ماذا لِمَنْ هامَ، أو شطّتْ به الدّارُ |
إلاَّ الحنين إليها؛ والتِّذِكّارُ؟ |
أو التّساؤلُ.. والوجدان موّارُ. |
""صنعاء" هل في النَّديّ السَّمح أسمارُ |
كما مضى من ليالينا وسُمّارُ؟" |
وهل مساجدها ملأى بسادتِها؟ |
وهلْ "مفارجُها" تزهو بقادتها؟: |
"بقاتِها" وأغانيها، وغادتها… |
"وهل رخيّ العشايا مثل عادتها: |
شعرٌ وأشواقُ عُشاقٍ وأَسرارُ؟" |
شعر الهيام، وأشواق الأُلى تلِفَتْ |
أرواحُهم بالهوى السّامي كما شَرُفَتْ. |
أسرارهم بضحاياها؛ وما أسِفَتْ |
"تفدي الحِسانَ الجميلات التي التَحفَتْ |
بمِئزر اللّيل؛ أرواحٌ وأبصارُ" |
وهُنَّ؛ مَنْ هنَّ؟ أهواءٌ قد ابتدأتْ |
"بآدمٍ" و"بحوّى"، ثمَّ ما فتِئَتْ.. |
تُكْوَى بنارِ الهوى حتّى إذا انْطَفَأَتْ. |
"توهّجتْ بالشَهيِّ العذْب واختبأتْ |
خَلْفَ الدُّخان.. وتفْشِي سرَّها النّارُ"؟ |
نَارٌ إذا قَرْمَذَتْ مكراً مراشِفَها |
أغرتْ؛ وإنْ سَمَحَتْ لم تُرْوِ راشفَها |
وإن توارتْ كوتْ بالوجود كاشفَها |
"ضمَّتْ على الوهَج الطَّاغي "شراشِفَها" |
و"للشراشِفِ" إعلانٌ وإسرارُ"! |
إعلانُ كلّ جميلٍ عن وسائِلِهِ |
للصَّيدِ؛ في طَرْفِهِ، أو في جدائِلِه |
أو في مباسمِهِ، أو في دخائلِهِ.. |
"خلفَ الرَّقيق المدلَّى من غلائله؛ |
غيمٌ، وصحوٌ، وجنّاتٌ وأنهارُ": |
والغيمُ -لهف الهوى والحبّ- يصطخبُ، |
والصَّحو -صحو الصِّبا والشوقُ- ينتحِبُ، |
لِلْوصل في جنَّةِ الأسرار يرتقبُ.. |
"لِسارحِ النزوات الهِيم مُضْطَرَبُ |
فيها.. وللصَّبوات البكرِ أسفارُ". |
* * * |
مفاتنُ الحسنِ تُسْبينا فتَنْهَبُها |
عيونُنا، وبِسِحْر الشِّعرِ نطربُها |
وقد نُجنّ بها حُبّاً فنُرعبُها |
"مراتِعٌ تمنح النّعمى وتسلبُها |
صُنع الجمال؛ وهل لِلْحُسن أوزارُ"؟ |
لا.. فالغرامُ إذا هاجتْ دوافِعُهُ |
أو عربَدَتْ بأغانيهِ سواجعُهُ |
استعذب المرَّ عاصِيه وطائعُهُ |
"لِلْجُرحِ فيه إذا نزّت مواجعُهُ |
شذىً، ولِلْحُلُمِ المقصوفِ أَزهارُ". |
مدينةَ الحُبّ ما تنفكّ صبوتُها |
بالشِّعر والعشقِ لا تَفْنَى، ولهفتُها.. |
أنشودة الدَّهْر تُصْبي الكونَ نغمتُها |
"صنعاء" أغفت على الأزمانِ فتنتُها |
فدونها من وراء السّور أسوارُ"! |
أسوارُ أسرارِ ماضيها الذي أَنِسَتْ |
به اللّيالي، وربات الصِّبا اختلَسَتْ |
منه.. فنُونَ الهوى والسّحر واقتبسَتْ.. |
"إذا مشيتَ على حَصبائها هَمَسَتْ |
شعراً، وباح بسرِّ الشوق قِيثارُ". |
وأينما جُلْتَ فالتاريخ ماثِلةٌ |
أشباحُه، وهْيَ كالألباب ذاهِلةٌ |
إذ قد يُريبكَ شكٌ أو مسائلَةٌ |
"وغازلتكَ من الجدران خاجلةٌ |
من الثُّقوب قديماتٌ وأحجارُ"! |
وربّما انداح صوتٌ من مغرّدةٍ |
