شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
مُقَدّمَةُ الطّبعَةِ الثَانِيَة
قبل ثماني سنوات قدَّمتُ لدار "منشورات العصر الحديث" ديوان شعري "الأعمال الكاملة" فنشرته في مجلدين؛ وقد رتَّبتُ قصائده ترتيباً تاريخياً؛ وكان آخرها في المجلَّد الثاني تلك التي عنوانها: "سلام على عبد العزيز وآله" والمؤرخة 21 ربيع الأوَّل 1403هـ/ الموافق 5/1/1983م لمَّا ضربت اليمن بزلزال "أَنِس" المدمِّر ووقفت المملكة العربية السعودية ذلك الموقف الأخوي الكريم.
وقد تبيَّن لي بعد صدور الديوان أمران:
• أولاً: أن مقاطيعَ وقصائدَ قد أُهْمِلَتْ..
• وثانياً: أنَّني أثناء طبع الديوان قد ظَلَلْتُ حليفَ المشاعر والتأمُّلات، وخدين الحنين والتصوُّرات، من تطلُّع إلى مجهول، أو شوق إلى وطن، أو بكاء على فقيد، أو انفعال بحَدَث، أو حوار مع أطياف الذكريات؛ وما سمعتُ خبراً ساراً أو محزناً، أو فكَّرتُ في أمر، إلاَّ قلتُ: يا ليتَ، ولعلَّ، وعسى، وربَّما، وكيفَ ولماذا؟!
وتلك هي نجاوَى الشعر ووساوسه؛ التي يُبْتَلى بها مَن فطره الخالق البارئ المصوِّر شاعراً في هذه الحياة الدنيا؛ ولا يستطيع –إذا انفعل بها- إلاَّ أن يُعبِّر عنها.
وقد كنت كذلك -طيلة مدة طَبْعِ الديوان التي استمرت أربع سنوات لأسباب أجهلها- وهل يستطيع مثلي الصمت أربع سنوات؟! فنظمت أشعاراً نَشَرْتُ منها في الصحف ما نَشَرْتُ، وقرأْتُ على الأصدقاء ما قرأْتُ، واحتفظتُ لنفسي بالقليل منها.
وقد جَدَّتْ أمور، وحدثتْ أحداث لم أستطع معها، ولا عليها صبراً، دون أن أُعبِّر عمَّا أحسستُ بها إزاءها؛ ولذلك رأيتُ أن أجمع ما أهملته عمداً أو نسياناً، وأضمّه إلى ما نظمته من قصائد الوجدان والمناسبات خلال فترة انتظار صدور المجلَّدين الأَوَّلَين وأنشر كل ذلك في طبعة جديدة مصحَّحة.
وسوف يجد القرَّاء والنقَّاد على اختلاف مشاعرهم ومشاربهم، ومداركهم وأهوائهم، ومبادئهم ومذاهبهم، في هذا الديوان ما يعجب وما لا يُعجب، وقد يُرضي قوماً، ويُغضب آخرين، شأنهم مع سائر كتبي ومؤلفاتي ولكنِّي دائماً لا أبالي بمن يغضبون، وحسبي الرضى من "كرام عشيرتي" حَسَباً أو أَدباً.
كما أنهم سَيجدون في "ديوان الشامي" هذا قصائد قديمة قلتها في ريعان العمر فهي بحقٍ من "موءودات الشباب"، وأُخريات نظمتها بعد أن جاوزت السِّتين… فهن "عرائس الأصيل".
وأودّ أن لا يظن القارئ أن ما حواه "ديوان الشامي" في مجلَّداته الثلاثة يضمّ كل أشعاري فقد أرجأتُ بعض القصائد السياسية، والقِطع الغزلية والفلسفية والاجتماعية وفضَّلت أن تظل بين "الموؤدات" إلى ما شاء الله.
كما أنَّ لي مسرحية شعرية في خمسة فصول اسمها "ثورة الدستور في اليمن"، حكيتُ فيها قصة ثورة علماء اليمن ومصارع أحرارها عام 1948م/ 1367هـ، وسيكوِّن كل ذلك، أو ما قد يَجِدّ – إن نسأ الله في الأجل "المجلّد الرابع". من أعمالي الشعرية الكاملة إن شاء الله.
ولقد اتبعت في ترتيب قصائد وقِطع الديوان في هذه الطبعة النهج نفسه الذي التزمتُه في الطبعة الأولى، فرتَّبتها حسب التسلسل التاريخي رغم اختلاف وتضارب المواضيع والمناسبات.
وقد التزمت هذا الترتيب لأسباب ثلاثة:
• أولاً؛ لأنِّي أعتقد أنَّ حياتي الشعريَّة لا تنفصل عن حياتي الوجدانية والاجتماعية فالسياسية؛ متغزِّلاً أو واصفاً، ساخطاً أو راضياً، باكياً راثياً، أو ضاحكاً راجياً، مادحاً أو قادحاً؛ فقد أُغْرِمْتُ بالشِّعر منذ الصِّبا، وجعلته عدَّتي وعتادي في جميع حالاتي، وفي كل ظروفي ومعاركي الوجدانية والأدبية والسياسية. وقد أشرت إلى ذلك في إحدى مقدِّمات هذا الديوان المنشورة في المجلَّد الأول؛ وما انفعلتُ بحدثٍ من الأحداث خيراً أو شراً، إلاَّ وسجَّلته شعراً.. سواء بالأسلوب العَرَبي "الموزون المقفَّى"، أو بطريقة الشعر المرسَل، وما أسمِّيه "الشعر الغَرْبي" وبالتصريح والإِفْصَاح، أو بالرَّمز والتلميح.
ومَنْ يقرأ كتابي "رياح التغيير في اليمن" سيرى أني قد أحسنتُ صُنعاً حين رتَّبت "ديوان الشامي" ترتيباً تاريخياً لأن ذلك سَيُسَهِّل مهمَّة مَن يرغب في تتبُّع مراحل حياتي الشعرية وتطوُّرها الاجتماعي والسياسي، ويتعمَّق في فهم أسرار الظروف والمناسبات التي تأثَّرتُ وتأثَّر جيلي بها في اليمن.
