قفوا اليومَ يا أهلَ النّهى والبصائرِ |
لِتكريم شيخ "الرافدين الجواهري" |
قِفوا اليومَ.. في "أعلى الممالِك" نحتفي |
بأشجع ذي رأي، وأصدقِ شاعرِ |
وما كان أحرى أن نكرّم مِثلَهُ |
"بصنعاء" أو"بغداد" أو في "الجزائر"! |
ففي كلّ صقعٍ للْعروبةِ شِعْرُهُ |
ترانيم شادٍ، أو مدامة سامرِ؛ |
ولكن؛ لعلّ الشعر أجدبَ ربعُهُ. |
فهام بنوهُ شُرّداً في المهاجرِ؛ |
* * * |
أرى شعراء العرب ما بين موثقٍ |
حبيسٍ؛ وحُرٍّ في المفاوز حائرِ، |
وقد وُرّثوا هذا الشقاء قَضَتْ به |
عليهم مغبّات الجُدودِ العواثرِ؛ |
فقِدماً بكى "لمّا رأى الدرب دونه" |
صديقُ "امرئ القيس" الأميرِ المغامِر |
فقال له: "لا تبك عيناك" إنّنا |
شرائد مُلْكٍ، أو نشاوى معاذرِ، |
و"حاول مُلْكاً" ثمَّ عُفِّر دونه |
بسفح "عَسِيب" بالجراح الفواغرِ؛ |
و"نابغة النّعمان" هام مشرّداً |
يخاف خطاطيف النجوم الزّواهرِ |
و"بشار" من بعد "ابن حِطّان" مُزِّقَتْ |
ترائِبُهُ بالمرهفاتِ البواترِ. |
وشاعرنا "الكنديّ" "أحمد" قد قضى |
صريعاً بسيفٍ فاتكِ الحدِّ غادرِ |
وعزم "صلاح الدين" ساق "عمارةً" |
إلى الموت لم يرحمْ دموعَ الحرائر! |
وفي وطني كم قد تصرّعَ شاعرٌ |
بسيف "إمام"، أو رصاص تآمرِ |
ولو شِئت لم أنس "الزبيري" ولم أعج |
على "زيد" إلاَّ بالدموع الهوامرِ! |
وشاعرُنا "مهدي" تقضّى شبابُهُ |
أسير المنافي، والخطوب الفواقرِ |
يسافر؛ لا يدري إلى أين؛ أو متى |
سيُلقي بلا خوفٍ عصاةَ المسافرِ؟! |
وفي قلبه مما يكنّ معاركٌ |
نوازع شتّى من مُنىً وخواطرِ، |
إذا بات في "موسكو" فإن حنينَه |
وأشجانَه في سفح "حزْوى" و"حاجرِ"؛ |
وإن كان في "باريس" ظل فؤاده |
يناغي رُبا "عَبَّاسَةٍ"، أو "تُماضِر"! |
يعيش مع "الأعراب" في فلواتهم |
يناشدهم أشعارَ بكرٍ، و"عامرِ". |
ويعلم ما لا يعلمون؛ ويبعث القوافي نذيراً صارخاً بالزواجرِ؛ |
ويرجو تآخيهم، ويخشى اندفاعهم، |
وإيغالهم في موبقات المخاطرِ، |
وكلّ مناه أن يُخلّص قومَهُ |
من الجهل أو من حُكْمِ طاغٍ وجائرِ، |
وما إن يخاف الظلمَ إن سامَهم بهِ |
عدوٌّ؛ ولكنْ ظلم أهل الأواصرِ |
"وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً. |
على النفس من وقع القَنَا والبواترِ". |
* * * |
وما زال مذ "سبعين عاماً" ونيّفاً |
يهزّ البرايا بالقوافي السواحرِ، |
يغوص بأعماق "البحور" وينتقي |
فرائد ما يُصبي النّهى من جواهرِ، |
قلائد لا تبلى، ويُزْري بديعُها |
بكل نفيسٍ من جديدٍ وغابرِ؛ |
ويرسلُها حيناً أناشيدَ غاضبٍ |
تزلزل أقدام الطغاةِ القياصرِ |
وحيناً يغنّيها أغاريدَ صَبْوةٍ |
وعِشقٍ، وأحياناً "زوامل" ثائرِ! |
يوقّع حتى للجنائز باكياً.. |
تراتيل تُشجي من ثوى في المقابرِ! |
يشيدُ بأبطال الحياة ومن قضى |
شهيدَ جهادٍ، أو ذبيحَ مشاعرِ؛ |
إذا هدرت يوماً قوافي قريضهِ |
تزعزعَ منها كلُّ عاتٍ وفاجرِ، |
وإن صدَحَتْ ألحانُه خرَّ خاشِعاً . |
لها قلب مشتاقٍ وصبٍّ مصابرِ . |
* * * |
تشامخَ في الدنيا سلوكاً وفطرةً |
فكان بهذا العصر إِحْدىالنَّوادرِ |
ظواهرُ عاصٍ في سريرة طيّعٍ |
ورشد فقيهٍ، في تمرّد سادر! |
ولولا التقى قلت المقادير تارةً |
تروض الورى ما بين وقتٍ وآخرِ؛ |
بما لا يطيق الفيلسوف اكتناهَهُ |
وتأويلَه حتّى بكدّ الخواطرِ؛ |
وكم صورٍ في الكون تجتاحنا؛ وكم |
نعاني، ونَلْقَى من صنوف المناكرِ؛ |
إذا ما نطقنا قيل ضلّوا وأفسدوا |
وإن لمْ؛ هلكْنا تحت وخز الضمائر؛ |
* * * |
هو الشعر؛ موسيقى الحياة، وُجودُنا |
به، وله، ملهاة زمْرٍ وزامرِ، |
على نغمات الشعر يرقص كلّ ما |
نحسّ به من كل بادٍ وحاضرِ، |
فإن أقبلت تلك القوافي حزينةً |
تبكّي، وتشكو جرأة المتشاعرِ |
فكفكفْ دموعاً لم يصونوا عيونَها، |
وقد مزَّقوا أوزانَها بالخناجر؛ |
فجاؤوا بها شوهاء رقصاً ونغمةً |
فلا نبرة فيها لتغريد طائر؛ |
* * * |
أيا شاعري؛ ما بالا أمة "يعرب" |
تذوبُ وتفنى في أتون التناحر؟ |
أنحن ضحايا الانقراض؛ وهذه |
علامات آيات الهلاك "الدّناصري"؟ |
كما هلكت "عادٌ" ومن قبلها فنتْ |
"ثمود" ومن باتوا حديث الدفاترِ؛ |
وها نحن في نفسي الأتون؛ فهل ترى |
نُجابِهُ ما قد جاَبَهُوا من مصائرِ؟ |
وهل من دواءٍ للنزاع الذي به |
غدونا ضحايا كل قالٍ، وساخرِ؟ |
* * * |
أخي في القوافي والمنافي، وفي المنى |
ورفض الدَّنايا، وافتراع المنابرِ؛ |
رضينا بما قد كان؛ لم نخشَ سيداً |
مطاعاً. ولم نرضخ لبَطش العساكرِ! |
ولا انقمعَتْ هاماتنا برزيّةٍ، |
ولا انخَلَبَتْ أبصارُنا بالمظاهرِ |
وظَلْنَا جنود الحقّ ننصر من دعا |
إليه، ونرعى كلّ حرٍّ وثائرِ…! |
وماذا ترى أسمى وأشرف في الدُّنا، |
ويوم التنادي، وابتلاء السرائرِ؟! |
* * * |
قفوا اليوم أرباب النّهى والبصائرِ |
لشاعرنا الخِنْذيذِ "مهدي الجواهري" |
وقولوا معي: هذا الذي ظلّ وحدَهُ |
ثمانينَ حولاً وهو أصدق شاعرِ. |