(( كلمة سعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي انعمَ علينا بنعمة الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آل بيته الكرامِ الطاهرين وصحابته أجمعين. |
الأستاذات والأساتذة الكرام، |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
يسعدني أن نلتقي مجدداً على طريق الكلمة لنحتفي بأحد رجالاتها، سعيداً أن أرحِّب َ باسمكم جميعاً بضيفنا الكبير سعادة الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر، الشاعر والروائي الذي ذاع صيته مغاربياً، وإلى حد ما في دول المشرق العربي. |
ولن أستطيع الاسترسال قبل أن تطوف بي لحظة الأسى والحزن العميق بِفَقدِ شهبندر التجار الأخ الصديق الشيخ إسماعيل علي أبو داؤود الذي لبَّى نداء ربه مؤخراً.. ولا نملك جميعاً في مثل هذه المواقف إلا أن نسأل المولى عزّ وجلّ أن يتغمده بعفوه ورضوانه، ويوَسِّع مدخَلَهْ، ويُكرِم نُزُلَهْ، مع الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً.. وأن يُحسِن إليه بقدر ما قدَّم لوطنه، ومواطنيه، والأمة الإسلامية. |
إن قافلتنا تسير هذه الأمسية المتوهجة بألق الشعر مع ضيفنا الذي تفضل مشكوراً بتلبية دعوتكم فَقدمَ من نواكشوط، التي تنام بين أحضان شواطئ المحيط الأطلنطي وتُخُوم الصحراء الكبرى.. والسِّدر، والطَّرْفة.. هو عاشق الصحراء، التي يكتنفها الغموض، وتلُفُّها دهشة استمرار الحياة المستحيلة وِفقَ المُعطيات المعروفة، وهي توافر الماء والغذاء، وبانعدامهما تذوي الحركة، غير أن الصحراء تعجُّ بحياة غير عادية، وتسير بموجب قوانينها الذاتية، وليس غريباً أن تدفع نحو قمة الإبداع بعض أبنائها، الذين تشرَّبوا نقاء طبيعتها وتجذرت في نفوسهم فطرتُها السليمة، فكان نتاجهم بطبيعة الحال انعكاساً لتلك البيئة المنفتحة على آفاق شاسعة، لكنها في ذات الوقت كثيفة الغموض والإيحاءات والرموز. |
تعلمون أن بعض الدول تُعرَف بما اشتهرت به، فمملكتنا الحبيبة بلاد الحرمين الشريفين، والعراق أرض الرافدين، ومصر هبة النيل، والبحرين بلد المليون نخلة وغيرها من المسميات التي درج كثير من الناس على تداولها من منطلق المحبة.. وفي هذا الإطار نجد أن موريتانيا الشقيقة، التي يبلغ عدد سكانها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ثلثهم من الشعراء.. فأطلق عليها المحبون بلاد المليون شاعر.. وليس ذلك بغريب على بلاد تلتقي فيها زرقة السماء، بأُفق الصحراء من جهة، وأمواج المحيط من جهة أخرى لتُشكِّل قُبة هائلة من فضاءات الخيال، مما يمنح الإنسان المجبول على الفطرة النقية مسرحاً غير محدود للإبداع في مجال الكلمة، شِعراً ونثراً. |
إن فارس أمسيتنا من جيل الشعراء الكبار الذي أثْروا الساحة في الستينات من القرن الماضي.. كان هَمُّ الوطن العربي الكبير يُمثّل هاجساً لكثير من الشعراء أمثال عُمر أبو ريشة، والبياتي، وعبد الله بلخير، والسياب، وصلاح عبد الصبور، وفاروق شوشة، والفيتوري.. وغيرهم من العمالقة الذين سكبوا مهجهم عطاء مشكوراً لخدمة القضايا التي رأوها مُلحَّة في ذلك الوقت، وقد أسهم الإعلام بكل فروعه في ذيوع شهرة هؤلاء الشعراء بنسب متفاوتة، وإن لم يُهمل أياً منهم بصورة مجحفة، غير أن القطيعة الإعلامية بين طرفي العالم العربي في المشرق والمغرب، أدت إلى عدم ظهور أعمال وأسماء كثير من المبدعين في المغرب العربي الكبير بين المتلقين في المشرق العربي، وينطبق ذات الشيء على أكثر شعراء المشرق، إلا قلة تجاوزت الطوق المضروب عليها، لتغرس شيئاً من نبضها في الشارع المغاربي.. وأحسب أن ضيفنا الكبير ليس بِدعاً في هذه المعادلة التي لا تَسُرُّ الحادبين على تواصل جناحي الوطن العربي، ليحلق بقوة ويضرب بكل ثقة في سماء الإبداع، ثم يُلوِّن ثمرات عطائه بجذور ثقافته التي تمتد من الماء إلى الماء في وحدة رائعة، كما فعل أسلافنا الذين كانوا يجوبون الأقطار شرقاً وغرباً، وبالتالي حققوا منجزات ظلَّت متوهجة على امتداد التاريخ.. بل تلقفتها حضارات ولغات شعوب أخرى وشُرفت بترجمتها لإثراء ذائقتها الأدبية، ومدِّ وشائج التعارف مع مختلف ثقافات العالم، باعتبار أن العلم والثقافة لا وطن لهما، فهما ملك الإنسانية في كل زمان ومكان. |
إن فارس أمسيتنا وجد نفسه مجبولاً على الدفاع عن لغة القرآن الكريم الذي تشرَّبه طفلاً وصبياً في الكتاتيب أو ما يُسمى في موريتانيا المَحاضِرْ.. ونظراً لتفتح مداركه على مجتمع شديد التعقيد من ناحية الأوضاع الاجتماعية، وإثر الاستقلال من ربقة الاستعمار الفرنسي عام 1960م، نشأت اتجاهات متعددة لإحياء لغات من الموروث الإفريقي المحلي، أو تبني اللغة الفرنسية، أو إنعاش اللغة العربية، ووسط هذا الصراع الثقافي كان لا بد لضيفنا الكبير من الاستماتة في الدفاع عن اللغة العربية، فازداد بها كَلَفاً وتعلُّقاً، كما استنهض شاعريته الكامنة ليسطع نجمه وسط (مليون شاعر).. وهو ليس بالأمر الهيّن بأي حال من الأحوال.. فكان الشعر قلعته التي نافح من خلالها عن العروبة والإسلام.. وامتد اهتمامه إلى قضية العرب الأولى -فلسطين- لتجد مساحة كبيرة من اهتماماته. |
أما الشعر الغنائي فقد كان واحداً من روّاده، وتغنى بقصائده كثيرٌ من مطربي موريتانيا.. وذاعت له أناشيد وأهازيج عديدة بين طلاب وطالبات المدارس في مراحل التعليم المختلفة.. الأمر الذي أتاح له التغلغل في وجدان مواطنيه، وأكسبه حبهم وشغفهم بإبداعاته الأدبية. |
وأحسب أن الشعر لم يعُد القناة التي تكفي تصريف ما يجيش في نفس ضيفنا الكبير، خلال مرحلة ما في مسيرته الأدبية، فاتجه نحو فن الرواية، ليزاوج بينها وبين الشعر، فأبدع ناثراً كما توهَّج شاعراً.. وتلك سمة الإنسان متعدد المواهب، الذي يستطيع أن يوظّف قلمه لخدمة المبادئ والقيّم والأهداف التي يعمل لأجلها.. فأسهم بكثير من الشفافية في علاج بعض المشكلات الاجتماعية التي تؤرق بلاده وتُعيق إلى حد كبير اندماجها في مسيرة المجتمع الدولي الذي يحضُّ على احترام حقوق الإنسان، واقتسام السلطة والثروة، على أساس المواطنة فقط ولا شيء سواهما.. وقد أبلى ضيفنا الكريم بلاءً حسناً في هذا التوجه، وما زال الشوط أمامه طويلاً لتقديم المزيد من الأعمال الإبداعية التي تضم صوتها، وتؤازر، وتُعزِّز مشوار الحوار الوطني، مستفيدة من تجارب الآخرين في بيئات اجتماعية مماثلة، للخروج بحلول جذرية تدعم السلام والتنمية والازدهار، في بلد تبلغ نسبة الأمية فيه قرابة الخمسين بالمائة بالنسبة للرجال، وحوالى سبعين بالمائة بالنسبة للنساء.. في الوقت الذي يتمتع فيه بإمكانات وثروات طبيعية وفيرة لم يتم استغلال أكثرها مثل خامات الحديد، والجبس، والنحاس، والفوسفات، والماس، والذهب، والنفط، والأسماك.. وهي ثروات يقابلها إنسان تقعده كثير من المشاكل عن الاستفادة منها بطريقة مثالية، إذ لا بد من نهضة تعليمية شاملة، وِفق مناهج تستقرئ الحاضر والمستقبل، حتى تتمكّن الأجيال القادمة من مواكبة الركب العالمي بما نتمناه لبلد المليون شاعر، ليكون أيضاً بلد المليون مشروع اقتصادي ضخم، إسهاماً في نهضة عربية تتخطى الكلمات والأحلام، دخولاً لواقع معاش يتفق وعظمة تاريخنا ومآثره الجمة. |
مرحباً بضيفنا الكريم في وطن الجذور والخير والمحبة.. متمنياً لكم أمسية ماتعة مع مواهبه المتعددة، التي من بينها اشتغاله بالتدريس، والصحافة، كما كان قلبه على التراث ممثلاً في عمله واهتمامه بالمخطوطات التي حفلت بها موريتانيا منذ عهود ضاربة في التاريخ، فأسهم مع باحثين ألمانيين في إنجاز وترجمة فهرس المخطوطات الموريتانية، كما عمل لمدة عشر سنوات بتكليف من اليونسكو في جمع وتبويب المخطوطات وكانت سنوات مليئة بالعمل المضني، لكنه أثرى الثقافة والهوية الموريتانية إلى حد كبير.. وعلى أمل أن نلتقي الأسبوع القادم بسعادة الأستاذ الدكتور عمر بن قينة، أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وصاحب أكثر من ثلاثين كتاباً مطبوعاً (بحوثاً أكاديمية، ومؤلفات عامة، وأعمالاً إبداعية، ومجموعة مقالات فكرية وسياسيـة وأدبية).. آملاً أن نلتقي للاحتفـاء به وأنتم بخير. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
عريف الحفل: قبل أن أحيل الميكروفون لأصحاب المعالي والسعادة المتحدثين تعلمون أنه يتم فتح باب الحوار بينكم وبين فارس الاثنينية بعد أن تُعطى لسعادته الكلمة أخيراً إن شاء الله، ومن له سؤال عليه أن يوافينا به وأن يكون سؤالاً واحداً حتى نتيح الفرصة لأكبر عدد من حضراتكم. |
أحيل الميكروفون الآن إلى معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن بيّة عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز. |
|
|