• وأما ثاني الأسباب؛ فهو أن كثيراً مِِمَّن تحدَّثوا عن "الشعر المعاصر في اليمن" قد قالوا إن "الشامي" كان في طليعة من مارسوا "الشعر الجديد" في اليمن؛ بل وزعمتُ نفسي أني قد زاولتُه طبعاً قبل أن أسمع بالبياتي و"نازك الملائكة" في مطلع الأربعينات (راجع المقدمات ج1، صفحات من 7 إلى 179)؛ بل وظللت – كما هو واضح في الديوان – أُمارسه وألجأ إليه في أزماتي النفسية والسياسية، وعندما أعجز أو أخاف الإِفصاح حينما كنت في معتقل "حجة"، ثم تحت الحراسة والإِقامة الجبريَّة في "الحُديدة" ما بين عامي (1948م و1955م/ 1367هـ و1374هـ)، ثم في مدينتَيْ (القاهرة) و(لندن) ما بين عامي (1956م و1963م)، أي (1375هـ و1383هـ)، ثم لمَّا عُيِّنتُ سفيراً في كلٍّ من (لندن) و(باريس) ما بين عامي (1970م و1974/ 1389هـ و1393هـ)، وأخيراً في منتجعي بمدينة (بروملي) منذ سنة (1975م) وحتى عامنا هذا (1990م) (1394هـ و1411هـ) وإلى ما شاء الله.
ولمَّا تحدَّث الدكتور المصري الأستاذ "عز الدين إسماعيل" في كتابه: "الشعر المعاصر في اليمن" عن "أحمد الشامي" وأرادَ لِسَببٍ يعلمه الله أن يغمز من قناتِهِ الشعرية، فقال في صفحة (225) ما يلي:
"على أنه من الجدير بالملاحظة أنَّ "الشامي" في هذه التجارب المختلفة لم يخلص وجهَهُ أو روحَه للشكل الجديد وحدَه؛ بل ظلَّ طوال الوقت يكتب "القصيدة التقليدية" إلى جانب القصيدة الطويلة، مختلفاً في هذا مع روّاد التجربة الشعرية الجديدة الذين بدأوا جميعاً بكتابة القصيدة في شكلها التقليدي ثم تحوَّلوا بعد ذلك إلى الشكل الجديد نهائياً".
ثم يعقّب على ذلك في الهامش بقوله: "يمكن ملاحظة أنه على حين أخذت تجربة الشكل الجديد تنمو لدى "الشَّرفي" إذ بالشامي يعود مؤخَّراً فيصبح تشبُّثاً بالقالب القديم؛ أو هذا ما يدلّ عليه ديوانه الأخير "ألحان الشوق" الصادر سنة (1970م) فليس فيه قصيدة واحدة من القالب الجديد".
وظل الدكتور الفاضل يهرف بما يعرف وما لا يعرف حتى قال في (صفحة 233): "وقد بدأ اتجاه الشعر في اليمن إلى الشكل الموسيقي الجديد منذ أوائل الخمسينات على يد "أحمد الشامي" وبخاصة سنة 1954م". وكأنَّه قد أرغم على هذا الاعتراف فتداركه بقوله: "ولكن قصائده رغم اصطناعها للشكل الجديد لم تكن تطوريَّة في بنائها وذلك لغلبة الرؤية الرومانتيكيَّة عليها".
وأخيراً ونظراً للظروف السياسية التي كانت تكتنف اليمن حين ألَّف الدكتور كتابَه في أواخر الستينات وقبل قيام "المصالحة الوطنية"، قال الدكتور: "وللأسف توفِّي الشاعر (جعفر أمان) و"ارتدَّ" (الشامي) فيما يبدو إلى الشكل التقليدي للقصيدة". (صفحة 249).
هكذا "ارتدَّ" دون خوف من الله أو حياء أو خجل من الناس؟ وكما تعمَّد أن يوظِّف الاستعمال الديني لعبارة "أخلص دينَه لله وحده" إذ إن مَن يعبد مع الله إِلهاً آخر يُعدُّ "مشرِكاً"، فقال بمكر ودهاء: إن (الشامي) لم يُخلِص وجهَهُ أو روحه للشكل الحديث بل ظل يكتب القصيدة التقليدية إلى جانب القصيدة الجديدة، مشبِّهاً له بالمشركين!
كذلك تعمَّد استعمال فعل "ارتدَّ" لا "تراجَع" أو نحوها، و"المرتدّ" في المصطلح الديني هو من يرجع عن الإسلام، وهذا يدلُّ على توتُّر نفسي شديد لا ضد (الشامي) فقط، بل وضد التعابير "الإسلامية" ومن يدافع عن لغة "القرآن" وآدابها.
وقد فنَّدت جلّ أخطاء الدكتور عز الدين إسماعيل وتخرُّصاته عن "الشعر المعاصر في اليمن" في كتابي "مع الشعر المعاصر في اليمن"؛ وإنما أردت أن ألفت النظر في هذه المقدمة إلى أن جهل الدكتور بما كنتُ قلته قبل سنة 1954م مما سمَّاه شعر "الشكل الجديد" ثم ما نظمته بعد إخراج كتابه، في ديوان "إلياذة من صنعاء"، وديوان "أطياف" و "من يشتري السهر؟" و "اليمن السعيدة" و "الديوان الغربي" وغير ذلك ما لو لم يتجاهلـه، أو لو أطَّلع عليـه وكان مصنفاً لغيَّر رأيه، وعرف أنه كان ظالماً للشعر في اليمن بكتابته عنه دونما تبصُّر، ولا سعة اطِّلاع، ولا خلوص نيِّة للأدب والعلم والبيان. ولعلَّ فيما سيقرؤه في هذا الديوان من قصائد وقطع شعر"الشكل الجديد" ما قد ينفع معارفه إن شاء الله.
• وأما ثالث الأسباب؛ –وهو أطرفها- فقد أحببت أن أحاور الصديق الأديب الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح فيما قاله عن "الشعر الجديد" وفي دعواه الظريفة التي زعمها في كتابه "من البيتِ إلى القصيدة" لمَّا قال وهو يتحدَّث عن "أحمد الشامي" ما نصَّه:
"ولم يكن أمامي بعد ذلك إلاَّ أن أبدأ القراءة من حيث ابتدأ الشاعر أحمد الشامي محاولاته ومن خلال أربعة نماذج جيدة، نشرها في ديوانه الأوَّل "النَّفَسُ الأوَّل"، وهناك من بين نقَّادها من يتَّهم الشاعر أحمد الشامي بأنه كتب الشعر الجديد من باب الأغراب والاستجابة لنزوة التجديد، وفي يقيني أن الشامي كتب الشعر الجديد استجابة لشعور نفسي، وتعبيراً عن عوامل اجتماعة وسياسية عاناها وعاشها وحاول التعبير عنها بهذا الشكل المختلف بعد أن ضاق الشكل التقليدي عن استيعاب مشاعر تلك الاستجابة".
"وقد تجسَّد ذلك الإحساس من خلال تقديمه لديوانه الأول، والذي يقول فيه: "أعرف نفسي جيِّداً، فلن أخدعها ولن أخدع النَّاس، فما أنا براضٍ كل الرضا عن شعري، ولا أدري متى سأتمكَّن من إبداع الشِّعر الذي يرضيني.. في أعماقي شعرٌ؛ لكنه جديد.. جديد على عالم الشعر المعهود.. والجملة البيانية التي في قلبي أسمى من كل تعبير.. الحروف هذه ليس فيها حياة.. والمعاني التي في قلبي فيها حيـاتي بل وحيـوات آخرين.. والكلمة الكبرى ما برحت معشعشةً في حنايا روحي.. حروفُها مشاعر مكفوفة.. معناها تاريخ ألم طويل، إن كان الوجود كلمة الله. فهذه كلمة الإنسان، وإن كانت الطبيعة شعر القدرة الإلهية فهذا شعر الوجدان". (مقدمة النفس الأول: ص9).
