شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الأستاذ عبد الفتاح أبي مدين ))
ويستأذن الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين الحاضرين لإِلقاء كلمة يشارك بها في تكريم الأستاذ الشاعر محمود عارف فيقول:
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
- ماذا أقول بعدما سمعت، لقد تحدث أساتذتنا وأصدقاؤنا عن أستاذي وصديقي الأستاذ/ محمود عارف، ولكنني سأورد بعض الذكريات، وهذه الذكريات ترجع إلى خمس وثلاثين سنة، أي: في عام ثمانية وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
- عرفت هذا الصديق مصادفة في دكان الحلاق الشيخ حسن أسطه، كنت أعبر من شارع قابل وأسلِّم على هذا الرجل الشيخ، وبالمصادفة كان عنده الأستاذ محمود عارف، وكنت قد عرفت اسمه قبل أن ألاقيه، فيما أقرأ له من القصائد في جريدة المدينة، وفي البلاد السعودية، وأحسست بالحاجة إلى أن أدرس ما فاتني من الدراسة، فدراستي في مدرسة العلوم الشرعية كانت قصيرة، ثم قسرتني ظروف الحياة على أن أترك الدراسة، وأعمل لأعيش، ولكن هاجس الثقافة وهاجس المعرفة ظلاَّ يلاحقانني في كل مكان.
- وحينما عرفت صديقي وأستاذي محمود عارف، رجوت أن أستفيد من ثقافته ومن أدبه، فبدأت العلاقة، وبدأت المعرفة، ورجوته أن أدرس على يديه بعض الكتب، وأنا لا أحسن الكتابة، ولا أحسن حتى القراءة الجيدة، واقترح عليَّ أن نبدأ بنظرات المنفلوطي - رحمه الله - كان مدرسة للذين يتلقّون المعرفة الأولية، أو المعرفة العميقة في تعبيرات المنفلوطي وأسلوبه، فهو كان ساحراً وكاتباً يشد قارئه، وفضل صديقي الأستاذ محمود عارف بأن أقرأ عليه النظرات، كان يسعى إليَّ ولم أسعَ إليه، مع أن العلم يسعى إليه.
- فكان يمر بي كل يوم بعد العصر، في مقعد صغير في بيت آل راجح بالمظلوم وأقرأ عليه فصلاً من النظرات، ويطلب إليَّ أن ألخصه في اليوم الثاني، فأفعل ذلك، وقويت العلاقة، وامتدت، ومرت السنون حتى فكرت والصديق محمد سعيد باعشن أن نصدر جريدة الأضواء، فعجب أستاذنا وشيخنا ونحن موظفان في الحكومة برواتب زهيدة في ذلك الوقت، في عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين، كيف يصدر هذان الشابان الغران، صحيفة في بلد يعجُّ بالمثقفين والأدباء والكتاب؟
- ولكنها كانت مغامرة من مغامرات الشباب، فكانت الفكرة في البداية ونحن شباب نفتِّش عن الشهرة كما يفتش عليها غيرنا، أن نجمع مقالات من الكتاب، لنخرجها في كتاب كما صنع صديقنا الأستاذ عبد السلام الساسي - رحمه الله -، وانتهت الفكرة إلى أن نصدر صحيفة، وحصلنا على امتياز الصحيفة وليس بيدنا مال، وأصدرنا الأضواء، وفوجئ صديقي وأستاذي محمود عارف بذلك، فقال: إنه كان يفكر والشيخ أنور أبو الجدايل أن يصدرا صحيفة في جدة، ولكنّنا سبقناهما، وقطعنا عليهما الطريق، وكان بلا شك الأستاذ محمود عارف العضد، وكان المعين، وكان المرشد، وكان الناصح، وكان الذي يكبح جماحنا.