على الغصونِ، ولحن ٌمن مُعَذَّبةٍ |
بالهجر، أو من غريبٍ، أو مشرّدةٍ.. |
"وأسمعتْكَ السَّواني نَوحَ متعبةٍ |
تشكوه "لِلْمَرنعِ" المهجورِ آبارُ"! |
فذُبتَ من وحشة الذكرى بلا سببٍ |
تدري؛ وهوَّمتَ في دوّامةِ الكُرَبِ، |
كم نال ماضيكَ من حظٍ ومن أربِ.. |
"تندى الأَصائِل من شعرٍ ومن طرب |
وتنتشي برَحيق الذكرِ أسحارُ". |
"صنعاء" كم تهتُ في دنيا محاسنها |
وكم قطفتُ الأماني من مفاتِنِها، |
وكم وقفتُ أصلّي في "زنازِنها" |
"ينسابُ كالبُرْءِ من عالي مآذنها |
في هدأة اللَّيل تسبيحٌ وأذكارُ" |
* * * |
هذا حنين "ابن صنعا" إذ يُغرّدُهُ |
يُصغي إليه الدُّجى الفجر يُنشِدهُ، |
لحناً ترقّ له الدنيا فتعبدُه.. |
"أما الطغاة فتاريخٌ تُردّدُهُ |
شوامخٌ من روابيها، وأغوارُ". |
ما بين فَدْمٍ وجَبّار الهوى شرس |
يستعذبونَ عذاب الناقدِ النُّطُسِ |
عاشوا، ولكن حياةَ البغي والدَّنسِ.. |
"مرّوا عليها فجُرحٌ غير منطمِس |
على الجبين، وَفي العَيْنَينِ أكدارُ". |
توهّموا أنَّهم عن جدّهم ورثوا |
صكّ الخلود؛ فلا موتٌ ولا جدَثُ، |
ولا حصاد لما في أرضهم حرثوا.. |
"ظنّوا العرينَ لهم مَرْعَى وما لبثوا |
إلاَّ قليلاً؛ ومات الخزي فالعارُ". |
ظلّوا أسارى هوى الآثام؛ تجمعُهُمْ |
عُرى الغباء، ولؤم الطبع يصدعُهُمْ، |
وربّما عربدتْ خُبثاً مطامعُهُمْ |
"حيناً يسومونها خَسْفاً فتوسعُهُمْ |
عُقوبةٌ يبلغ الرضْوى بها الثارُ". |
هُمُو "اليعافِرُ" ضلّوا في ضلالتِهِمْ |
واستعرمت للهدى طبعاً عدواتهمْ |
فهم بأوزارهم صرعى شقاوتهم |
"وهم على الغيّ ما تُرجَى إفاقتُهُمْ |
كأن بعضَهم للبعضِ تكرارُ"! |
* * * |
أنا الذي نُوبُ الأَيّام تعرفُهُ |
حرباً وسِلماً؛ فتشقيهِ، وتُنصِفُهُ |
مسافرٌ؛ ليس يدري أين موقفُهُ |
"واهاً لمضطَرِب في الأرض يقذفُهُ |
للشرق نوءٌ.. ونحو الغرب إعصارُ". |
ما انفك مغترباً تُزجي أعِنَّتَهُ |
هوجُ الرياح، ويذكي العزم هِمَّتَهُ |
مهاجراً مخلصاً للحقِّ دعوتَهُ |
"قد لوَّحت قبلات الشمس جبهتَهُ |
وفي مفارقه لِلثّلج آثارُ"! |
"خمسين عاماً" يجوب الكون ينتظرُ |
أن يستجيب لباكي صوتهِ القدرُ.. |
فيظهر العدلُ في الدنيا وينتصرُ، |
"على المنافي من أشعارِه أثرُ |
وفيه منهنّ مثل الجرح تذكارُ" |
واللهُ يعلَمُ مَن أوفوا وما غدروا |
بالعهدِ فسقاً، ومن خانوا وما اعتذروا. |
وفي "الملفّات" من أقوالهم صورُ |
"وعندها عنهُ من أفعالِه خبرُ |
وعِندَهُ من مجانيهنّ أخبار"! |
رُضْتُ الحياةَ شجاع الرأي مُنْتَبِهاً |
لكُلِّ ما تحت نابَيْها ومِخْلَبِهَا، |
بين الدّواهي؛ ولم أحفلْ بمتعبِها، |
"بلوتُها، وبَلَتْني، واكتشفتُ بها |
