ما بالُه لمَّا يفقْ من كَرْبهِ |
وإلامَ يبقى غارقاً في نَحْبِهِ؟ |
قَد مَرَّ عامٌ، ثم صُرمَ بَعْدَه |
عامانِ، وهو مقيَّدٌ في خطبهِ |
لم تخمدِ الأيامُ جذوة حزنهِ |
كلا، وما إن كفكفَتْ من غربهِ |
أبداً يقلِّبُ كفهُ، ودموعه |
تهمي، ومهجتُه تذوب بجنبهِ |
يا بؤس قلبٍ في ضلوعي لم يزلْ |
ندمان يُفْجع في أعزَّةِ صحبِهِ |
* * * |
أسفي على من كان لي فيه الغِنى |
عن كل ما يُرجى، وما يُعْنى بهِ |
سأظلُّ أبكي ذلك الملكَ الذي |
في السِّجْنِ خلَّفني ولاذَ بربِّهِ |
يا "زَيْد" ما صاحبتُ بعدك صاحباً |
إلاَّ وضقتُ ببعدِه وبقُربهِ |
حيناً يجرِّعني السموم بعذلِه |
القاسي، وآونةً أغصُّ بعتبِهِ |
وإذا رأيتَ من الصَّديق زراية |
فاعلم بأنك مزدرىً في قلبِهِ |
فاجمع ذيولكَ وانصرفْ مُتسللاً |
واندُبْ إذا ما شِئْتَ سالِفَ حبهِ |
إنَّ الصداقَةَ نعمةٌ قدسيةٌ |
وسعادةٌ، ما إن لها مِن مُشْبِهِ |
يُطْفي بها المحزونُ لوعةَ حزنِه |
ويُلطِّفُ المكروبُ ثورةَ كربهِ |
فإذا دعاك إلى الكريهةِ صاحبٌ |
يرجوك عوناً فاستعدّ ولبِّهِ |
* * * |
إن أنْسَ لا أنسى وقوفَكَ والدجى |
أعمى، قد انطفأتْ مشاعِل شهبهِ |
حيران تَسْتَقْري السبيل؛ محاذراً |
ما انبث من كيدِ العدو ورعبهِ |
حتى إذا التبَستْ معالمها ولمْ |
يجْدِ الدليل، ولا فطانة ركبهِ |
نامت جفونك تحت لحظي آمناً |
ووثقْتَ بالحامي الأمين وذبِّهِ |
عَصَفَ الزَّمان بنا فلم نذعنْ له، |
كلا ولم نخضَعْ لصولةِ خطبِهِ |
نقتات بالآمال في بيد الشَّقا |
ونَعلُّ من وهم الخيال، وريبهِ |
والحُرُّ تَصْهَرُهُ الخطوبُ فينْثنِي |
كالتبرِ، صفِّيَ من حثالَةِ تُرْبهِ |
* * * |
أو أنسَ؛ لا أنسى وقوفك ذاهِلاً |
كالطفلِ قد طارت فراشَةُ لبِّهِ |
وأنا طريحٌ في الفِراشِ كهَيكَل |
بال يَغَصُّ بأكلِهِ وبشربهِ |
نكِرَتْهُ زمرَةُ صحبِهِ، وتفرَّقَتْ |
عنه وغال اليأسُ حِكمة طِبِّهِ |
لم يَبْقَ لي إلاَّ حنانك؛ أستقي |
منه الحياةَ، وأشتفي من عذبهِ |
أواه كم يبكي، وكم يشكو النوى |
طير تخلَّفَ موثقاً عن سِربِهِ! |
يرنُو إلى الأفق البعيد بمقلة |
شكراء تكشف ما اخْتَفى من حجْبِهِ |
قد أثخنْتهُ جراحُه، فجناحه |
واه يضيق به الفضاء برُحْبِه |
* * * |
قالوا جريء قلتُ وصفَ غضنفَرٍ |
لا يغتذي إلاَّ فريسَةَ كسْبِهِ |
ذاق الحقيقةَ حلْوَها ومريرها |
وابتزَّ جد زمانِه من لعبهِ |
لن يُنْقِصوا من قدره بجحودهم |
مهما غَلَوا في ثلبهِ أو سبِّهِ |
نعم الصديق الألمعي مُبَرَّأً |
من وصمةِ الطبع اللئيم وعيبهِ |
حلو الفكاهةِ بشره في وجهِهِ |
وجميل مشهدِهِ كحُرْمَة غُيبهِ |
لبق خفيف الروح إن حدثتَهُ |
أصغى إليك بسمعه وبقلبهِ |
ليس الخيانة من وسائل عيشه |
كلا، ولا تَلُب الورى من دأبهِ |
وإذا تَصَبَّتْه الحياة بجاهها |
وبمالها وجمالها، لم تُصبهِ |
ثَبْت العزيمةِ رأيه كفرندِهِ |
ماضٍ ومقولُهُ البليغ كعضْبِهِ |
يستَقْبِلُ الخطبَ الأصمَّ بهمَّة |
جبارةٍ لا تستكين لِصَعْبِهِ |
ولرُبَّ مفتون إِذا فاخَرْتَهُ |
لم يفتخِرْ إلاَّ بكاذب عجْبهِ |
والدهرُ لا يَلْقى الغبِيَّ بسِلْمه |
إلاَّ لِيَبْتلي الهُمَامَ بحَرْبِهِ |
* * * |
ربَّاه فاحفظْ لي بقيَّة خافق |
قدْ ذابَ معظمهُ بلوعةِ حبِّهِ |
في زمرة أصْفى مودَّته لهم |
هم في المجال الضَّنْكِ خيرة صحْبِه |
وأخٍ وراء البحر ما اكْتَحَلَتْ به |
عيناي إلاَّ من ثنايا كتْبِهِ |
حُلُمٌ يطوف بخاطري، وعُلالةٌ |
أبكي بها زمناً وثِقْتُ بكذبِهِ |
ما زال في بيْد الحياة مُشرَّداً |
هيمان في شرقِ الوجود وغربهِ |
يا ليْتَ شعري أينَ يُلقى رَحلهُ؟ |
ومتى؟.. وكيفَ أذوقُ منهل قربهِ؟ |
ومتى يوافينا الزمان ببشره؟ |
ومتى يُكفِّر دهرُنا عن ذنبه؟ |