- وبالمناسبة أذكر حادثة، فقد ذهبت وصديقي محمد سعيد باعشن إلى الأستاذ محمود رضا في مؤسسة الشربتلي "مؤسسة الصحافة والنشر في كيلو خمسة"، لنفاوضه في طبع الأضواء، وبينما نحن جالسان عنده، مرَّ الشاعر الكبير أحمد إبراهيم غزاوي، - يرحمه الله -، مرَّ بنا وسأل الأستاذ محمود رضا: من هذان الشابان؟ فقال له: هما فلان وفلان، جاءا ليطبعا عندنا صحيفة، والشيخ الغزاوي كان في ذلك الوقت، وحتى توفاه الله رجلاً عملاقاً، له صوته الجهوري، وله شجاعته، وله شخصيته، فهو شاعر الملك، لقد بادرنا وأخافنا حينما هزَّ عصاه في الهواء، بأنه سيضرب كل من ينتقده.ومن ينتقد شاعر الملك؟ ولكنني أسررتها في نفسي. ومرَّت الأيام، ومرض الملك سعود - يرحمه الله - وذهب إلى أمريكا ليتداوى وحينما عاد، احتفلت به البلاد، وأقيم له حفل في فندق قصر الكندرة، وجاء الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي، وألقى قصيدة بهذه المناسبة لم تعجبني، فهو قد قلَّد المتنبي في قصيدته التي مطلعها:
المجد عوفي إن عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
- فقال الشيخ الغزاوي:
الشعب عوفي إذ عوفيت والأدب
وزال عنك إلى أعدائك العطب
- وجاء في بعض أبياتها كلمات لم تعجبني مواقعها شعراً منها:
والرجع والصدع والأسنـان والركــب
واستوى الماء والخشب
 
- .. فوجدتها فرصة لأن أتصدى للشاعر الكبير، وأنا رجل ضعيف صغير، لا جاه ولا مال، ولا سند إلاَّ الله، ولكنني قدَّمت لهذه القصيدة بتقدمة تحميني من السلطان، فالقصيدة قد قيلت في الملك، وأنا أنتقد قصيدة قيلت في ملك، إنه موقف خطير، فكتبت مقدمة قلت فيها، إن المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة نكبرها، ونشكر الله على أن عافى أبا الشعب كما كنا نكنيه في ذلك الوقت، فهذه المناسبة مناسبة عظيمة، نحن كلنا فرحون بها، وشاكرون الله على فضله، الذي منَّ على ملك البلاد بالصحة والعافية.
- أما القصيدة كأثر أدبي فهي موضع هذا النقد، وبدأت أفلِّي القصيدة وأخرج معايبها لأخلصَ أو لأقابلَ الشيخ الغزاوي بتلك العصا، التي كاد أن يهوي بها على رأسينا وهو يلوح بها في الفضاء ونقدت القصيدة نقداً مريراً بلا شك، ولعلي نشرْتُ النقد في كتاب أمواج وأثباج، وقد انعكس جزاء نقدي هذه القصيدة على الأستاذ الصديق الأستاذ محمود عارف، حيث ظن الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي أنه هو الذي دفعنا إلى ذلك النقد، فرشَّحه ضمن لجنة تطوف المملكة لتستقصي أملاك الدولة ممثلاً لمجلس الشورى فيها عقاباً له على فعلته، واستغرقت الرحلة ستة أشهر أو تزيد قليلاً عاد بعدها ليقول لنا: إذا أردتم استمرار صداقتنا فأرجو أن تتركوا هذا الرجل وشأنه، فكلما نقدتموه، سينعكس أثر ذلك عليَّ.وأشهد للحق وللتاريخ أن الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي كان سمحاً، وكان كريماً، وكان وفياً، فكنا نصدر على رأس كل سنة عدداً خاصاً من الرائد أو من الأضواء، ونطلب إليه أن يشارك فكان يلبي، فبعث إلينا ذات مرة قصيدة نشرت في الأضواء من عيون الشعر ومن خير الشعر، أثنى فيها على جدة، وعلى أهلها، وعلى شاطئها، التعبير الذي جاء به أستاذنا زيدان، في أخلاق هذا البلد وفي أهله، واستمرت الصداقة والعلاقة.
- ثم بدأت "الرائد"، وبدأت المعارك مع الأستاذ علي العمير وهو شاهد حال، وراشد الحمدان، وأنا كصاحب جريدة أريد التوازن وأريد للجريدة الرواج، وأصنع كما يصنع صديقي المناع هذه الأيام، نثير الشغب والغبار لنوجد معركة لترويج الصحيفة، أو لنوجد مُناخاً من المعارك فكان الأستاذ العمير كما وصفْتُه والأستاذ راشد الحمدان يأخذان العصا ويخرجان إلى الشارع ليضربا الناس بالحق وبالباطل، وكنت أعلن بعض الأوقات مغالطة مني أو لأحيِّد نفسي وأزعم بأني من أهل الأعراف، لا أميل إلى الشيوخ ولا أميل إلى الشباب، وكُنت أُتَّهم من الأستاذ العمير ومن راشد الحمدان بأني أتحيز للشيوخ، وكان الهجوم عنيفاً وكانت الحرب قاسية وكنت في موقف لا أحسد عليه.
- فإذا لم أنشر للشباب اتهمتُ بالتحيز للشيوخ، وإذا نشرت لهم فهو نكران لدور الشيوخ، لأنهم أصحاب تجربة ولأنهم مهدوا الطريق، ولأنهم عاشوا في ظروف صعبة بلا شك، فهؤلاء الشباب الذين جاءوا بعدهم يتبعون هذه السنن، "إن اللاحق ينكر على السابق"، ومع ذلك كنت أمسك العصا من وسطها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وكنت أتحيد بقدر ما أستطيع، وأرد على الشباب ولكن لا أرد على الشيوخ، لأن الشيوخ متزنون، ولأنهم يكتبون بعقل، ويكتبون بحكمة، أما الأستاذ العمير فقد ذكر اليوم في جريدة "المدينة" أو "الرياض" على لسان الأستاذ الجفري أنه رجل شغب، أو رجل مشاغب، ومعنى هذا أنني لست مبتدعاً فيما عبرت عنه.
