شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
89- إلى مَفخَرة العرب
[بعد أن بعث الشاعر التائية الأولى بعشرة أيام لم ينتظر الرد من الإِمام أحمد، بل أردفها بهذه الطويلة على الروي والوزن أنفسهما، وذلك في 19جمادى الآخرة 1972هـ/ 1953م.. وقد أمر الإمام بإطلاق سراح الشاعر، حين فرغ من قراءتها للاستشفاء بالحديدة رهن الحراسة والإِقامة الجبرية فيها]:
رضاك مُنى نفسي، وغاية رغبتي
وحبُّك وجداني ولُبُّ حقيقتي
إليك يولي القلب وجه رجائه
لأنَّك للآمال أقدس كعبةِ
ونحوك يهفو شوقه وحنينهُ
لأنك في الدنيا سحابة رحمةِ
وعندك يرجو خيرَهُ ونعيمه
لأنَّك قد أوليتَه كل نعمةِ
وفيك يرى آماله الغرُّ تلتقي
لأنك مأوى كل همّ ومنيةِ
ملكت النَّواصي بالرغائب والقرى
وصرَّفتها طوعاً إلى كل وجهةِ
ودانَتْ لك الأهواء سرّاً وجهرةً
فغذّيتها حُبَّ العلا والفضيلةِ
وهامَت بك الأرواح إذ أنت كوكبٌ
يد الله أورته بنور النبوةِ
تكاد ترى فيك النعيم؛ وإنَّما
تجسدت برهاناً لصدق الشريعةِ
ولو كنتَ في عصر النبوة ظاهراً
لأثنى عليك الله في كل سورةِ
ولو كان في الوحي الكريم بقيَّةٌ
لكنت شعار الوحي في كل لحظةِ
وحسبك ما خلّدتَه من مآثرٍ
سيجلو بها التاريخ أروع صفحةِ
أفيقوا؛ أفيقوا يا بني الشرق واسمعوا
صدى قصةٍ تحكي مزايا البطولةِ
خذوا عن فمي تاريخ مجدٍ مؤثَّلٍ
وعُوا من يراعي وصف أفخم سيرةِ
حياة إمامٍ أظهر الله باسمِهِ
معالم دينٍ سِيْمَ كلَّ بليَّةِ
نمتْهُ سيوف الله من "آل هاشم"
فشبَّ شديد البأس ثبت العزيمةِ
تمرَّس بالآفات حتى أقامَها
على بابه رهن القيودِ العتيَّةِ
وداس على الأشواك والجمر وامتطى
ظهور المنايا والخطوب المبيدةِ
سلوا عنه "خولان الطيال" و"حاشداً"
و"سِفيان" واستفتوا مشاهد "صعدَةِ"
وتلك رمال البيد تشهد أنه
أعزُّ فتىً لم يخش طغيان محنةِ
أقام على حرب "الزرانيق" صابراً
إلى أن عنت في أسره واستذلتِ
وما عرفوه غير حامل رايةٍ
لنشر هدى، أو قائداً لكتبيةِ
إذا افترع الأعواد جلجل صوته
كصوت "عليّ" في جلالٍ وحكمةِ
وإن شعَّ في طرس شعاع بيانه
هفا العقل مأخوذاً بسحر الصحيفةِ
وإن صال فالدنيا مخالبُ أغلب
وإن جالِ فالدُّنيا لهاةُ منيَّةِ
وإن صاح في جندٍ مشوا تحت صوته
مساعير حربٍ، أو براكين ثورةِ
وآراؤه من جنَّةِ الوحي نبعها
وأفعاله من نهج خير البريَّةِ
* * *
وكم ليلةٍ أقعى بها الهول، وارتمى
بها الشرُّ أعمى من ضلال ورهبةِ
تَضِلُّ النجوم الزُّهرُ فيها طريقها
فتخبط في يهماءَ خوفٍ وحيرةِ
ويزوُّر عنها الأفقُ رعباً فينطوِي
بأعماق بحرٍ من ظلامٍ ووحشةِ
