أولاً: وحْدَة الجزيرة – نجد والحجاز |
وإن الأسس والمبادئ والأهداف التي صنعها الملك عبد العزيز ظلت راسخة في النفوس، وفي مقدمتها وحدة الجزيرة بنجدها وحجازها، التي هي إنجاز كبير رائع. ولقد انطبع ذلك في وجدان بلخير، فراح ينشدها في شعره دوماً، ويغنيها في كل مناسبات قصائده، وأخذ يستمد من تلك الوحدة مواقف شعرية متعددة، وإيحاءات وجدانية لا تحصى. |
ولقد التقت-كما رأينا- نجد بقطر محمد، وتاج نجد بعرش الحجاز، وفرحة نجد بفداء يثرب: |
وعيد جلوس العاهل المنقذ الذي |
تميس به (نجد) وتفديه (يثرب) |
|
إن وحدة الجزيرة لا تفارق ذهنه، وإن هاجسه الأكبر هو تلاحم أتربة هذه الأرض ببعضها، وإن هذا العناق بين نجد والحجاز لينشده الشاعر دوماً في حضرة الملوك، سواء أكان في مرحلة حياته الأولى أم الثانية. ففي لقاء تم في مجلس الملك خالد وبحضور الأمير فهد ولي العهد -آنذاك- أنشد الشاعر قصيدة طويلة عن الصحافة، وقد نوه بذلك اللقاء والعناق حتى بين صحافة البلدين: |
صحافتنا علـى هضبـات (نجـد) |
وفي (الحرمين) مزقـت الحجابـا
(1)
|
|
وحتى عناوين بعض قصائده نجدها مضمخة بتلك الأنفاس وذلك العطر، فملحمته الرائعة التي نظمها في موسم حج عام 1396 (1976) كما ذكرنا تحمل هذا العنوان: "ذكريات يفوح بها أريج مكة وعبير الرياض". |
وإن كانت عواطفه تميل للحجاز- مرتع صباه وذكريات فتوته- وينجذب صوب حضرموت مسقط رأسه.. لكن مشاعره لشبه الجزيرة العربية هي محور شخصيته الوطنية. وقد تمتد إلى بغداد والجنوب لتشمل المنطقة بأسرها: |
شبه الجزيرة موطني وبلادي |
من (حضرموت) إلى حمى (بغداد) |
أشدو بذكراها وأهتـف باسمهـا |
في كـل جمـع حافـل أو نـادي |
منها خلقت، وفـي سبيـل حياتهـا |
سعيي وفي إسعادها إسعادي |
كل له فـي مـن أحـب صبابـةً |
وصبابتي في أمتي وبلادي
(2)
|
|
وتصبح وحدة الجزيرة العربية تحت راية واحدة عقيدة الشاعر وآماله. فيصوغ لنا قصيدة فريدة في مضمونها وروحها ودلالاتها. وتحمل عنواناً: |
متى يجمـع الله (الجزيـرة) كلهـا |
على راية كبرى ترف وتخفق
(3)
|
|
ويستوحي الشاعر من تاريخ الجزيرة القديم حقائق وأفكاراً وصوراً عديدة.. يستخدمها مادة شعرية ويتحول الشعر عنده إلى صفحات تاريخية وجغرافية.. وإنه ليوظف التاريخ أروع توظيف. فمن خلال مزج التاريخ بالشعر، والحقيقة بالصورة، يجعلنا نتابع، رحلته مع العرب في جزيرتهم وخارجها.. إنه ببراعة يحيي الماضي، فنشهد معه تاريخا مشرقاً مشرفاً، فيجعل من العرب وجزيرتهم ملحمة التاريخ ورحلة الحضارة. فيستهل قصيدته بصوت عربي أصيل يصدح بالأمل والثقة والإيمان والزهو والعنفوان: |
متى يجمع الله الجزيرة كلها |
على راية كبرى ترف وتخفق |
جزيرتنا الكبرى منارة مجدنا |
وعالم دنيانا، التي نتعشق |
نذرنا لها أرواحنا، وقلوبنا |
فكل وَأْدٍّ في هواها، يصفق |
ونؤمن إيمان النبيين أنها |
لنا الوطن الأسمى، به نتعلق |
وأن شوا طيها وعالي جبالها |
وصحراءها في مجدها تتألق |
ينابيع موجـات الشعـوب تتابعت |
على الأرض من وديانها تتدفق |
تفيض على ما حولهـا كلمـا امتلت |
فيخضر ما فاضت عليه ويورق |
فتزدهر الدنيا بها، في ازدهارهـا |
بأبنائها، في ما بنـوا، وتسابقـوا