ثم يقول الدكتور: "ماذا تعني هذه الكلمات؟ وما مدلول الأشواق إلى كتابة شعر جديد خارج عن المألوف ومختلف عن الأساليب البيانية المستهلكة؟ وهل كان في الظروف التي كتب فيها الشامي ما كتب من شعر جديد فسحة من الوقت للأَغراب والانسياق وراء الأشكال لذات الأشكال؟ إنني لا أرى غرابة في أن يكتب الشاعر أحمد الشامي، وهو في سجنه شعراً جديداً، فالسجن يدعو إلى كسر القيود، ولكن الغرابة - كما سوف يتَّضح لنا فيما بعد – أن يكتب الشامي في لندن شعراً عمودياً يلتزم فيه ما لا يلزم، ويعود بنا ألف عام إلى الخلف. لقد بدأ كتابة القصيدة الجديدة وهو رهين المعتقل، وهذا يدعونا بالضرورة إلى استرجاع ملامح من حياته القلقة المضطربة المتعرِّجة التي انعكست على شعره".
"لقد انغمس في بداية حياته الشعرية في غمار الحركة الوطنية، وكان كأيِّ شاب يمني مثقَّف وطموح مسكوناً بهموم اليمن، مشغولاً بفكرة تجديدها؛ تجديد النظام، وتجديد الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتجديد الشعر، فكانت قصائده الرومانسية تحلِّق في هذا الجو، وتعبِّر عن هذا الهاجس الساخط الثائر الذي لا يرى مناصاً ولا خلاصاً إلاَّ من خلال نسف القديم بأشكاله وأناطه كافة، إن الهدم هو الخطوة الأولى نحو البناء".
ثم يقول الدكتور: "وقامت حركة (1948م)، وشارك أحمد الشامي ما استطاع إلى المشاركة، وساقته ثورته إلى سجن نافع، وهناك حمل القيود، وتعرَّض للسياط، وواجه الموت كبقية الرِّفاق، وأحسَّ بعبء التقاليد، وثقل الاغتراب والاستلاب عن العصر، وفي ذلك الجو المشحون بالقسوة، وبسيطرة القديم تنفَّس الشعر الجديد وكتب القصيدة الأولى متحدِّياً جدران السجن وجدران "العمود الشعري" وكانت قصيدة "صلاة"، التي بدأت هكذا:
"أنا لا أنظم شعرا..
فلقد أنسيت أوزان القصيدْ
إنما أنثر أشواقاً ودمعا".. إلخ.
انظرها في المجلد الأول من ديوان الشامي؛ وفي النفس الأول.
ثم يسترسل الدكتور المقالح قائلا: "كم تمنيت وأنا أقرأ فاتحة القصيدة أن لا ينظم الشعراء ما قيل لهم إنه شعر، وأن ينسوا أوزان القصيد لكي يكتبوا لنا مثل هذا الشعر الجميل الأصيل وليت شاعرنا الشامي قد نسي الأوزان والقوافي ولم يعد يتذكرها حتى يظل يكتب مثل هذا الشعر الخارج من منطقة الإبداع من منطقة التقليد والمحاكاة والاجترار". (من البيت إلى القصيدة: ص33، 34، 35، 36).
وبعد أن أورد الدكتور من ديوان النفس الأول مقاطع من قصائد "أمل" و"النور الشهيد"، قال:
"لا شك أنه بهذه القصائد وأمثالها قد استقام عمود الشعر الجديد وكاد ينطلق بالتجربة الجديدة – في بلادنا – دون تعثُّر أو إبطاء، لكن ما الذي حدث للشعر الجديد مع هذا الشاعر (الشامي) لقد أدركته الشيخوخة قبل الأوان وفقد هذه الصورة الجميلة، وهذه اللغة الشعرية الشفَّافة، والموقف الإنساني المتقدِّم، لقد كان الشاعر -باختصار- يرسم بالكلمات فأصبح يتكلَّم بالكلمات، والفرق كبير بين التصوير والحديث، وإقامة التفعيلات أو تحطيم وحداتها لا يصنع الشعر، ولا يخلق الشعراء. (37 – 38).
ما أكرم الدكتور المقالح، وما ألطف ذوقه، وأرقّ طبعه؛ إنه حين يعبِّر عن رأيه المخالف للرأي الآخر لا يجازف ولا يجرح ولا يغمز ولا يلمز؛ لأنَّه ناقد مؤدَّب يحلِّل ويعلِّل ويعبِّر عمَّا يراه أو يظنّه أو يعتقده بوقار الباحث وأناة الناقد، فلم يقل: إنَّ (الشامي) "ارتدَّ"؛ أو إن (الشامي) لم يُخْلص وجهه للشعر الجديد وحده كما قال أستاذه الدكتور عز الدين إسماعيل، بل قال: "أدركتْه الشيخوخة قبل الأوان".
ثم ماذا؟ إنه يعلِّل أسباب هذه الشيخوخة التي أدركت شعر (الشامي) الجديد قبل الأوان، فيقول: "وحين نقرأ هذا الشعر الجديد الذي كاد شاعرنا أحمد الشامي يبدأ به منعطفاً جديداً في حياته الشعرية، ونقارنه بما كتبه من شعر جديد يدركنا قدرٌ غير قليل من خيبة الأمل؛ ولعل المشكلة عند أستاذنا الشاعر أحمد الشامي أنه كان شاعراً وثائراً، ثم أصبح سياسياً وشاعراً، والفرق كبير أيضاً بين الثائر والسياسي، وبين الثائر والشاعر السياسي؛ الأول يرفض ويحلم، والآخر يتقبَّل ويُساير، لقد أوصلت الثورة أحمد الشامي إلى السجن فجاء شعره مجسِّداً طموح الشاعر الثائر وكانت من وحي الثورة، ثم أوصلته السياسة إلى عضويَّة المجلس الجمهوري – فجاء شعره مجسِّداً ذلك الواقع وكانت من وحي السياسة؛ إن شعره يرسم الصراع الدائر بين الثائر والسياسي. ولم تقف السياسة بالأستاذ الشامي عند هذا الشعر الفاتر الضعيف بل قادته كذلك إلى التنكر للجديد الشعري، وبدأ مرحلةَ تَرَاجُعٍ رهيبة عادت به إلى ما قبل "النَّفَس الأول" بألف عام وبضعة أعوام.. إلى عصر "المعرِّي" الذي بدأ يجاريه في "لزوميَّاته" ربما ليكفِّر عن تلك البدايات البريئة العذراء وعن تلك البكارات الفنيَّة المجبولة بنار الشعر المقدَّسة".