ما غيّبته عن الأبصار أستارُ. |
لم يَطَّبِ القلبَ وشيٌ في خَمائِلِها |
ولا تصبّاهُ سحرٌ من وسائلها، |
وظلّ يحفظُ أمثالاً لقائِلها |
"خلائقُ الناسِ كم غطّت مباذِلُها |
مُوشّياتٌ من الدعوى وأَطمارُ" |
كم في الورى من لئيم خُبْثُ طلْعتِهِ |
تُنبيكَ عمّا يُخبّي في طويتِهِ |
ومن فقيهٍ؛ نِفَاقٌ مِلء جُبّتِهِ! |
"من كلّ زارع زهرٍ في أسِرّتِهِ |
وفي سرِيرته للغدر أوكارُ"! |
يُطْريكَ ما دام مُحتاجاً ومُنْتَبَذاً |
فإن "تَمرعَشَ" واسْتَغْنى طغى وهَذى: |
سبّاً وشتماً وإفكاً مُخزياً وأَذى، |
"يَسعى إليكَ، وحلوٌ قولُه؛ فإذا |
ما غِبتَ عَنْهُ؛ فأنيابٌ وأظفارُ" |
يروي المكارمَ عن صيدِ الملوكِ وعن |
"آل الرسولِ" وأبناء "البتولِ" ومَنْ |
سنّوا بأَعْمَالهم للنّاس خير سنَنْ، |
"يُعَطِّر القولَ بالذِّكر الحكيم فإن |
أفضى إلى الفعل، فالشيطانُ أمّارُ،" |
هُمُ الأُلى خَبُثَتْ طبعاً سرائرهمْ، |
ولُوِّثَتْ بمخازيهمْ ضمائرُهمْ، |
قد أدْمَنَ الإِثمَ ماضيهمْ وحاضرهُمْ. |
"من مُشترين ضلالاً بالهدى ولهمْ |
دعوى كأنهمو للهِ أصهارُ"! |
قالوا.. لأَن "وليّ الله" جدّهموا |
فهم من الذَّنب والعِصيان قد عُصِموا |
والنَّاس أعبدهمْ، والأرض مِلكهموا |
"يستكثرون من الدعْوى وحَظّهموا |
من الحقيقة دون الصِّفْرِ أصفارُ" |
عَمُوا وصمُّوا، وتاهوا في ضَلالتِهمْ |
واستكبروا، وتمادَوا في جَهالَتِهِمْ، |
وعربدوا كالنّشاوى في غوايتهِمْ، |
"لم يمنحوا الله شيئاً في ضمائرِهمْ |
وباسْمه في حقوقِ الخلْقِ تجَّارُ"! |
ويْحَ الأُلى لم يخافوا سُوءَ عاقبةٍ |
فاستهتروا، واستباحوا كلّ فاحِشَةٍ |
ولم يصيخوا لنصحٍ أو لزاجرةٍ |
"رذيلةٌ رفضتْها كلُّ سائمةٍ، |
وسامَها من بني الإِنسانِ ختَّارُ"! |
* * * |
أخنتْ على العُربِ في الدُّنيا جهالتُهمْ |
لما استخفّ بشرعِ الله قادتُهم، |
قد أسرفوا؛ فأبادتهُمْ شقاوتهُمْ |
"لذا ابتُلينا بمنْ سادت حضارتُهُمْ |
ومَن على الأرض والإِنسان قد جاروا" |
سادوا، فَراياتُهم بالعزِّ عالِيةٌ |
تُغريهموا، وقطوفُ النَّصرِ دانيةٌ، |
والجندُ أصواتهم بالرُّعْب داويةٌ |
"تحكّموا؛ فالرؤوسُ الشمُّ حانيةٌ |
و"استعمروا" فالمروجُ الخضر أقفارُ" |
عَزُّوا فَبزُّوا، وهان العربُ فانْهزموا |
كذاك كنّا وكانوا قبلُ لَوْ فَهِموا |
ما ضرّ لو جاملونا اليومَ، واحترموا!؟ |
"ظنّوا الزّمانَ لهم مِلكاً، وماعَلِموا |
أن الحضارة أطوارٌ وأدوارُ" |
ألم يكونوا عرايا في قبائِلهمْ |
مثل القرود؟ وحوشاً في وسائِلهمْ |
مُسْتَعْبَدِين لغازيهم وقاتِلهِمْ؟ |
"الأرض لم يرثوها عن أوائلِهم |
وتعرفُ الأرضُ أَن النّاسَ أحرارُ"! |
ونحن من نَصَّ لِلْعمران رايتَهُ |
وبثّ في هذه الدّنيا حضارتَهُ، |
حضارةَ الخير يُهْدِي الكونَ آيتَهُ، |
"بِنا؛ نعَمْ! رفع الإِنسانُ هامتَهُ، |
وقام للعدلِ ركنٌ ليس ينهارُ"! |
قانونُه رحمةٌ كبرى برامجُها |
دقَّتْ وجلَّتْ لأنَّ اللهَ ناسِجُهَا، |
الحقّ والخير، والتَّقوى وشائجها… |
"شريعةٌ تسع الدنيا مناهجها |
في الحرب والسِّلم تمدينٌ وإِعمارُ". |
سادت قروناً على الدنيا وما انغلبت |
إن سُولمتْ سالمَتْ، أو حُورِبَتْ حربَتْ |
وما اعتدتْ، ولغير الله ما غضبَتْ |
"لكنّ قوماً على أعقابِها انقلَبَتْ |
فهم على الحقّ -لا للْحقِّ- أنصارُ"! |
لم يستقيموا على النّهج السَّويّ، ولا |
طابوا سلوكاً، ولا قولاً، ولا عملاً… |
حتى غدوا للمَخَازي في الورى مثَلاً، |
"هموا الخلائف للْمستعمِرين على |
جهالةٍ تُؤْثر اللَّخنا، وتختارُ"، |
توزّعوا المال والسّلطان بينهمو |
كأنّما كل شيءٍ كانَ مِلكهموا |
إن عاهدوا غدروا أو حُكِّموا ظلموا.. |
"على مخازيهموُ ناموا، وما حلموا |
إلاَّ بأنّهموا في اللّيلِ أقمارُ" |
وقد عرفنا أناساً من أوائلِهِمْ |
كما اختلطْنا بقومٍ من أسافِلِهِمْ |
تشابهوا "كالقوافي" في رذائِلهمْ |
"ومبلغُ العلم فيهم أن عالِمَهُمْ |
فَدْمٌ، وأوفاهمو بالعهد غدّارُ" |
* * * |
لكن؛ وقل للأُلى تاهوا بلا هدفِ |
يُرْجى، وقد هلكوا بالجهل والترفِ، |
كيف الحياة بلا دينٍ ولا شرفِ؟ |
"نشكو على "القدس" غلواء اليهودِ وفي |
ديارنا اليومَ أَشباهٌ وأنظارُ" |
من كلّ غرٍّ على البهتان مَرّسَهُ |
حبر الضلال، وربّاهُ و"أبلَسَهُ" |
فألّه المالَ مفتوناً وقدسَهُ |
"أستغفر الشعر؛ ذنبٌ أن يدنّسَهُ |
من مهجع القوم عند الفجر زُوَّارُ" |
ويْحَ العروبة من أبنائها الغُدُرِ |
المتخمين من الآثام والبَطَرِ |
واعذِرْ لساني إذا ما زلَّ، واغتَفرِ.. |
"أردت أعزف أشجاني على وتري |
فاستعجلَتْ باللَّحون الحُمر أوتارُ"! |
* * * |
أنا "ابن صنعا" الّذي من دونما تِرة |
نَزَحْتُ عنها أعاني كلّ موجعةِ |
أصيحُ.. شوقاً إليها كلّ آونة |
"إيهاً ليالي الحِمى هل من مشرّقةٍ |
لنازح في أقاصي الغرب أخبارُ"؟ |
كيف السلوّ ودار الفنّ نائيةٌ |
عنّي وأخبارها بالحزن لاغيةٌ |
تقول: قد دهتِ النّدمان داهيةٌ |
"تُدار كأسُ النّدامى وهي باكِيَةٌ |
ويبدأ الوتر الشادي فيحتارُ" |
يغصّ باللَّحنِ شجواً أو يموت به.. |
وينطق الصمتُ؛ عند الصمت أسرارُ |
غشّى النديَّ عبيرٌ من مجامرِه |
وعائدٌ من طيوفِ الذّكْرِ قهّارُ |
وخاشِع لم يزل يتلو مواجدَهُ |
له إلى الشوقِ إيرادٌ وإصدارُ، |
إذا تذكّر من أحبابِه وطَراً.. |
نأتْ به عن حِمَى الأحباب أوطارُ |