أضاء دجاها بأسه فأحالها
نهاراً وأذكى فجرها بالعزيمةِ
وطارَ إلى ما يبتغي فوق هولِها
وكانت له ميدان لهوِ وسلوةِ
* * *
وربَّه قفرٍ مجدب الدَّو خاضَه
وصارمُه مصباحُه في الدجنَّةِ
تفرُّ الضواري حين تسمع خطوه
ويرجفُ ذعراً كل صخرٍ وصخرةِ
وتطوى له طوعاً مجاهلُ بيدها
وتذعن إذعان الرقاب الذليلةِ
ونال مناه.. والمكاره حولَهُ
تضَرَّبُ صرعى كالسخال الذبيحةِ
* * *
وكم موقفٍ كانتْ مخالِبُ عزمِهِ
مفاتيح نصر في أكف المنيَّةِ
كأنَّ ضجيج الحرب يوم انتصاره
أناشيد غولٍ أو تهاويم جنَّةِ
إذا شامَتِ العقبان برق سيوفه
توالتْ على الأشلاء من كل وجهةِ
هو الموت؛ أَو تأوي إلى رشدها النُّهى
هو الخوف أو تُرعى حقوق الشريعةِ
* * *
كفَفْنا به لؤم الزَّمان وشرَّه
وذدنا به عدوان كل رزيَّةِ
وصانَتْ به العليا قداسة طهرها
وألبسها من مجده تاج عزَّةِ
إذا كان شعري لا يحد صفاته
فحسبيَ تصويري لرسم الحقيقة
وإن كنت لم أقصر بياني لمدحه
فليس لغمط؛ بل لخائب غفلةِ
وما كلُّ ذي لُبٍّ بعيدٌ عن التَّوى
ولو كان.. ما احتاج الورى للنبوَّةِ
برى الله هذا الخلقَ؛ والنقصُ عنصرٌ
يذكِّر من يهفو بضعفِ الخليقةِ
و"آدم" وهو الأصل مال بطبعهِ
هوى ضعفِه فاجتره للبليَّةِ
عصى ربَّهُ ثم ارعوى فأقالَهُ
وتاب عليه غافراً كل زلَّةِ
و"ذو النون" لَبَّى صوته وهو يائسٌ
وفرَّجَ عنه كل هَمٍّ وظلمةِ
و(أيُّوب) آواه وداوى جراحَهُ
وكشَّفَ عنه كل ضيقٍ وكربةِ
خذوا سنَّةَ القرآن للخلق فالهدى
بسالكها يفضي إلى خير شرعةِ
يَعُمُّ بطامي عفوِه كل تائبٍ
وتلك لعمر الله أجمل سنَّةِ
* * *
إلى مَنْ أبثُّ الشجو؟ قلبي موجع
ونفسي في نيران يأسي وخيبتي
قطعت حياتي تائهاً أجرع الأسى
ضروباً وأشقى في منامي ويقظتي
وأنفدُ أيَّامي بكاءً ولوعةً
وأسكبها في شعر بؤسي وشقوتي
وأجري وراء الوهم حيران أستقي
كؤوس الفنا من كف تيهي وحيرتي
وأغذي مرارات الخطوب وأشتوي
على جاحمٍ من نار حزني وحسرتي
ولا صاحب إلاَّ الدموع؛ أذيلها
وإلاَّ بقايا زفرةٍ طيّ مهجتي
وأشلاء روحٍ مزقتها همومُها
وأنقاض نفسٍ حُطِّمَتْ بالتَّشَتُّتِ
إلى من أبثّ الشجو؟ لم يشفني البكا
ولم تغَن آهاتي، ولم تجد زفرتي
ولا عصمتْني من زماني سماحتي
ولا نفعَتْني في حياتي جرأتي
خُلقتُ شقيّاً مزَّق اليتمُ خافقي
صغيراً وأبلى الحُبُّ رسمَ شبيبتي
وألوتْ بي الأسفار شرقاً ومغرباً
ولم ترعني في أسرتي وأحبَّتي
* * *
إليك أمير المؤمنين أبثه
وأرويه دمعاً عن سلاسل نكبتي
عسى أن يثير الدمعُ عطفَك أَو يرى
حنانك، أو يطفي تَلَهُّب غُلَّتي
