رضاك مُنى نفسي، وغاية رغبتي |
وحبُّك وجداني ولُبُّ حقيقتي |
إليك يولي القلب وجه رجائه |
لأنَّك للآمال أقدس كعبةِ |
ونحوك يهفو شوقه وحنينهُ |
لأنك في الدنيا سحابة رحمةِ |
وعندك يرجو خيرَهُ ونعيمه |
لأنَّك قد أوليتَه كل نعمةِ |
وفيك يرى آماله الغرُّ تلتقي |
لأنك مأوى كل همّ ومنيةِ |
ملكت النَّواصي بالرغائب والقرى |
وصرَّفتها طوعاً إلى كل وجهةِ |
ودانَتْ لك الأهواء سرّاً وجهرةً |
فغذّيتها حُبَّ العلا والفضيلةِ |
وهامَت بك الأرواح إذ أنت كوكبٌ |
يد الله أورته بنور النبوةِ |
تكاد ترى فيك النعيم؛ وإنَّما |
تجسدت برهاناً لصدق الشريعةِ |
ولو كنتَ في عصر النبوة ظاهراً |
لأثنى عليك الله في كل سورةِ |
ولو كان في الوحي الكريم بقيَّةٌ |
لكنت شعار الوحي في كل لحظةِ |
وحسبك ما خلّدتَه من مآثرٍ |
سيجلو بها التاريخ أروع صفحةِ |
أفيقوا؛ أفيقوا يا بني الشرق واسمعوا |
صدى قصةٍ تحكي مزايا البطولةِ |
خذوا عن فمي تاريخ مجدٍ مؤثَّلٍ |
وعُوا من يراعي وصف أفخم سيرةِ |
حياة إمامٍ أظهر الله باسمِهِ |
معالم دينٍ سِيْمَ كلَّ بليَّةِ |
نمتْهُ سيوف الله من "آل هاشم" |
فشبَّ شديد البأس ثبت العزيمةِ |
تمرَّس بالآفات حتى أقامَها |
على بابه رهن القيودِ العتيَّةِ |
وداس على الأشواك والجمر وامتطى |
ظهور المنايا والخطوب المبيدةِ |
سلوا عنه "خولان الطيال" و"حاشداً" |
و"سِفيان" واستفتوا مشاهد "صعدَةِ" |
وتلك رمال البيد تشهد أنه |
أعزُّ فتىً لم يخش طغيان محنةِ |
أقام على حرب "الزرانيق" صابراً |
إلى أن عنت في أسره واستذلتِ |
وما عرفوه غير حامل رايةٍ |
لنشر هدى، أو قائداً لكتبيةِ |
إذا افترع الأعواد جلجل صوته |
كصوت "عليّ" في جلالٍ وحكمةِ |
وإن شعَّ في طرس شعاع بيانه |
هفا العقل مأخوذاً بسحر الصحيفةِ |
وإن صال فالدنيا مخالبُ أغلب |
وإن جالِ فالدُّنيا لهاةُ منيَّةِ |
وإن صاح في جندٍ مشوا تحت صوته |
مساعير حربٍ، أو براكين ثورةِ |
وآراؤه من جنَّةِ الوحي نبعها |
وأفعاله من نهج خير البريَّةِ |
* * * |
وكم ليلةٍ أقعى بها الهول، وارتمى |
بها الشرُّ أعمى من ضلال ورهبةِ |
تَضِلُّ النجوم الزُّهرُ فيها طريقها |
فتخبط في يهماءَ خوفٍ وحيرةِ |
ويزوُّر عنها الأفقُ رعباً فينطوِي |
بأعماق بحرٍ من ظلامٍ ووحشةِ |
أضاء دجاها بأسه فأحالها |
نهاراً وأذكى فجرها بالعزيمةِ |
وطارَ إلى ما يبتغي فوق هولِها |
وكانت له ميدان لهوِ وسلوةِ |
* * * |
وربَّه قفرٍ مجدب الدَّو خاضَه |
وصارمُه مصباحُه في الدجنَّةِ |
