أطعمتُهُ الروحَ لكنْ بَعدُ ما شَبِعاَ |
والقلـبُ فـي إثرهِ مـذ طـار مـا رَجَعاَ |
ومن دِمائيَ كم أسقيتُـهُ غَدَقَـا |
كيما أُرَوّي الذي في مهجتي زرعاَ |
الشعرُ طيفٌ رهيب ظلَّ يسكُنُنا |
وفي الحُشاشة من أعماقِنا قَبَـعاَ |
والشعرُ عندي ملاكٌ سابحٌ أبـداً |
يطيرُ بالشاعر الخلاّقِ إنْ وقـعاَ |
وهبتُهُ العُمر، إن العُمرَ في يـده |
والقلبَ ذاك الذي منه قد انصدعاَ |
وجئته اليوم أستجديـه قافيـةً |
في موكبٍ لفحولِ الشعرِ قد جَمعاَ |
لكنها نفرتْ كالغيـد معرضـة |
حـتى بـدت مثـل نجمٍ فـي السما ارتفعاَ |
(سألتَهَا الوصلَ قالت: أنتَ تعرفُنَا |
من رامَ منا وصالاً ماتَ) أو صُرِعَا |
وراح قلبي في آثارها مِزَقـا |
وكم تقاوَى على أعقابِها وَسَعَى |
تَمنَّعت غير أني رُحتُ أُنشِدُهَـا: |
"أَحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنِعا" |
وظَلَّ يسألُ عن شعرٍ له مُقَلٌ |
وعن خيالٍ خصيبٍ طالما ابتدعاَ |
أين القوافـي الـتي قـد كنـتُ أعهدُها |
كالغيثِ سَحَّا ومثل النهرِ مُندفعا؟ |
قد كنّ كالغيدِ إثري، كُلُّ غانيةٍ |
فؤادها نحو قلبـي طالمـا نَـزعاَ |
وأين شعـري الـذي قـد كنـتُ أنثـره |
كالدرِّ فـوق رخامٍ فـي الضُحى لمعَــا؟ |
أو كاللآلئ في نظمٍ وفي نَسَـقٍ |
تظلُ تسطع في سِلْكٍ لها جَمَـعاَ |
قـد أجدبَ الشعـر وانسـدت غوادقُـه |
كأنه عن مَعِينِ الشعر قد قُطِـعَا |
وظلّ يبحثُ عنه القلبُ في لَهَفٍ |
يقولُ لـي خافقـاً: مـن "أجدبَ انتجَعاَ" |
فاستلِهم الشعر أهل الغرب إنّ لهم |
شعراً يروق شبابَ العصر مُخترعا |
فيه الحداثة عنوان الرُّقيِّ، فهـل |
سوى الحداثة للأشعارِ قد رَفَعاَ؟ |
غموضه يعجز الأفهام فهـو إذا |
أنشدتـَهُ قيل: نِعمَ الشعر مُبتدَعا |
واعبثْ بأوزانِ شِعـرِ العـُرب وأْتِ بـما |
يَظلُّ عن فهمِ كلِّ الناسِ مُمتنِعَا |
فقلتُ في حيرةٍ ظلـت تؤرقنـي |
والقلبُ فـي هيكـلِ الإلهـام قـد خشعَا: |
"الشعرُ ليس أعاريضـاً منسقـةً |
وليسَ قافيةً كالطبـلِ إن قُـرِعاَ" |
وليسَ نثراً هزيلاً غامضاً لزِجـاً |
تراه للقارئ المسكين قد صَفَـعاَ |
لكنـه نبـعُ إيحـاءٍ وعاطفـةٍ |
مِن كـلِ قلـبٍ رهيفِ الحسِّ قـد نَبَعـاَ |
طوراً يُحررُ من قيدٍ ومن رسنٍ |
فيستحيلُ كنهرٍ سالَ واندَفَعَا |
وتارة كهديل الوُرْقِ منسجماً |
إذا الحمامُ على أفنانـهِ سَجَـعَا |
لمحاً يُحلِّـمُ بالمعنـى ويحجبـهُ |
فيتركُ القلبَ خلفَ الحُلمِ مُندَفعا |
إن لم يَمَسَّ شِغافَ القلبِ ضَـاعَ سُـدى |
مثلَ السـرابِ بقفـرٍ فـي الضُّحـى لَمَعاَ |
ما الشعرُ إلا مخاضٌ كلُّـهُ ألـمٌ |
لا تُنجِبُ الأمُّ إن لم تَنْتَفِض وَجَعا |
الشعرُ طِفلٌ حبيبٌ رائـعٌ أبـداً |
كأنه من فؤادِ الشاعـرِ اقتُطِـعاَ |
أعطيتُهُ فَوقَ ما قد كنتُ أملكُهُ |
ولم أكن منه طولَ العمرِ مُنتَفِـعاَ |
سَلْ مهجتي عن مُعاناتي له فلقد |
ظل الفؤادُ بِدُنيا الشعرِ منصَدِعاَ |
كان الصديقَ اللدودَ المُجتَبى ولكم |
حَمَّلـتُ قلبيَ منـه فـوقَ مـا وَسِـعـاَ |
والشعرُ مثلُ الهوى سهلٌ وممتنعٌ |
وأعـذبُ الـحب مـا قـد كـان مُمتنعَا |
والشعرُ كالبحر للسباحِ تُبصـرُهُ |
كأنما فوقَـهُ ينسـابُ مُندَفِعـاَ |
ومن يَكُن جاهلاً بالسبح منتحرٌ |
وجاهلُ البحرِ في أعماقِهِ ابْتُلِـعاَ |
كُن سابحاً ماهراً في البحرِ منسرحاً |
أو شاعراً فطناً في الشعرِ مُبْتَدِعا |
وإنْ تأبَّتْ قوافي الشعرِ وامتنعتْ |
فسوفَ تَسْلُسُ مثل النبعِ إنْ نبَعَا |
وسوف تنصاعُ مثل الغِيدِ طَيِّعـةً |
(فالصعـبُ يسهـلُ حتمـاً بعدمـا امتنعَا) |
كم لانَ جامحها إذ كنتُ أزجرها |
فتستجيبُ كعبدِ طائعٍ خَشَـعَا |
غنيتُ منذُ عُقـودٍ مجـدَ أمتنـا |
لكنني لم أجد للحنِ، مَنْ سَمِـعَا |
فكدتُ أُلجمُ صوتي إذ مضى هدراً |
وكـدتُ أيـأس مـن إيقاظ مـن هَجَعـاَ |
دعِ القصيدة في الأعماق نائمـةً |
فقلما صادفت من صانها ورعَى |