- وصديقي الأستاذ عارف قد وصف بما هو أهل له من السماحة، ومن الخلق، ومن الوفاء، وإذا أردت أن أسترسل في حديث خمس وثلاثين سنة فسنصبح ولم أنتهِ، ولكنه كان وفياً لأصدقائه من غير أن يرى مردوداً، فماذا يريد الأستاذ عارف أن يأخذ مني؟ في أحد الظروف بعد انتهاء المؤسسات وكنت مفلساً، ولقد أفضل علي فمنحني خمسة أسهم من أسهمه في عكاظ دون أن يسألني الثمن، ولكنه أراد أن يكون لي مكان بجانب الكبار في هذه المؤسسة، وكانت تجمعنا "الرائد" كما تجمعنا "الأضواء"، وكان الأستاذ الدكتور الصديق عبد الله مناع أحد الذين ساندوا "الرائد" بلا شك، مشاركاً بقلمه، ومشاركاً برأيه، ومشاركاً بتوجيهاته هذا ليس تزلفاً لصديق، فهو يعرف هذه الروح مني، وأنا أعرف هذا الوفاء منه، وكانت تجمعنا الليالي في "الرائد"، وكان الأستاذ الدكتور المناع يحمل منديلاً في يده، وكان هذا المنديل موضع تندر من الأستاذ عارف.
- وشهادة مني للتاريخ أن جميع الأصدقاء ومنهم الأستاذ عارف، والدكتور مناع، والدكتور عارف قيَّاسه كانوا عوناً غير مادي بلا شك، وكانوا معينين بأقلامهم وتوجيهاتهم ومساعداتهم وأستاذنا الزيدان شارك بكتاباته، والأستاذ العمير شارك أيضاً بمعاركه وكان يروج بهذه المعارك للصحيفة، والعمولة قد قبضها الأستاذ العمير شُهرة فالطريق إلى النشر طريق فيه بريق كبير، وبابا طاهر قد حدثنا عن الحبّ ويكفي الإِنسان الحب رصيداً في وطنه، وفي عالمه كله، الحب والوفاء والإِنسانية هي رصيد الإِنسانية، بغير حب وبغير وفاء وبغير إخلاص وبغير إيثار لا يمكن أن تكون حياة، الحياة جحيم من غير وفاء ومن غير إخلاص ومن غير حب ومن غير إيثار.
- ولذلك أثنى القرآن الكريم على الأنصار حينما قال: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، تكفي هذه الشهادة لأولئك الأولين السابقين، ولعل أصدقاء الأستاذ محمود عارف كثيرون، لو أرادوا أن يتحدثوا فالأستاذ السيد هاشم زواوي صاحب مشوار طويل مع الأستاذ محمود عارف، والدكتور عبد الله مناع صاحب مشوار أيضاً معه، وإن كانا يختلفان في السن والتفكير والعصر والزمن، ولكنه اختلاف الأحبة، اختلاف الأصفياء، واختلاف المَثَل الذي يقول: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، الواقع أنني أخاف من شهود الحال، من الدكتور مناع ومن الأستاذ العمير، ومن حمدان صدقة، ومن أستاذنا الزيدان، ومن الذين عايشوا الفترة الماضية معنا مشاركين أو شهود حال.
- الحديث عن الصديق، وعن وفائه، وعن إخلاصه، وعن خدماته للناس، ولأصدقائه خاصة، لا أستطيع أن أُلم به في هذا الوقت، أو في هذه العُجالة، فيكفينا أننا سمعنا من الأوفياء كلمة الوفاء، وكلمة الحب، وكلمة التقدير، ولعلي قد نسيت أن أشكر الصديق عبد المقصود خوجه لهذا الامتداد الجميل في هذا التكريم الذي يقرب فيه بين الناس، ويقدر الذين بدأوا مشاويرهم الطويلة، وأعطوا الكثير في تلك الظروف الصعبة الماضية، الواقع أن هذه البادرة ندرة كما قلت من قبل عبر تاريخنا الطويل، رجل يُكرِّم الأدباء، ويكرِّم أصحاب الفكر، في عصر مادي، في عصر انشغل فيه الناس بهمومهم، وبمشاكلهم، وبحياتهم، وبكل ما يشغلهم، هو في حد ذاته موقف يستحق منا الكثير من التقدير ومن الشكر.
- وأشكر بالمناسبة الدكتور نور الدين صمود الذي أفضل وقبل أن يشاركنا هذه الندوة، فهو في بلده وليس ضيفاً علينا، كما قد يتصور، وأرجو الله مخلصاً أن يمدَّ في أعماركم وأعمار إخواننا وأن يزيد من هذا الوفاء للذين يحتفى بهم في هذه المناسبات، فهو تقدير يستحق المزيد من الشكر ويستحق المزيد من الإِكبار وهو تقريب أوْ لَمٌّ للشمل الذي تمزق أو الذي تباعد بحكم الحياة المعاصرة شكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :792  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 126
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.