(( كلمة الأستاذ عبد الله طنطاوي يلقيها نياية عنه سعادة الأستاذ محمد علي موزة ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم.. |
أيها الأخوة الكرام.. |
الحمد لله والصلاة والسلام على مصطفاه وعلى آله وصحبه ومن والاه. |
ويسعدني أن أتحدث إليكم من بُعد، بعد أن حالت حوائل دون لقائي بكم، والتحدث المباشر إليكم، وأبدأ حديثي بتحية عميد هذه الاثنينية الرائعة الشيخ عبد المقصود خوجه الذي أخذ على عاتقه تكريم أهل الفضل والعلم من علماء هذه الأمة وأدبائها وشعرائها وكتّابها، وجعل من هذه الدار العامرة مصدر إشعاعٍ أدبيٍّ قلَّ أن يكون له نظير في عالمنا العربي، فهنيئاً للأخ الكريم عبد المقصود هذا الشرف العظيم. |
أحدثكم عن شاب في سن ولدي (هكذا يقول الأستاذ عبد الله الطنطاوي) عرفته منذ إحدى عشرة سنة، جالسته فيها، وحادثته وآكلته، وسافرت إليه ومعه، وناقشته وحاورته وزرته وسَبَرته حتى خبرته، فأنا ويا ويح الناس من أنا، عندما أتحدث عنه فإنما هو حديث الرفيق الخبير بأحوال رفيقه، وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (يوسف, الآية: 81)، عرفت أخي وزميلي الأستاذ أحمد علاونة عام 1993 جاءني زائراً إلى بيتي المتواضع في عمَّان، وبعد أن استقر المقام به وتجاذبنا أطراف الحديث قال لي: أنت لم تسألني من أنا؟ قلت في ابتسامتي المرحبة: سيماكم في وجوهكم من أثر الصلاح، وأهلاً بك أخاً عزيزاً دخل حبه إلى قلبي دون استئذان، لمحتُ طيف ابتسامة ودود تمر سريعاً بمحياه، وغضَّ من طرفه الحيي وقال: أعرفك بنفسي، ولم يزد تعريفه نفسه عن كلمات مقتضبات موجزات ولكنها قرَّبته إلى نفسي، وطمأنتني لزائري وجليسي الذي كنت سمعت به عندما كنت في بغداد، وكنت يوماً في زيارتي اليومية للمجاهد العالم الذي كان يحمل سيفه في كتبه اللواء الركن محمود شيت خطاب تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه. |
سألني اللواء خطاب عن أحمد العلاونة من إربد في الأردن، فقلت: لا أعرفه، ولم أسمع باسمه، نهض اللواء ودخل غرفته ثم عاد برسالة أرسلها إليه أحمد العلاونة يطلب فيها معلومات عنه، قلت للواء: لا بأس في إرسال سيرة حياتك له، فهو فيما يبدو من رسالته باحث في حياة الرجال، وقد اختارك من بينهم. |
وأرسل اللواء إليه سيرته الذاتية وعَلِقَ الاسمُ بذاكرتي، وتتابعت الزيارات وتعانقت الأرواح وتعارفت وتحابت في الله، بعد أن جمعتها أواصر الأدب ورحم العلم. |
ومن هنا تكون كلماتي المضيئات هذه مضيئات لزوايا لا يعرفها الكثيرون منكم عن ضيفكم المكرَّم أحمد. |
أيها الأخوة الأحبة: |
