |
فلهذا قد خسرنا |
حقنا بين الدول |
يا بَني المستعربينا |
وهداةَ العالمينا |
والأباة العادلينا |
من ميامين الأول |
غضبةٌ منكم كبيرة |
تخترق أرض الجزيرة |
تترك العين قريرة |
بالمواضي و الأسل |
|
وعلى هذا النفس والروح والحماسة والالتزام والاندفاع لقضايا أمته العربية، نجده في كل أناشيده الأخرى، الوطنية منها والعربية والدينية.. مثل: الوحدة العربية، وتحية العقم، وكلنا في الحرب جند، يا بني الإسلام، وكن قوياً تحترم، ونشيد الصباح، ومكة المكرمة، والعرب، وكن أبياً، وغيرها من الأناشيد التي تتواكب في معانيها وعاطفتها ورشاقة موسيقاها، وإيقاعها وتأثيرها في النفوس. لتؤكد على شخصية الشاعر في التزامه- منذ نعومة أظفاره وحتى اليوم- بمبادئ ثابتة في التاريخ والدين والفكر والحضارة، ولتظل شخصيته منسجمة- عبر تطورها الزمني- مع عالم الواقع، وعالم المثل، وعالم الغد واستشراف المستقبل. كما سنرى في مختلف ألوانه الشعرية، وقضاياه العربية والإسلامية التي سيطرحها ويتناولها في شعره العربي الأصيل
(4)
. |
|