ودعتُ تلك الربوع حيرانا |
يفيض قلبي أسى وأشجانا |
وقَفتُ في ساحها أخاطبها |
بالدمع لا أستطيع تبيانا |
تحيَّر اللفظ في فمي حزناً |
يعثر بين الشفاه حسرانا |
أنظرها خاشعاً، وقد ملأت |
صدري هموم الفراق نيرانا |
يا ويح نفسي؛ أكلما نعمت |
بالوصل لاقَتْ نوى وهجرانا! |
وودَّعت صفوها وراحتها |
وصادفت جفوة وحرمانا |
وصادمتها الخطوب قاسيةً |
تسومها بالعذاب ألوانا |
كم أذرع الأرض ذاهلاً وجلاً |
وكم أجوب البلاد هيمانا |
ولم أجد موطناً أقيم به |
منعَّماً بالحياة جذلانا |
كشاردٍ يأسه يطارده |
يريه أيَّان سار أحزانا |
فليتني ما شهدت شارقةً |
وليتني ما عرفت إنسانا |
وصاحب من عشيرتي لبقٍ |
وقلت له حين حان مسرانا |
يا صاح جدّ المسير إن لنا |
شاناً وأعظم بمثله شانا |
قال: وما شأننا؟ وكيف بنا |
إذا رحلنا؟ وأين مأوانا؟ |
وهل لنا في الوجود من وزرٍ؟ |
وهل سنلقى هناك سلونا؟ |
قلت: تمهل.. فقال كيف؟ وهل |
يسلو ويرتاح مغرم بانا؟ |
ومن لنا والنَّوى تعذبنا |
والشوق يذكي القلوب نيرانا؟ |
قلت: لقد روَّعتك أخيلةٌ |
تملأ وجه الوجود أشجانا |
وأنت من لم يضق به بلدٌ |
ولم يسْر في البلاد أسيانا |
ولم يودِّع من قبل أيكته |
مفارقاً جيرةً وخلانا |
* * * |
دعنا نسِرْ يا أخي إلى ملكٍ |
به ازدهى ديننا ودنيانا |
هناك حيث النهى مكرَّمةٌ |
هناك حيث القلوب تهوانا |
نحيا فلا فاسد ينال بنا |
ما يبتغي إذ يقول بُهتانا |
فقال: والأهل؟ قلت: حَسْبُهُم |
رَبّ يعم الأنام إحسانا |
قال: ومن؟ قلت: والمؤمَّل في |
الضَّراء، حامي البلاد مولانا |
(أحمد) من في فؤاده قبسٌ |
يمحو به باطلاً وخسرانا |
قال: إذن فالزمان مبتسمٌ |
لنا وعين الإِله ترعانا |
مولاي لولا سناك يؤنسني |
لعشت بين الأنام غضبانا |
مولاي لولا نداك يمطرني |
قضيتُ دامي الجنان ظمآنا |
مولاي لولا هداك يرشدني |
قطعت شوط الحياة حيرانا |
أنت الذي في ظلال نعمته |
تَخذْت لي مرتعاً وبستانا |
أمرح لا أرْهب الزَّمان ولا |
أخاف ممن يخافُ عدوانا |
إن كاد لي كائدٌ بمفسدةٍ |
آبَ ذليل الجناب حسرانا |
ما دمت في حصنك الحصين فلنْ |
أخشى من الحادثات طغيانا |
وقدْ عرفت الأنام قاطبة |
وكان بعد الفراق ما كانا |
لولا حنان منحتنيه لما |
صادفت ممن وجدت تحنانا |
وربما توهب الحياة لذي |
يأسٍ لأحكام دهره دانا |
ومن تكن عينه بصيرته |
يرى اطِّلاب البقاء خسرانا |
والموت عند الحكيم معرفةٌ |
يطلبها كي ينام جذلانا |
فلا تُبَلْ بالخطوب إن عصفَتْ |
وكن غليظ الفؤاد أحيانا |
ولا تضق بالحياة إن عبسَتْ |
فقد يجر السرور أحزانا |
وانظر تر الأرض في مشاكلها |
قد طفحت بالشرور أفنانا |
وانظر تر الناس في نقائصهم |
غرْقى. ولا يطلبون غفرانا |
والناس لا يستوون معرفة |
كالناس لا يستوون ألوانا |
تباينوا منبعاً، وحاشية |
وغاية ترتجي، وأديانا |
* * * |
يا من سمت في الفخار دولته |
وعزَّ بين الأنام سلطانا |
ونال من ربِّه مؤمَّلهُ |
مكارماً جمةً، ورضوانا |
وبزَّ أقرانه هدى وندى |
وهمةً فذّةً وعرفانا |
الشعب لا يرتجي سواك ولا |
يرضى مليكاً سواك إنسانا |
كم لي من آيةٍ شدوت بها |
فمادَ قلب الزَّمان نشوانا |
شعرٌ تهزُّ القلوب نغمته |
كما تهزُّ النسيم أغصانا |
يروق من كان ناقداً لبقاً |
وشاعراً بارعاً وفنانا |
والشعر فن يزين صاحبه |
كما تزين الفصوص تيجانا |
* * * |
بكيت في شعري الوجود ومن |
فيه وصُغْتُ الدموع ألحانا |
والشعر يبكي الحياة مذ وجدتْ |
والشعر يبكي الوجود مذكانا |
بكى "امرؤ القيس" دمنة درست |
كما بكى "البحتري" إيوانا |
والشيخ "ذو المحبسين" مات أسى |
وعاش "كابن الحسين" حيرانا |
وهكذا كلما أتى رَجُلٌ |
بكى صروف الحياة ألوانا |
مشكلة ما تزال غامضةً |
كم أجهدت ألسُناً وأذهانا |
تضيع فيها العقول خاسئة |
إذ لا ترى حجة وبرهانا |
وليس كالدين راحة؛ فإذا |
ما ضقت صادفت فيه سلوانا |
تحيا به ناعماً فإن نضُبَتْ |
روحك لاقَت رضا "ورضوانا" |
* * * |
يا من إذا خاطبته ألسننا |
تعثَّرت هيبةً وإذعانا |
وأذهلت لا تجيد، قافية |
وأخجلت لا تطيق شكرانا |
وكيف تقوى وأنت معجزةٌ |
تجسَّمتْ للعيون إنسانا؟ |
فتى تهاب القروم سطوته |
وترتجي من نداه إحسانا |
فؤاده مزنةٌ مطهَّرةٌ |
صيغَتْ لعطف السماء عنوانا |
تحزَّبَت حول القلوب؛ فلا |
ترى له في الأنام أقرانا |
تكاد من حبه تقدسه |
مخلصةً لا تضم شنآنا |
لا زلت يا ناصر الشريعة |
تهدينا بأنوارها وترعانا |