لقد برز صاحبنا المكرَّم أحمد إلى عالم التأليف كبيراً، ما عرف وما عرفنا عنه طفولة ولا مراهقة ولا شباباً في الكتابة والتأليف كدأب كثير من الكاتبين، لم يتدرج في التأليف والكتابة وكان أول كتاب له كتابه "ذيل الأعلام" وكل من اطّلع على الذيل الطاووسي البديع ظن صاحبه من المؤلفين الكبار ذوي السابقة في التأليف وصاروا يتساءلون: أين قرأنا لهذا الكاتب؟ ما الكتب التي ألفها؟ كيف غابت عني كتبه وأنا دودة كتب؟ كان هذا في سهرة أدبية في بيتي المتواضع وعندما قلت لهم: إن هذا الكتاب الكبير هو باكورة أعمال الكاتب، عجبوا لقولي وارتابوا، فهم من أصحاب الصنعة، وما كان لواحد منهم مثل هذه البداية الكبيرة. |
أجل يا سادة.. ظهر أحمد العلاونة على الساحة الأدبية ناضجاً يعي ما تريده منه مهنة الكتابة والتأليف من علم، وأصالة في الشكل والمضمون معاً، قبل أن يمسك القلم ليخط به أول مؤلف له كان قد تمكن من أدواته، تمكن من اللغة بنحوها وصرفها، وتمكن من الأساليب الكتابية واختار الجزيل منها، لأن الجزالة تتناسب وطبيعة ما يكتب فيه، فجاء أسلوبه جزلاً فصيحاً يندر أن تند منه شاردة مع أنه يعتمد على تحصيله ولم يدفع مؤلَّفه إلى عالِم في اللغة ليراجعه، ويدل على السقط فيه إن وجد. ولأنه إنسان متواضع، كان إذا شك في مسألة بادر إلى الهاتف وهاتف أستاذنا الذي كان من أواخر الفصاح الدكتور إبراهيم السامرائي -رحمه الله تعالى- ذلك العالم البليغ المتضلع الذي ظُلم حياً وظُلم ميتاً، وكادت تضيع كتبه المخطوطة، أقول: كان الأستاذ العلاونة يبادر إلى أستاذنا السامرائي أو إلى سواه من العلماء فيسأله على استحياء وبإيجاز شديد، ولعل العجيب أيها السادة أن تعلموا أن ضيفكم المكرم كان عصامياً في سائر أحواله، وخاصة في بابه العلم والتأليف، فهو لم يدرس في جامعة ولم يحمل شهادة عليا كتلك التي يزين بها بعض الكَتَبة أسماءهم، وكان الدكتور إبراهيم السامرائي يأباها، ويأبى أن تتقدم اسمه فهو عليم وفوق تلك الشهادات مهما علت. |
إن الضيف المكرم حُبب إليه العلم، وعشق لغة القرآن العظيم، وصَبَتْ نفسه الأمارة بالخير نحو معرفة حياة الرجال الأعلام، والطرق التي سلكوها لتكون حافلة، فأقبل على كتب التراجم يشتري منها ومن مستلزماتها ما شكل مكتبة كبيرة تليق بمن قرر أن يكون كاتباً مجلياً في هذا الميدان الذي يتطلب حذراً حتى لا تزل به قدم فيشطح أو يظلم. وهذا لن يكون بإذن الله الذي هيأ لهذه الأمة عِلْماً بزّت به سائر الأمم، عِلم معرفة الرجال، علم الجرح والتعديل في رواة الحديث النبوي الشريف، ومترجمو الرجال من العرب والمسلمين ينحون نحو علماء الحديث في صورة من الصور، وليس كما يفعل المختصون بعلم الحديث، إنهم يستأنسون بما فعل ويفعل علماء الحديث، وما ينبغي لهم إلا أن يستأنسوا أما أن يفعلوا فعل رجال الحديث، فهيهات. |
وصاحبنا الأستاذ أحمد العلاونة اطلع على كتب الرجال وبحث في كتب التراجم ونهل منها وعبَّ، ما جعله خبيراً بها، ثم آلى على نفسه أن يكون مثل أولئك الكاتبين فعمل بصمت، ودأب، وجَلَد، وصبر، وتحرك وهو الموظف المكبل بأكبال الوظيفة، تحرك نحو معاصريه من الرجال، فالتقى من استطاع أن يلقاه منهم في البلاد العربية، وراسل من لم يتمكن من لقائه، وبنى لنفسه شبكة من العلاقات الاجتماعية الحية، إنه يسعى إلى العلماء والمفكرين والأدباء والباحثين والدارسين حيناً، ويكاتبهم حيناً آخر، حتى تجمع لديه كمٌّ من الرسائل، أرجو أن يقرأها الناس ذات يوم، ففيها من الفوائد ما يدعونا إلى مطالبته بإطلاعنا عليها. |
والضيف المكَّرم كان يسعى ولا ينتظر من الآخرين أن يقدموا المعلومة إليه مهما كانت، وقليلون هم الذين يقدمون المعلومة تطوعاً، يمسكها بعضهم جهلاً بأهميتها عمن يقدرها قدرها، ويمنعها آخرون حسداً من عند أنفسهم، وأحمد يعرف هذا وذاك، ويصبر كما صبر ويصبر على الأدعياء، وعلى من سرقوا شيئاً من جهده وعمله. |
إن فيه الكثير من أخلاق العلماء، كنا إذا ضمنا مجلس أبو قيس فيه تبارينا في الكلام، وفي الحديث عن النفس، وعما فعل كل منا وما كان ينوي أن يفعل، كانت تأخذنا شهوة الكلام كل مأخذ وفي سائر الاتجاهات، وكان معظم الكلام عن الذات، كلٌّ يتحدث بلسان (أناه) ولا يكاد يتجاوزه إلا ليعود إليه، فما يصبر الواحد منا على سماع ما يتحدث به الآخرون عن أنفسهم، وهو ساكت، كل يحب أن يعجب به الآخرون، وأن يحمدوه بما فعل وبما لم يفعل، إلا أحمد العلاونة، إلا أبا قيس، فقد كان يؤثر الصمت ويطبقه، ونحن لا نطيقه، يُقلِّب بصره في المتحدثين، ولا ينبس ببنتِ شَفَة، مهما كانت تلك البنت صغيرة، يأخذ من المتحدثين الذين أرهقوه وأرهقوا أنفسهم بأحاديثهم النشطة عن أنفسهم، ولا يرهق أحمد إلا نفسه بصمته، وفي الصمت إرهاق يعرفه الثرثارون من الأدباء والسياسيين ورجال الإعلام ونسائه، إنه كما قلت لا يحب أن يُحمَد بما فعل، فكيف بما لم يفعل؟ هذه خصلة أكبرها فيه، وأفتقدها في كثيرين ممن عرفت مذ وعيت. |
وصفة أخرى: بُعدُه عن الغيبة والنميمة، فلم أسمعه ينم طوال تلك السنين، وما سمعته شارك في غيبة أحد في مجلس، قد يستفسر عن الرجال الذين يريد الكتابة عنهم يريد تقويمنا لهم، يستمع ثم يعود إلى ما اقتنع به مما سمع وقرأ وعرف. وهذه خُلّة عظيمة، مزية كبيرة أن تمضي مع جلسائك ساعة من زمن من دون أن تسلق بلسانك أو تسمع لسان جليسك الذي قُدَّ من حديد يَسْلق أو يَقْرِض سمعة بعض الأصدقاء، وبعض الزملاء، وبعض المعارف، وبعض الأقارب، وليس من السهل أن يمضي الجلساء سهرتهم دون ذلك. |
إذا جالس أحمد العلماء سرهم بما يتمتع به من مزايا وأخلاق وشمائل مُحَببة كالتواضع لهم، والحياء منهم، وبصمته المهذب، وبكلماته الأشد تهذيباً، تلك التي تدل على دينه وخلقه وعلمه الذي ينبثق من بين شفتيه دون ادعاء، ودون حب للظهور بمظهر العالم فيما اختص به من علم. |
ومن تلك الأخلاق التي يتمتع بها أحمد عيش الكفاف، في زهد حقيقي بهذا الحطام الذي يقتتل حوله الناس، إنه زاهد بما في أيدي الناس، ويأسى لما يراه من أحوال كثير من العلماء والأدباء والشعراء الذين يقتتلون ويتحاسدون ويتباغضون في غير طائل، وكان الأحرى بهم أن يكونوا فوق التوافه التي تُفضي بهم إلى القيعان التي يضطرب فيها سائر الناس من السَّفلة والأوباش ومن إليهم. |
لم يتمكن حبُّ الدنيا من قلبه ورضي بالقليل منها، وهو يحيا بصدق مع نفسه الصافية، ولا يهتم كثيراً بضيق ذات اليد، إلا إذا أراد أن يقدم لأديب أو شاعر ما ينفس عنه كربة من كرب الفقر والعَوز، فلا يجد أحمد إلا القليل في جيبه، فيسارع إلى الاستدانة لتنفيس كربة المكروب الذي اطلع على حاله، فأبت شهامته إلا أن تتقدم على استحياء من لا يملك إلا القليل. |
ومن أخلاق الضيف المكرم وفاؤه لأساتذته وأصدقائه ومعارفه، ولعلكم عرفتم أنه بادر إلى تأليف ثلاثة كتب عن ثلاثة من هؤلاء: كتاب علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، وكتاب عن آخر الفِصَاح في زماننا: العليم إبراهيم السامرائي، وكتابٌ عن العالم اللغوي والأديب الدكتور محمود الطناحي، -رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة-. |
أيها الأخوة الأحبة: |
أرجو ألا أكون قصمت ظَهْر أخي أحمد العلاونة بما قلت ولا دققتُ عنقه، وأنّى لي أن أصل إليه في سموقه، إنْ هي إلا كلمات، لو عرف أحمد أني قائلها فيه لرجاني أن أمسك أو أوجز، وقد أوجزت، |
والسلام عليكم وعلى ضيفكم المكرَّم وعلى صاحب الدارة سعادة الشيخ عبد المقصود. |
|
الشيخ عبد المقصود خوجه: أرجو من الأساتذة الكرام أن يتقيدوا بالوقت، أرجو ذلك شاكراً. |
مداخلة في الحقيقة أجد أني من الضروري أن أتلوها وأعقِّب عليها بنفسي، التعقيب من الدكتور سعد العتيبي، يقول: |
قال أخي أحد المتحدثين أن العسكريين أبعد ما يكونوا عن العلم والأدب والثقافة، أقول: إن تاريخ الأمم والحضارات كتبه الفرسان العسكريون، أولاً: بأسنة الرماح، وحد السيوف، وجاء بعدئذ الكتاب والمؤرخون ليسجلوا ذلك في أشعارهم، وهل تاريخ الأمم إلا ترجمة لحياة فرسانها! وقادتها وجيوشها، ففي الوقت الذي نجد غيرهم ينعمون بالأمن والسكينة، غير أن العسكريين قد وضعوا أرواحهم فوق راحاتهم، وهذا أبو تمام يقول: |
السيف أصدق إنباءاً من الكتب |
في حده الحد بين الجد واللعب |
|
|
وذكر الأخ الكريم أحد أعلام العسكريين وأضيف الشاعر محمود البارودي اللواء علي زين العابدين، وغيرهم كثر ممَّن لا تحضرني أسماؤهم، فإن لم نستطع أن نقدر تضحياتهم فحبذا لو لم نصفهم بالبعد عن العلم والثقافة. |
أكرر ما أشار إليه الدكتور سعد العتيبي وبكل تقدير واحترام أقول إن إخواننا العسكريين عرفوا بالخشونة وهي صفة الرجولة ولكنهم لا يقلون ثقافة بل أحياناً نجد الكثيرين منهم أكثر ثقافة من أصحاب الدعة، ولنعد إلى صدر الجاهلية ونرى أن أكثر المجيدين كانوا رجال حرب ورجال سيف قبل أن يكونوا رجال قلم، لهم دائماً كل التحية والرأي دائماً لا يقيد إلا صاحبه. وشكراً جزيلاً. |
|
عريف الحفل: الكلمة ما قبل الأخيرة أيضاً بعث سعادة الدكتور عبد العظيم الديب أستاذ الشريعة السابق بجامعة قطر، ومستشار بوزارة الأوقاف بقطر، ويقرأها نيابة عنه الأستاذ الأديب عبد المجيد الزهراء. لأن أيضاً نأمل الاختصار، ترى الوقت.. |
|
|