وقد تنفع الشكوى إذا هبطت على
سجاحة حِلمٍ، أو سماحة رحمة
ولم يُشْفِ بي يأسي إلى كبت أدمعي
وإخماد أنفاسي، وتحطيم رغبتي
ولوا رجائي فيك ما ذاب مقولي
بشكوى، ولا سحَّت جفوني بعبرةِ
قصَرتُ قريضي في مديحك واقِفاً
بياني على تلك الأيادي الكريمةِ
فلن ترني حتى أوسدَ في الثرى
أحبّر إلاَّ فيك وصفي ومدحتي
ولا أرتجي إلاَّ رضاك؛ وليتني
أفوز به قبل الندثار بقيِّتي
* * *
توقَّ أحاديث الوشاةِ فإنها
أباطيل مكرٍ، أو أحابيل خدعةِ
أرادوا بها جمع الحطام؛ ونكَّبوا
عن الحقِّ فيها والهدى والفضيلةِ
ولم يكسبوا منها سوى الإثم والخنا
وإهدار ذمَّات الحقوق المصونةِ
لقد نحتوا صخر القداسة جرأةً
على الدين وابتاعوا التقى بالرذيلة
وكم بائسٍ أودوا به في شباكهم
وكم تعسٍ أَلْقوه في قَعْرِ هوَّةِ
وليس ببدع شأنهم "فمحَمَّد"
أبوك تلقَّى منهم كل طعنَةِ
وحذَّر منهم قومَه، ورماهُمُ
نكالاً وتحذيراً بأخلد لعنةِ
فويلٌ لمن يجني الحياةَ ذميمةً
وقد دنَّسَتهَا موبقات النَّميمةِ
وويلٌ لمن يؤذي ضمير إمامِهِ
بوسواس شرٍّ أو ببهتان فريةِ
وقد حَمَّلوني كلَّ وزر، وطوَّحوا
بدنياي، واجتاحوا تُرَاثي وأسرتي
فأنقذْ حياتي من أحابيل مكرهم
فإني فيها موثق كالقنيصَةِ
وجرِّب فتىً طهَّر السجن قلبه
ولم يبق فيه غير صدق المحبَّةِ
فإن كفَّ عَمَّا لا تحبُّ أعنتَهُ
وإن طاش فامحقْ طيشه بالعقوبةِ
* * *
حناناً أمير المؤمنين، ورحمةً
أغث دمع ربَّات الصِّلات الوشيجةِ
أغث كبداً مصدوعةً لكئيبة
تضَرَّبُ في فخ الأسى كالفريسةِ
تذوب وتفنى لحظةً بعد لحظةٍ
وتسفك أيام الحياةِ الشقيَّةِ
دموعاً، وأنَّات، وأحلام خيبةٍ،
وذكرى مخافاتٍ، وأشباح نكبةِ
وفي دمها نارٌ تؤج، وقلبُها
يفور على آهاتِ وجد كظيمةِ
تناجيك في اللَّيلِ البهيم كأنها
وآمالها تهوى حطام شهيدةِ
إذا كنتَ قد آخذتني بجريرتي
فحسبي "خَمسٌ من سنين" رهيبةِ
حملتُ بها الأثقال في السجن صابراً
وقاسيتُ فيها كل هولٍ ووحشةِ
وإن كان تأديباً، فقد جاوز المدى
وحاشاك أن تصْغَى لداعي السَّخيمَةِ
وأنت أمير المؤمنين وإنَّما
يُرَجّي الرعايا الخير عند الخليفةِ
رجوتُك في الأمس القريب بزفرةٍ
من الشعر قد أودعت فيها حقيقتي
وهأنا في شعري الذبيح مجسدٌ
قد اصْطَبَغَتْ أوزانه بسريرتي
أهزُّ بها قلباً برى الله ذاتَهُ
ملاذاً ومأوى للصِّفات الجميلةِ
فرفقاً به يا "ناصر الدين" إنَّهُ
ثمالة وجدانٍ، وآخر زفرةِ
سجن حجة: 1372هـ/ 1953م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :342  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج