تـمهيـد |
سمعتُ من الذين عاشروا الشاعر عبد الله بلخير وتعاملوا معه، واجتمعوا به.. أن الرجل كبير القدر والمنزلة، وأصيل الروح والنفس والشخصية والشاعرية.. كما تنسمت أخباراً عطرة عن الشاعر، في مجالس الأستاذ عبد العزيز الرفاعي. وكان الصديق عبد الرحمن المعمر أول من شجعني على قراءة شعر بلخير، فأمدني ببعض شعره، وأحالني إلى كتابه ومختاراته "وحي الصحراء". الصادر منذ خمسين عاماً. |
فوجدت نفسي مدفوعاً إلى قراءته، كما وجدته قد استدرجني إلى عالمه.. فكان الإعجاب. وطلبت من الأخ المعمر المزيد، فاستجاب. |
وحاولت قدر إمكاناتي الضئيلة، وطاقتي المتواضعة أن أعبر عن ذلك الإعجاب.، فكانت دراسة محدودة، نشرت قسماً منها في مجلة الفيصل، أظهرت فيها شيئاً عن انطباعاتي وتصوراتي، من خلال شعر قليل كان كل ذخيرتي ومصادري في تلك الدراسة. |
حتى جاء اللقاء الذي أجرته معه جريدة "عكاظ "، وإذ تتكشف لي أمور كثيرة عن حياة وشخصية وشعر ذلك الرجل، لم تكن في حسباني قبل ذلك.. وبخاصة ما كنت أظنه: أن الشاعر قد انقطع عن الشعر انقطاعاً تاماً لفترة تكاد تصل إلى نصف قرن. |
فوجدت نفسي مرة ثانية مدفوعاً إلى استكمال الصورة من منبعها، من الشاعر نفسه، كي تتسم كتابتي عنه بالموضوعية والأمانة والدقة.. ومن ثم لتشمل عموم شعره، ولتتحقق لي حرارة المصدر، وتبديد كل غامض، وإضاءة كل مظلم. لذلك طفقت أجري اتصالات هاتفية معه، ثم تطورت إلى رسائل - عبر الهاتف والرسالة- تفيض بالود والحب والثقة والمعرفة وسرعة البديهة.. وتنبجس من قلب وعقل كبيرين. |
فاستطعت بعدها أن أحصل منه على معلومات كافية، ونصوص شعرية لم تكن في يدي من قبل.. فقد زودني كل ما يساعدني على أن تكون الدراسة شاملة ومستكملة الأبعاد على نحو ما.. |
فكان هذا الكتاب الذي أحاول فيه أن أكون صادقا مع نفسي ومشاعري وانطباعاتي.. كما كان قصدي أو هدفي الأول منه هو أن أظهر للقارئ العربي هذه الشخصية الفريدة في عالم الشعر والحياة والمجتمع والحضارة والملحمة.. ولأبين للعالم العربي أن ثمة شعراء أفذاذا في المملكة العربية السعودية، يتفوقون على الكثير من رواد الشعر العربي في أصالتهم وطموحهم، وتجاربهم وتفكيرهم وحماستهم وقوميتهم.. وجدتها كلها في شعر عبد الله بلخير. |
ولقد كان شعره ثورة ومواجهة لما أصاب شعرنا العربي المعاصر. حين تسلل داخل تيار الشعر الحديث جماعة متطرفة في تعاطفها وتأثرها بالاتجاهات الفكرية والفنية الغربية.. ومن ثم وصل تطرفها إلى تبني تراثهم ومنظورهم وتفكيرهم الشعري، من خلال قراءتهم للآداب الغربية مباشرة أو ترجمتها. فأخذت تعجب بها، وتسير وتنسج على منوالها، وتقتفي آثارهم في الصياغة، واستخدام ذات رموزهم وأساطيرهم المغرقة، بأعلام تنتمي إلى جذورهم وأرضهم وبكل دلالاتها التاريخية والدينية. وإذ هي بعيدة عن ناموسنا وأصولنا وجذورنا وأصالتنا. |
فكان شعر بلخير المتصدي بأعلامه ذات الرموز والدلالات العربية والإسلامية تعبيراً عن غنى تاريخنا وديننا وتراثنا وحضارتنا بتلك الدلالات العلمية. |
ولذلك فقد كان شعر بلخير يمثل الوجه الحي الصبوح والمتفائل في رد المتطرفين عن غيهم وانجرافهم وراء الدخيل، كما يمثل دعوة حبيبه للأخذ بالأصيل. |
وحين تبدو في كتابتي، أو تبلغ تعابيري، درجة عالية من التقدير والثناء للرجل والشاعر عبد الله بلخير، فما مرد ذلك إلأ لأني أرى فيه رمزاً للأمة العربية في ماضيها العظيم المشرق، وكأني أتجه بكلماتي المُطرية إلى أصالة وأمجاد تاريخ أمتنا. عسى أن تكون شحذاً للهمم، وبعثاً لتلك الأمجاد من جديد. |
وإن الشاعر بلخير- في تصوري- أحد الفرسان الذين يرون في الأمة العربية فرساً أصيلاً،- كَبَتْ في حلبة السباق، فراح وجماعة الفرسان يقيلون كبوتها كي تواصل اللحاق وتحرز السبق. |
لقد أجمع كل من التقوا بالشاعر وكتبوا عنه، أنه ضنين بشعره على القارئ، وكانوا يتوقون إلى رؤية ديوان يحتضن كل شتات وشوا رد شعره، لأنه ما زال في حوزة الشاعر عبد الله بلخير العديد من القصائد التي لم يطلع عليها أحد، وبخاصة الغزلية والخفيفة والرشيقة منها. |
على أن الكثير من رواد الشعر العربي المعاصر، قد تريثوا في جمع وطباعة دواوينهم التي طال انتظار القراء لها قبل أن يروها مطبوعة. |
ولكن يظل ديوان الشاعر، خير نافذة مشرقة يطل منها الدارسون إلى عالم الشاعر الخاص والعام. لذلك فإني أضم صوتي لصوت محبي شعر بلخير، في الإلحاح على شاعرنا كي يسارع إلى إخراج كل شعره إلى النور.. عسى أن يتيح للباحثين عن الشعر السعودي المعاصر الوقوف على بعض الخصائص الجديدة من خلال شعر بلخير. |
وإن ما قدمته عن الشاعر بلخير من انطباعات عن شعره ومعانيه الوطنية والقومية والدينية، وملاحمه الإسلامية والأندلسية.. وعن مكانته في مدرسة الإحياء والشعر العمودي، وشاعريته وفنه الشعري.. لأرجو- من كل ذلك- أن يكون فتحاً لأبواب عالم بلخير الشعري، وحافزاً للدارسين والمتخصصين كي يقعوا على معالم جديدة من ذلك العالم الشعري البلخيري عالم الأصالة، الذي يجسد صورة التمسك والمحافظة على النقاء والجوهر والمثالية التي تسكن قيمنا الشعرية والعربية والله الموفق. |
|
|