"ولعل مسرحيَّته الهزيلة [هكذا الهزيلة!] أخطر بيان عن هذا التراجع، فقد حشد فيها كبار الشعراء العرب في القديم والحديث لكي يدينوا القصيدة الجديدة، والشعر الجديد، بدلاً من أن يدينوا الانحطاط الشعري العام وليسهموا في تعريف الصالح من الطالح في التجربة حتى لا يؤخذ البريء بجرم المذنب، ولا يقتص القارئ من الموهوب انتقاماً من فاقد الموهبة".. "لقد كتب الشاعر أحمد الشامي "إلياذة من صنعاء" وكتب "لزوميَّات الشعر الجديد" وما يزال بين حين وآخر يكتب في الخمسينات مسافةً تزيد كثيراً عن المسافة التي تفصل بين شارع (الفِلَيْحي) في صنعاء، وشارع (أكسفورد) في لندن، وكان المتوقَّع والمنتظَر من شاعر موهوب في مثل قامته الشعرية، وثقافته القديمة والحديثة أن يكتب الآن شعراً جديداً يكون بينه وبين قصائد "حجَّة" و"الحُدَيدَة" مسافة لا تقلّ عن مسافة التخلُّف بين هاتين المدينتين التقليديتين وأيَّة مدينتين في بريطانيا". (ص38 – من البيت إلى القصيدة).
انظروا إلى تواضع كبير "دكاترة اليمن" علماً وأدباً ومعرفة؛ يقول فيمن ينتقده: "أستاذنا الشاعر أحمد الشامي" مع أن عاطفته الفنيَّة وتشجيعه لما يسميه "القصيدة الجديدة" وشعرائها مع أولئك الذين حشرتُهم في جحيم التهافت والانحطاط البياني واللغوي أمثال "علوان" ودبوان، و"السقّاف" والنقَّاف، و"اللوزي" والجوزي.! في مسرحيتي الهزلية: "محاكمة في جنة الشعراء".
وقد طربت لِلبَاقةِ الدكتور اللغوية حين استعمل لمَّا وصفها لفظة "الهزيلة" تلطُّفاً، لأنه يستطيع أن يقول: إنما قلت وأردت "مسرحيَّته الهزليَّة"، فالخطأ إذاً مطبعي؛ هكذا يستطيع أن يقول ويحقُّ لي أن أطرب وأضحك راضياً مطمئناً إلى أن الدكتور المقالح في قرارة نفسه قد رضي عمَّا صنعتُ؛ وإن كان لا يزال عند رأيه الذي يعلم أنِّي أخالفه فيه بالنسبة إلى "القصيدة الجديدة" والتطوُّر أو الترقي بها من البيت إلى القصيدة؛ ولم يقتنع بعدُ إلى أن "الرجوع إلى البيت" هو الأفضل؛ بل هو الواجب؛ أدباً وشعراً وعقلاً وشرعاً:
"وما أحلى الرجوع إليهِ"! والحديث شجون وله مكان آخر.
دفاع الشاعر عن نفسه:
وإنصافاً للحقيقة فلا بد أن أقول أن الدكتور المقالح كان حصيف المنطق وأقرب إلى الجدل المنهجي، والاستدلال البرهاني حين فرَّق بين ما زاولته مما يسميه "الشعر الجديد" عندما كنت – كما يقول – شاعراً ثائراً، وما كتبته منه بعد أن أصبحت "سياسياً شاعراً"؛ وله منطقة وذوقه وهواه أن لا يعجبه ولا يطربه ما كتبتُه في ديواني "إلياذة من صنعاء" أو في ديواني "لزوميات الشعر الجديد"؛ وأن يقول أيضاً أني ما زلت بين حين وآخر أكتب أشياء أسمِّيها شعراً جديداً ولكنها كما يعلم –أو كما يعلم الله– حسب تعبيره، تبعد عن الشعر الجديد كما كتبته في الخمسينات مسافة شاسعة.
وقد كان لطيف السخرية حين قال: إن تلك المسافة تزيد كثيراً عن المسافة التي تفصل بين شارع (الفِلَيْحي) في صنعاء [حيثُ نشأتُ وتثقَّفتُ عندما كنت شاعراً ثائراً]؛ وشارع (أكسفورد) في لندن؛ أي حيث صرت سفيراً أو مقيماً بعد أن أصبحت سياسياً شاعراً!
وهو يؤكِّد بهذه النكتة اللطيفة أو السخرية اللاذعة ما قاله قبل ذلك من أنه لا يرى غرابة في أن يكتب أحمد الشامي وهو في سجنه شعراً جديداً؛ فالسجن يدعو إلى كسر القيود؛ ولكن الغرابة أن يكتب (الشامي) في لندن شعراً عمودياً يلتزم فيه ما لا يلزم ويعود بنا ألف عام إلى الخلف!
والدكتور المقالح بهذه النكتة اللطيفة قد فنَّد مزاعم أستاذه الدكتور عز الدين إسماعيل ولاَشَى تحاملَه على الشامي، لمَّا قال إنه "ارتدَّ" ولم يكتب بعد الخمسينات شعـراً جديداً؛ وحسبي ذلك" وأما أن شعر "الإِلياذة" أو "اللزوميات" لم يعجبه سواء لضعف صياغته الفنية، أو للمواضيع الاجتماعية والفلسفية التي طرقها وهام في وديانها؛ فهل لي أن أزعم أن الأذواق تختلف وأن أذكِّره بقول المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم
ثم ألا يعلم الدكتوران الفاضلان أن مجموع ما نُشر لي حتى الآن في "ديوان الشامي" من قطع وقصائد بالشكل الذي يسمِّيانه جديداً أكثر من ثمانين قطعة أو قصيدة، وأن كل ذلك يكوِّن ديواناً ضخماً قد لا يوازيه أي ديوان لشاعر يمنيٍّ التزم الشكل الجديد في العصر الحديث!.
وهل يعلم الدكتور عز الدين إسماعيل – أما الدكتور المقالح فإِنه يعلم – أنَّ ديواني "إلياذة من صنعاء" قد صدر في مئتي صفحة؛ ويحتوي على أكثر من ألْفَي مصراع، وأن قصيدتي "أسطورة اليمن السعيدة" وهي بنفس الشكل الجديد تحتوي على أكثر من مئة وأربعين شطراً، وأرجوزتي "ماذا يريد القصيمي" تضم حوالي مئتي بيت؛ فهل يعلمان شاعراً يمنياً أخلص روحه للشكل الجديد – حسب تعبير الدكتور عز الدين – أرفد هذا الفن يمثل هذا العطاء؟
وهناك سؤال أودُّ توجيهه إلى شاعرنا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، وهو: هل يُعيبني شعرياً أن أغني لنفسي وأنا تحت الإقامة الجبريـة في مدينة الحديـدة عـام (1952 – 1953م) هذا اللحن:
 
"النور الشهيد"
حطمتُ مصباحي.. والليلُ يرزح تحت وطأته الوجودْ.