تفرُّ الضواري حين تسمع خطوه |
ويرجفُ ذعراً كل صخرٍ وصخرةِ |
وتطوى له طوعاً مجاهلُ بيدها |
وتذعن إذعان الرقاب الذليلةِ |
ونال مناه.. والمكاره حولَهُ |
تضَرَّبُ صرعى كالسخال الذبيحةِ |
* * * |
وكم موقفٍ كانتْ مخالِبُ عزمِهِ |
مفاتيح نصر في أكف المنيَّةِ |
كأنَّ ضجيج الحرب يوم انتصاره |
أناشيد غولٍ أو تهاويم جنَّةِ |
إذا شامَتِ العقبان برق سيوفه |
توالتْ على الأشلاء من كل وجهةِ |
هو الموت؛ أَو تأوي إلى رشدها النُّهى |
هو الخوف أو تُرعى حقوق الشريعةِ |
* * * |
كفَفْنا به لؤم الزَّمان وشرَّه |
وذدنا به عدوان كل رزيَّةِ |
وصانَتْ به العليا قداسة طهرها |
وألبسها من مجده تاج عزَّةِ |
إذا كان شعري لا يحد صفاته |
فحسبيَ تصويري لرسم الحقيقة |
وإن كنت لم أقصر بياني لمدحه |
فليس لغمط؛ بل لخائب غفلةِ |
وما كلُّ ذي لُبٍّ بعيدٌ عن التَّوى |
ولو كان.. ما احتاج الورى للنبوَّةِ |
برى الله هذا الخلقَ؛ والنقصُ عنصرٌ |
يذكِّر من يهفو بضعفِ الخليقةِ |
و"آدم" وهو الأصل مال بطبعهِ |
هوى ضعفِه فاجتره للبليَّةِ |
عصى ربَّهُ ثم ارعوى فأقالَهُ |
وتاب عليه غافراً كل زلَّةِ |
و"ذو النون" لَبَّى صوته وهو يائسٌ |
وفرَّجَ عنه كل هَمٍّ وظلمةِ |
و(أيُّوب) آواه وداوى جراحَهُ |
وكشَّفَ عنه كل ضيقٍ وكربةِ |
خذوا سنَّةَ القرآن للخلق فالهدى |
بسالكها يفضي إلى خير شرعةِ |
يَعُمُّ بطامي عفوِه كل تائبٍ |
وتلك لعمر الله أجمل سنَّةِ |
* * * |
إلى مَنْ أبثُّ الشجو؟ قلبي موجع |
ونفسي في نيران يأسي وخيبتي |
قطعت حياتي تائهاً أجرع الأسى |
ضروباً وأشقى في منامي ويقظتي |
وأنفدُ أيَّامي بكاءً ولوعةً |
وأسكبها في شعر بؤسي وشقوتي |
وأجري وراء الوهم حيران أستقي |
كؤوس الفنا من كف تيهي وحيرتي |
وأغذي مرارات الخطوب وأشتوي |
على جاحمٍ من نار حزني وحسرتي |
ولا صاحب إلاَّ الدموع؛ أذيلها |
وإلاَّ بقايا زفرةٍ طيّ مهجتي |
وأشلاء روحٍ مزقتها همومُها |
وأنقاض نفسٍ حُطِّمَتْ بالتَّشَتُّتِ |
إلى من أبثّ الشجو؟ لم يشفني البكا |
ولم تغَن آهاتي، ولم تجد زفرتي |
ولا عصمتْني من زماني سماحتي |
ولا نفعَتْني في حياتي جرأتي |
خُلقتُ شقيّاً مزَّق اليتمُ خافقي |
صغيراً وأبلى الحُبُّ رسمَ شبيبتي |
وألوتْ بي الأسفار شرقاً ومغرباً |
ولم ترعني في أسرتي وأحبَّتي |
* * * |
إليك أمير المؤمنين أبثه |
وأرويه دمعاً عن سلاسل نكبتي |
عسى أن يثير الدمعُ عطفَك أَو يرى |
حنانك، أو يطفي تَلَهُّب غُلَّتي |
وقد تنفع الشكوى إذا هبطت على |