(4)
|
|
ويفيض لنا عن تلك الموجات الحضارية من (عاد) و(ثمود) و(الفينيقيين) و(الأنباط) و(الهكسوس) والممالك والعواصم التي أقاموها، والحدود التي تخطوها، والآثار التي تركوها تروي وبصدق: |
وما زالت الدنيا تسير وراءهم |
تنقب عن آثارهم، وتدقق |
|
وتصل به مشاعر الاعتزاز والافتخار إلى قمتها حين ينشد: |
أولئك أبناء الجزيرة، سل بهم |
إذا رابك الشك، الذين تحققوا |
تعالوا على فجر الزمان وشيدوا |
الممالك، واختالوا بها وتفوقوا |
بهم عرف الناس الحضارات في الورى |
وطافوا المحيطات الكبار وسابقوا |
|
وإن حب الشاعر للرحلات حول العالم، وانطباعاته التي تترجم كل ما يراه بعين قلبه، وبحسه الشعري.. لهي نظرات تعكس التصاقه بالتاريخ العربي، واعتزازه بالحضارة العربية، فرحلات العرب في المحيطات والصحارى تتمخض عطاءً مادياً وروحياً للبشرية جمعاء. |
وإن الفن الشعري لدى عبد الله بلخير يجعلنا- من خلال تلك الرحلات العربية- نتصور وكأننا نجوب معه، ومع قوافله ورحالته وتجّاره، القفار والبحار، نبصر ما تحمله وتنوء به جمالهم من مواد غذائية وصيغة وجواهر، وألبسة وعطور وتوابل.. عبر طريق بري بحري وكأن الشاعر رفيقهم في الرحلة، يشهد الأماكن والمدن تباعاً: |
مراحلها (شبوة) و (كنعا) و (مكة) |
و (حجر) و (تيما) و (الفرات) و (جلق) |
(فأنطاكيا) فـ (الدردنيل) فـ (رومة) . |
ومنها إلى ما حولها تتفرق |
قوافلها مثل النجوم إذا سرى |
بها الليل، في ترحالها تتسابق |
|
ومن تلك الدورة التاريخية الجغرافية الرحلية.. ينتهي بنا الشاعر إلى أن: |
أولئك سكان (الجزيرة) أهلنا |
على دوران الدهر، فيها تلاحقوا |
|
وأن ما قاله عنهم هو الحقيقة، ولا مجال للتلفيق عن أخبارهم، لأن أمجادهم معروفة يعرفها العالم. لذا فواجبنا أن ندرس تلك الأمجاد، ونبحث عن آثارها ونصوص التراث، ونفرق بين الحقائق والأساطير، ونمحصها جيداً ليبقى الأصلح. ثم يلخص نظرته وعقيدته ومفهومه للعروبة والإسلام والقادة بتلك الأبيات: |
على أن أعلى ما تعالت، وباهت (الـ |
ـجزيرة)، في التاريخ، وهي تحلق |
(محمدها). فخر (العروبة) كلها |
و (قايدها الأعلى)، الذي ليس يلحق |
به تتباهى، لا تباهي بغيره |
فـ (عروتهما الوثقى)، بـه تتعلـق |
رسالتها (الإسلام) لا فخـر قبلـه |
ولا بعده، إلا به حين تنطق |
ولا مجد، إلا مجـده، تتعاقـب ألـد |
هور، عليه وهو عقل ومنطق |
|
وإننا لنحس مع عبد الله بلخير في تلك القصيدة وغيرها أنه مؤرخ وشاعر، يصوغ الأخبار التاريخية القديمة صياغة شعرية ممتعة. وإن عودته لذلك الماضي العريق، وذكره للحضارات التي تعاقبت على الأرض العربية، وأقامها العرب في دنيا عروبتهم.. واستنطاقه وإحياءه للتاريخ، وسرده لأعلام الأماكن والبلدان عبر رحلات حضارية تجارية.. كل ذلك لدليل على إيمان الشاعر بالتاريخ العربي، وفهم للعمق الحضاري، ورؤية واستشراف للمستقبل، وتفاؤل لما يمكن أن يعيده الأحفاد -جرياً على درب الأجداد- عسى أن تتحقق أيام العرب، وترجع كما كانت.. وإن الشاعر لينطلق من مبدأ وطني، وروح ملتزمة بقضايا أمته ودينه، قضية الجزيرة العربية في وحدة شاملة. وستتجلى لنا تلك المواقف في ملاحمه التي سنفرد لها فصلاً خاصاً. |
|