وخنقتُ صوتي في فمي، وصهَرْتُ لحني في دمي..
وكسرتُ قيثاري.. والكون يصغي للنشيدْ..
ونحرتُ أحلامي الجميلة.. وارتميتُ على الترابْ..
* * *
أبكي بلا دمع..! وأنوح بالصَّمتِ البليغْ.
وأريق سؤْرَ الروح.. فوق حطام آمال الشبابْ.
وأذيب لحنَ الثكل.. فوق رفات أنغام الربابْ.
* * *
ودَّعت أفراحي.. والشمس تدلف للمغيبْ..
والبحر ساجي الموج.. يرهب ظلمة اللَّيل العتيدْ..
يهفو إلى النور الجريحْ.. ويودِّع الضوء الذبيحْ..
والأفق في شفق الأصيل.. نشوانُ كالحلُم الجميلْ..
وأنا المعذَّبُ بالدجى والنور..
حيران.. لا أدري.. ماذا وراء الليل.
* * *
الفَجْرُ.؟ لا..
الفجرُ مقتولُ السنا.
خنقتهُ كف الهول.. وهو بمهد فرحته وليدْ.
يا دمعةَ الألق الطريدْ.
ذوبي على الفجر الشهيد.
* * *
ثم أغني لنفسي في المكان نفسه، وفي الزمان نفسه وبالأسلوب العمودي أو التقليدي كما يحلو للدكتورين أن يسمِّياه بهذا اللحن:
"ضراعة روح"
خذِ النايَ واصدحْ بالنشيد المطلْسَمِ
وحـرِّك صبابات الغـرام المكتّـمِ
طحا بك شـوقٌ في سمائم بَرْحـة
تذوب حنايـا كـل قلـبٍ متيَّـمِ
تبيتُ تُداري السُّهدَ أو تنشد الكرى،
وتصبحُ في ليـلٍ من الهـمِّ مظلـمِ
أحبّاً وقد ولَّى الشباب؟ وصبـوةً
وقد صرتَ مثل الهيكل المتهـدِّمِ!!
ولم تدعِ الأرزاءُ منكَ بقيَّةً،
لنزوة حبٍّ، وافتتان تتيُّمِ،
فؤادي شهيدُ الحبّ، لا تطلبوا لـه
غريماً سوى ثغـر الهـوى المتبسِّـمِ،
صبرتُ على هوج الخطوب ولم أطقْ
على الحبِّ صبراً وهو ينسابُ في دمي،
سقاني سعيـراً في رسيـس لهيبـه
فناءٌ لعمري واحتـراقٌ لأعظمـي
ومن يُعْطَ قلباً مثل قلبي يعشْ به
يَتيم الأَماني للتعاسة ينتمي
* * *
ثم هل يعيبني شعرياً أيضاً أن أقف ذات ليلة من ليالي خريف عام (1962م/ 1382هـ)، وبعد البكاء على "النور الشهيد" و"ضراعة الروح" بعشر سنوات وأنا سفير في (لندن) والأحداث في وطني تتمخَّض بالثَّورة؛ وهناك من العنصريين والطائفيين والحاقدين من أخافهم على وطني وعلى حيوات من أعزهم من أصدقائي وأبناء قومي والمسؤولون غافلون فأُهَمْهِم كئيباً حزيناً متشائماً:
 
"كهـف"
في حنينٍ دائم، وادّكارٍ واجمِ،
في زفيرٍ وشهيقْ، ونحيبٍ لا يفيقْ
ضلَّ عن مأواه لا يعرف نهجاً أو طريقاً
والأماني حوله صرعى؛ ولا يدري رفيقا،
* * *
كان بالأمس ربيب الصَّبواتْ
وهو اليومَ نديمُ الحسراتْ،
ورفيق العبرات، وصريع الذكرياتْ
وخيالات نشاء، وظنون خائباتْ،
ورؤى تلهثُ كالهيم بوادي العثراتْ.
وحنينٌ، وأنينٌ، ودموعٌ، وشتاتْ
* * *
كلَّما أمعن في الشُّكر صحا القلبُ الجريحْ
وأفاق الشوقُ، واستَعْرَمَ وجدانٌ ذبيحٌ،
وتراءت كخيوط العَنكبُوتْ..
ذكرياتٌ نَسَلَتْ من كهف ماضٍ موحشٍ
حسرات البؤس في أرجائه.. تتعاوى كذئابٍ جائعاتْ.
والمنايا تتلوَّى كالأفاعي، والرزايا كالوحوش الضارياتْ
ودموعٌ، ونجيعْ، وحنينٌ وأنينْ..
وسهادٌ واضطهاد، وعذابٌ لا يلينْ
كلّها ترجف خوفاً.. بين تلك الظلمات.
وفناء غامضٌ يفغر فاهْ..
وكيان شاحبٌ يرسف في أغلالِهِ..
وهلاكٌ ودمارْ.
* * *
وغدٌ.. يا ويح نفسي من غدٍ..
إنَّه لفحة نار، إنه وثبة ثارْ..
إنَّه وصمةُ جرحٍ في جبينْ، إنه وحشٌ كمينْ
إنه غضبة حقدٍ لا يلينْ
* * *
وبقايا خمرةٍ عاقرها شيخ عقورْ،
أغمضَ العين على نشوتها وهي تفورْ،
فهي موتٌ وحياةٌ، وهي إظلامٌ ونورْ.
* * *
ثم وفي نفس الزمان والمكان تستيقظ الأوزان والقوافي فأغنِّي لنفسي بهذه الأبيات:
 
"عندمـا تعـود"
وإذا مـا رجعـتَ يومـاً ولا عشّـ
ـكَ بـاقٍ، ولا غديـرك جـاري
والغصون الجدباء تبكي بصمتٍ
والهزارى هشيمة الأوكارِ،
وبقلبٍ محطَّمٍ وبروح..
مثقل بالأوجاع والأسرار
نحتَ تنعـى أهـلاً وجـيران أهـلٍ
وتُبكِّي داراً وأصحاب دارِ
إلى آخرها.. وكل ذلك قد كان.
* * *
وسأسأل الدكتور الشاعر أيضاً هذا السؤال الأخير.. هل يضيرني شعرياً أن أكتب في يوم من أيام أغسطس سنة (1954م /1373هـ) وأنا رهين الإِقامة الجبرية (بالحديدة) هذه القطعة التي أودعتهما "الديوان الغربي" والتي تسمُّون ما شاكلها اليوم "القصيدة الجديدة" وإن لم تتقيَّدْ بوَزْن أو "تفعيلة" موسيقية:
 
"من ليالي آب على شاطئ الحديدة"
إنَّها ليلة باهتة.. من ليالي "آبْ"..