سجاحة حِلمٍ، أو سماحة رحمة |
ولم يُشْفِ بي يأسي إلى كبت أدمعي |
وإخماد أنفاسي، وتحطيم رغبتي |
ولوا رجائي فيك ما ذاب مقولي |
بشكوى، ولا سحَّت جفوني بعبرةِ |
قصَرتُ قريضي في مديحك واقِفاً |
بياني على تلك الأيادي الكريمةِ |
فلن ترني حتى أوسدَ في الثرى |
أحبّر إلاَّ فيك وصفي ومدحتي |
ولا أرتجي إلاَّ رضاك؛ وليتني |
أفوز به قبل الندثار بقيِّتي |
* * * |
توقَّ أحاديث الوشاةِ فإنها |
أباطيل مكرٍ، أو أحابيل خدعةِ |
أرادوا بها جمع الحطام؛ ونكَّبوا |
عن الحقِّ فيها والهدى والفضيلةِ |
ولم يكسبوا منها سوى الإثم والخنا |
وإهدار ذمَّات الحقوق المصونةِ |
لقد نحتوا صخر القداسة جرأةً |
على الدين وابتاعوا التقى بالرذيلة |
وكم بائسٍ أودوا به في شباكهم |
وكم تعسٍ أَلْقوه في قَعْرِ هوَّةِ |
وليس ببدع شأنهم "فمحَمَّد" |
أبوك تلقَّى منهم كل طعنَةِ |
وحذَّر منهم قومَه، ورماهُمُ |
نكالاً وتحذيراً بأخلد لعنةِ |
فويلٌ لمن يجني الحياةَ ذميمةً |
وقد دنَّسَتهَا موبقات النَّميمةِ |
وويلٌ لمن يؤذي ضمير إمامِهِ |
بوسواس شرٍّ أو ببهتان فريةِ |
وقد حَمَّلوني كلَّ وزر، وطوَّحوا |
بدنياي، واجتاحوا تُرَاثي وأسرتي |
فأنقذْ حياتي من أحابيل مكرهم |
فإني فيها موثق كالقنيصَةِ |
وجرِّب فتىً طهَّر السجن قلبه |
ولم يبق فيه غير صدق المحبَّةِ |
فإن كفَّ عَمَّا لا تحبُّ أعنتَهُ |
وإن طاش فامحقْ طيشه بالعقوبةِ |
* * * |
حناناً أمير المؤمنين، ورحمةً |
أغث دمع ربَّات الصِّلات الوشيجةِ |
أغث كبداً مصدوعةً لكئيبة |
تضَرَّبُ في فخ الأسى كالفريسةِ |
تذوب وتفنى لحظةً بعد لحظةٍ |
وتسفك أيام الحياةِ الشقيَّةِ |
دموعاً، وأنَّات، وأحلام خيبةٍ، |
وذكرى مخافاتٍ، وأشباح نكبةِ |
وفي دمها نارٌ تؤج، وقلبُها |
يفور على آهاتِ وجد كظيمةِ |
تناجيك في اللَّيلِ البهيم كأنها |
وآمالها تهوى حطام شهيدةِ |
إذا كنتَ قد آخذتني بجريرتي |
فحسبي "خَمسٌ من سنين" رهيبةِ |
حملتُ بها الأثقال في السجن صابراً |
وقاسيتُ فيها كل هولٍ ووحشةِ |
وإن كان تأديباً، فقد جاوز المدى |
وحاشاك أن تصْغَى لداعي السَّخيمَةِ |
وأنت أمير المؤمنين وإنَّما |
يُرَجّي الرعايا الخير عند الخليفةِ |
رجوتُك في الأمس القريب بزفرةٍ |
من الشعر قد أودعت فيها حقيقتي |
وهأنا في شعري الذبيح مجسدٌ |
قد اصْطَبَغَتْ أوزانه بسريرتي |
أهزُّ بها قلباً برى الله ذاتَهُ |
ملاذاً ومأوى للصِّفات الجميلةِ |
فرفقاً به يا "ناصر الدين" إنَّهُ |
ثمالة وجدانٍ، وآخر زفرةِ |