امتزجتْ حرارة الجو المختنق..
برطوبة البحر الراكد.. وبأضواء القمر والنجومْ..
ولا منفتح لنسمةٍ عابرة..
واختنقت أنغام البلبل في جوفه..
فصمت يرتعش..
وأشعَّة القمر تتساقط على صفحة البحر وتغنِّي..
والسفينة الرابضة قد أضناها الانتظار..
وأغمض "العزيز" عينيه على طلائع حُلُم..
وأنا أطالع قصَّة.. ولا أرى أبطالا..!!
المسرح فسيح.. ولكن أين الممثِّلون؟
والرواية رائعة.. ولكن أين الأبطال؟
والمأساة دامية.. لكن أبطالها أقزام.
* * *
ثم آتي بعد أكثر من عشرين عاماً، أي عام (1975م/ 1395هـ) وأنا في مدينة (بروملي) البريطانية، فأجاري شاعر الإسلام أبا العلاء المعري بهذه اللزومية. [الألف مع الراء].
 
"لماذا الحنين"
عـراك الحنيـن بجُنْـح الدُّجـى
إلـى الأهـل لمَّـا خيـال سـرى
تذكَّرت "صنعاء" مهدَ الشباب وسالف عيشٍ بتلك الذرا
ليالي تمتحُ ماء الحياة… شجاعاً كأنك ليث الثرى
وأيَّام تسرح ما إن تقول ماذا سيجري؟ وماذا جرى
زمان البراءةِ والعنفوان، وصحو شبابهما والكرى
* * *
لماذا الحنين إلى بلدةٍ
بها العلم ممتحنٌ مزدرى؟
وأبناؤها هلكوا بالخمول.. ولا يسأمون الفِرَى والمِرى
أسارى خرافات جهَّالهم
وأوهام من غشهم وافترى
لماذا الحنين لماذا الأنين؟
وأنت ترى فيهمُ ما ترى
وجُلُّ الرفاق قد استشهدوا
ومعظمهم نُبِذوا بالعرا!!
ولم يبق إلاَّ رفاق الرفاق وأبناء من غيّبوا في الثرى
* * *
حناناً على مدنف خاشعٍ
يخاف الخضوع ويأبى الفِرى
تعبَّد للحق يسمو به..
وفيه يُشافه ما لا يُرى
زمـان الصبـا؛ يا زمـان الصبـا
ألا وَصْل يُبتاع أو يُشترى؟
أنا دمعة "الأزل" المرتجى
على "أبدٍ" مـات قبـل السّـرى!
رضعت المنايا وقطَّرتُها
نطافاً أُداوي بها ما اعترى
عرفـت بجهلي سـرّ البقـاء.. ومعنى الخلـود ولغـز الـورى:
"نزول كما زال أجدادنا
ويبقـى الزمـان علـى ما نـرى"
وليس ذلك فحسب، بل وأحن إلى "الشكل الجديد" من جديد وأنا في نفس المكان وبعد ثماني سنوات، فأقول:
 
"انتظار..!"
جوفاء ما تزال..
تلك السنابل المبرعمة..
جوفاء ما تزال ظامئة..
تنتظر المطرْ..
ورغم فجرنا.. القاتم الأحمر..
فشمسنا وراءه..
تريد أن تصعد.. وتساقط المطرْ..
من سحب الأفق..
على سنابل الشعير..
والشيخ واقفٌ.. يستروح الهواء..
في قلقٍ.. يرنو إلى السماء..
* * *
تلك الغيوم الداكنَة.. تلوحُ من بعيد
مثقلةٌ تلكَ الغيومُ الداكنة.. بالمطرِ الموعودْ.
أين الرياح؟
في شبقٍ تنتظر السنابل الجوفاء..
زَحْفَ الرياحْ.. ليهطلَ المطرْ.
* * *
فما العيب شعريّاً؟ وأين "الردّة"؟ بل وأين "الشيخوخة" المبكِّرة؟
الشعر الغَرْبي وعلم العروض:
وسيجد القارئ القصائد العموديَّة، أي المقيَّدة بقوانين "الشعر العَرَبي" الأصيل بجانب القصائد "التفعيلية" المنغمة؛ وليس فحسب بل وسيجد قطعاً مما يزعمه "المجددون" شعراً رغم عدم تقيده بوزن أو حتى بتفعيلة تميزه من النثر؛ وكنت قد نشرت في دواوين شعري الكثير من هذا النوع الذي يسمّونه "الشعر الجديد" وكلّها في "ديوان الشامي". غير أني لم أثبت إلاَّ ما التزمت فيه "التفعيلة" الملتزمة بالنَّغَمِ.. الموسيقي، وإن تعدَّدت "الأوزان"، وتنوعت "القوافي"؛ وذلك هو ما يميِّز "الشعر" من "النثر" عند العرب.
إنهم يسمّونه "الشعر الجديد" أو "الحديث"، وكنت ولا أزال أحدهم.. شريطةَ التزام "الوزن" و"التفعيلة الموسيقية"، ونُكِبَ الأدبُ العربي المعاصر بما سمّوه "قصيدة النثر"، وجاء بعض المتشاعرين بالطِمّ والرمّ وما يصدع الرؤوس. ولعل هذه التسمية: "قصيدة النثر" قد تسلَّلت إلى الأدب العربي المعاصر من تلك الروائع التي ترجمها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع هذا القرن الميلادي [القرن الرابع عشر الهجري] فطاحل من أدباء وشعراء العرب في مصر والشام والعراق لنوابغ الشعراء الأوروبيين، فقد كانوا ينقلون قصائدهم وآثارهم الشعرية؛ وحرصاً منهم على الإبداع والإتقان وأمانة الترجمة، ونفوراً من التقعُّر والتكلُّف، لا يلتزمون الأوزان والتقفية، وقليلاً مَن يتكلَّف ذلك منهم فيحافظ عليهما إذا عرف من نفسه القدرة، وكان شاعراً كبيراً، أمثال: خليل مطران وعلي محمود طه وعلي أحمد باكثير وأضرابهم من شعراء "أبلّـو" و "المهجر".
وفُتِن بهذه التسمية: "قصيدة النثر"، فريقان:
• أحدهما: عدوّ لدود لِلُّغة العربية الفصحى، ويحاول بشتّى الوسائل، ومنذ زمن قديم، هدم قواعدها، وإبادة تراثها، وتشويه خصائصها، وطمس علومها البيانية التي استطاع بها المسلمون أن يحافظوا على كتابهم المعجز المقدس "القرآن الكريم" طيلة أَربعةَ عشر قرناً؛ تصديقاً لوعد الله في قوله تعالى: إنّا نَحنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُون؛ وهذا الفريق يمارس مهمَّته بعلم ومعرفة وطِبق مخطَّط تآزَرَ على رسمه، ويتعاون على تنفيذه الصليبيُّون والصَّهاينة وهم الذين أشاعوا بِدعَ إلغاء "الفصحى" واستبدالها "بالعامية"، وتغيير الكتابة والقراءة بالحروف العربية واعتماد الحروف اللاتينية؛ وتحدَّثوا طويلاً عن "الثابت والمتحول"؛ وأَلَّفوا في ذلك الكتب وبأساليب شيطانية لا يفقه مكرَها، ويفهم سوء مقاصدها، إلاَّ العالمون: يُريدونَ أن يُطفئُوا نورَ الله بأفواهِهمْ ويأبى اللهُ إلاَّ أن يُتمَّ نورَه.
• والفريق الثاني: المقلِّدون والمتشاعرون من تلاميذ مدارس ومعاهد الفريق الأول.
ونشأ جيلٌ من المتأدبين الذين تخرَّجوا من الجامعات والمعاهد الغربية؛ ولم تُثَقَّف ألسنتهم وأرواحهم بآداب اللغة العربية، وتلقّوا معارفهم باللغات الأوروبية ودرسوا بها آدابها فظنُّوا أنَّ "الشعر العَرَبي" – وليس فقط الغَرْبي المترجم – يمكن أن يُسمَّى شعراً دون التزام لقافيةٍ ووزن.. وأغرقوا في ظنونهم، فزعموا أن هذا هو الشعر الحق، وهو الجديد الذي يجب أن يحلّ محل الشعر الرجعي العتيق "الموزون المقفّى"؛ وضربوا لذلك الأمثال؛ وغفلوا عن أمرٍ بيِّن وهو أنَّ الناقد العربي لا يعوزه التمييز بين الجيِّد والردي من القول، سواء كان موزوناً أو مرسَلاً؛ ولكنه لا يستطيع أن يسمِّي ما ليس موزوناً "شعراً عربياً".
وقد تأثَّر هذا الفريق الضائع بما تلقَّاه أبناؤه أثناء دراساتهم في معاهد اللغات الأجنبيَّة، دون أن يتثقَّفوا عربياً بما يحصِّنهم ويحميهم – كما قلنا – فظنّوا أن "النثر الفني" وما اتَّبعه بعض شعراء أوروبا وأمريكا المحدثين من فن بياني لا يتقيدون فيه بقافية ولا وزن واستساغوا، وأباحَتْ لهم لغاتهم وآدابها وقابليتها للتغيير والتجدُّد أن يسمّوه شعراً – ظنوا أن هذا "الفن" مما يسمِّيه العربي الأصيل "نثراً" لا أصل له في "الأدب العربي"، وأنه اختراع جديد للغرب يجب أن يسود كما سادت سائر الاختراعات المادية – ولا يُلامون على هذا الظن إن وقعوا فيه، فهم لم يقرؤوا خطب العرب ولا درسوا "مقاماتهم" عبر العصور فلا يعرفون "قسّ بن ساعدة"، ولا "سحبان وائل" ولا "علي بن أبي طالب"، ولا "واصل بن عطاء"، ولا "البلوي"، ولا "الجاحظ"، ولا "الزمخشري"، ولا "بديع الزمان"، ولا المئات من أضاربهم المتقدمين. وأظنهم أيضاً لم يدرسوا "الأيام" لطه حسين، ولا "وحي الرسالة" للزيَّات، ولا قرؤوا آثار جبران والرافعي من المتأخرين؛ وآثار أولئك وهؤلاء بل والمئات من أئمة وأعلام البيان وفطاحل البلاغة تزخر بها المكتبات الخاصة والعامة.
وقد كثر اللَّغط، وتكرَّر الجدل حول "القصيدة الجديدة" أو "قصيدة النثر" أو هذا "الشعر المنثور" الخالي من الوزن الموسيقي، وفيه الجيد والردي؛ والبعض يمارسه بإبداع وبراعة؛ وبينهم شعراء ليسوا بعاجزين عن نظم الشعر "الموزون المقفَّى"؛ ولا يمكن أن ندَّعي أنهم تهرَّبوا عن التفاعيل والأوزان والقوافي عجزاً وجهلاً كالمقلِّدين والمتشاعرين؛ ولا خلاف بيننا وبينهم أن هذا الفنَّ من البيان ليس موزوناً؛ ولا نختلف على استحسان ما كان جيداً منه، ولا ازدراء ما كان ردياً.. لا تصويراً ولا تعبيراً، كما لا نختلف أيضاً أن علماء الشعر العربي قد قالوا: إنه "الكلام الموزون المقفَّى".
وإذن فأين يكمن الخلاف؟
إنّه على "التسمية" فقط؛ ولقد كان آباؤنا أكثر حصافةً منا حين كانوا يضعون لكل ما يخترعونه، أو يجدّ من فنون الشعر والصناعات الأدبيَّة أسماء تميِّزها من غيرها من سائر الفنون البيانية وصناعات الشعر والنثر أمثال "لزوم ما لا يلزم"، و"القوافي المشتركة"، و"القصائد المعرَّاة"؛ وسمَّوا أحد الفنون: "محبوك الطرفين"، وآخر: "ما يُقرأ نظماً ونثراً"، و"ما لا يستحيل بالانعكاس"، و"الملاحن"، و"الأحاجي والمعميّات"، و"المتائيم"، و"المشجّر" و"البَنْد"، و"ذوات القوافي".. إلى غير ذلك.
والحلّ بالنسبة لما يسمّونه "قصيدة النثر" سهل وميسور – في نظري – إذا خضعنا لمنطق العقل والعلم، والواقع اللّغوي والتاريخي لكلمة الشعر ومعناها عند العرب.
وسنقضي على هذا اللَّغَط والجدل "البيزنطي" الذي يدور في الصحف والنوادي الثقافية، وقد تنبّه للأمر، وعالج المشكلة أحد النقّاد الشعراء العلماء العرب قبل ستمئة عام وبضعة وأربعين عاماً قمريّاً وهو الشيخ العبقري صلاح الدين الصّفدي المتوفى سنة (764هـ/ 1266م)، في كتابه "الغيثُ المسجَمْ"، وهو يتحدّث عن "العروض والقوافي"، فقال رحمه الله:
"العروض: آلة قانونيَّة تعصم مراعاتها الإنسانَ عن أن يضلَّ في وزن "شعر العرب"، وهذا الاحتراز الأخير [يقصد شعر العرب] أتيتُ به؛ لأن اللغة اليونانية فيها شعر، وليس الشعر عندهم ما يكون ذا وزنٍ وقافية، ولا ذلك ركن فيه، بل الركن في ذلك إيراد المقدمات المخيّلة؛ وقال أرباب المنطق: القياس الشعري قولٌ مؤلف من مقدمات مخيّلة تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً من قبض وبَسْط.. إلخ". (ج1، ص54).
وإذن: فأنا أقترح أن نسمِّي هذا الفن من البيان "الشعر الغربي" إذ لا يصحّ أن نسمِّيه "الشعر السرياني" لأن "السريانيِّين" كانوا يصوغونه موزوناُ وإن بدون قوافي؛ ولا يمكن أن نسمِّيه "الشعر العبراني"، لأنهم يشترطون فيه القافية؛ ولاعتبارات أخرى!! وهو ليس شعراً عربياً لأن الوزن والقافية هما ما يُميِّزان "الشعر" من "النثر" عند العرب كما قال الصَّفَدي.
ولنا قُدْوة بالشاعر الألماني (جوته)، إذ قد سمَّى أحد دواوينه "الديوان الشرقي"، وهو ما أعمله الآن في "الديوان الغربي" والذي سيجد القرَّاء نماذج منه في هذا المجلّد إن أصرُّوا على تسمية هذا النوع من البيان شعراً، لأنَّه صيغ في تعابير تؤثِّر في النفس؛ وإذا لاقى هذا الاقتراح قبولاً فقد تخمد نار الجدل، ويُقْطَع دابر الخصام، وقد بسطت القول في السفر الأول من كتابي "معجم شعراء اليمن في الجاهلية والإسلام" (ص208 – 213) عن هذا الموضوع.
وأودّ أن أوضِّح أني لا أنصح الشعراء بالإِسراف في دراسة علم العروض، ولا بالاعتماد عليه حين تخامرهم هواجس الشعر وتناجيهم دواعيه، فالشعر موهبة فطريَّة، وليس علماً يدرَّس في المعاهد والجامعات والتي إن كان في إمكانها أن تخرج من كليّاتها مهندسين وسياسيين وعسكريين ومحامين وأطباء فليس في إمكانها أن تُنْجب شعراء!
وأنا شخصياً لم أحاول دراسة علم "العروض" على أستاذ، ولا أذكر أني لجأت إلى أوتاده وأسبابه وفواصله وأنا أنظم شعراً، ولا أظنُّ أن شعراء المعلَّقات قد عرفوه، ولا أن أفذاذ شعراء العرب كأبي تمام والبحتري والمتنبّي بل والبارودي وشوقي والزبيري، قد اهتموا بدراسته لكي يكونوا شعراء؛ وقد قال بعض القدامى: "إنه لا حاجة للشاعر إلى علم العروض لأن كل من نظم به شق ذلك عليه، وأتى نظمه مكلّفاً، وإلى أن ينظم بيتاً يكون الشاعر صاحب الطبع السليم قد نظم قصيدة".
وقال الجاحظ: "العروض علمٌ مُسْتَبْردٌ، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستكدُّ العقول، بمستفعلٍ ومفعول، من غير فائدةٍ ولا محصول".
ولكن (الجاحظ) ورغم سخريته بمن يعتمد عليه في النظم دون طبع سليم وفطرة شعرية كان يعلم فائدته لناقد الشعر، وأنها تنحصر في تمييزه "الشعر العربي" من سائر أشعار الأمم، ولذلك قال: "العروض ميزان الشعر ومعياره وبه يُعرف الصَّحيح من السقيم، والمعتلّ من السليم".
وقال (الجوهري) في الصحاح: "العروض ميزان الشعر".
ونقل (الصَّفدي) عن علي بن عبد الرحمن أنه قال: "العروض علم يُدرك به ما تعتقده "العرب" من كلامهم شعراً".
وكثيراً ما كان الشعراء يسخرون ممَّن يتكلفون النظم معتمدين على معرفتهم بعلم العروض دون موهبة وطبع فقال أبو فراس:
تناهَضَ النّاس للمعالي
لمَّا رأو نحوها نهوضي
تكلّفوا المكرمات كدّاً
تكلّف النظم بالعروضِ
وقال ابن حجاج:
مستفعلنْ فاعلٌ فعولٌ
مسائلٌ كلّها فضولُ
قد كان شعر الورى صحيحـاً .
من قبـل أن يُخلـق الخليـلُ
وقال أحمد شوقي:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة.
أو حكمة؛ فهو تقطيع وأوزان
ولم أتعرض للموضوع إلاَّ لكي أؤكِّد ما قاله (الصفدي) من أنَّ فائدة هذا العلم تنحصر في "فصل القضيَّة فيما يُتَنَازعُ فيه هل هو شعرُ عربي أم لا" [الغيث المسجم، ج1، ص56]، فهل اقتراحي أن نسمِّي هذا الذي يسمِّيه بعض المحدثين "قصيدة النثر" أو "القصيدة الجديدة": "الشعر الغربي"، سيفصل القول ويقطع دابر الخصام إذا تُلقّيَ بالقبول؟
ثم ما كان جيداً منه قبلناه، وما كان رديئاً رفضناه.
مسرحيَّة البتول:
في 25 ديسمبر سنة 1985م/ الموافق 13ربيع الآخر عام 1406هـ كنت في مدينة (ويلت دزني) بفلوريدا، وشاهدت احتفالات القوم بذكرى ميلاد السيِّد المسيح عليه السلام؛ فتذكَّرتُ، والذكرى تثير الذكرى؛ ما نوَّهَ به السيِّد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه "الروضة النديَّة"، وأورده من قصة ميلاد البتول السيدة "فاطمة الزهراء" رضي الله عنها؛ واكتسحتني موجة شعرية فنظمت في تلك العشية وضحاها مسرحيَّة "مولد البتول"، وقد رأيت – رغم أنها عمل مستقل – أن أضمِّها إلى المجلّد الثالث من "ديوان الشامي".
وختاماً.. ها أنا أقدِّم سجلّ حياتي مُنغّماً في "ديوان الشامي" ولو كان ذلك الصديق الكريم الذي كان ألطف وأعنف، وأصدق وأرأف خصومي السِّياسيِّين؛ والذي قال لي – باسماً – وأنا أُهدي إليه ديواني "النفس الأوَّل" قبل أربعين عاماً: متى ستلفظ "النَّفَس الأخير"؟!.. لو كان لا يزال يتنسَّم أنفاس الحياة الدنيا لأهديته إليه مُتمثِّلاً بقولي يومئذٍ:
هو دمعي؛ وليتَني
في جفوني حبستُهُ
وابتسامي؛ وليتَني
في فؤادي دفنتُهُ
لو تبيّنت منتهى
مهيعي ما مشيتُهُ!
أحمد بن محمَّد الشّامي
جدة: 25/5/1411هـ
12/11/1990م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1341  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج