(( كلمة سعادة الأستاذ محمد النفوري ))
|
فقد شرفني الأديب الأريب راعي هذه الندوة الندية قبل عقد من الزمن في دعوة كريمة للمشاركة في احتفالها بتكريم أستاذي وصديقي الدكتور البارودي، فعرفت أنها اثنينية تكرم عالِم محقق في الأدب أو العلوم أو عالم في فنون أخرى حِسبة واحتساباً، فأصبحت بفضل الله ثم بدأب راعيها ملتقى للعلماء في علوم شتى، وأصبحت مجلداتها أهم سِفْر وثائقي يؤرخ تراجم كوكبة من العلماء العرب، ولا يستغني عن هذه الأسفار القيمة باحث أو محقق في التيارات الفكرية والأدبية والعلمية في المملكة والبلاد العربية خلال هذه الحقبة، ومهما حاولت أن أستعين بما في خزائن البلاغة عن التعبير للشكر للأخ الشيخ عبد المقصود فيبقى معروفه أكبر. |
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه |
لا يذهب العرف بين الله والناس |
|
|
وإذ أتشرف اليوم بالمشاركة في أمسية تكريم العلامة الموسوعي الدكتور عبد الحليم سويدان أطال الله عمره، وأسبغ عليه ثوب الصحة والعافية. |
أذكر نبذة عن منطقة ترعرع فيها الدكتور عبد الحليم سويدان وهي منطقة "القلمون"، وكلمة "القلمون" منطقة أحسبها آرامية ، ويقال أنها تعني الجبل الحلو لما فيها من أشجار التين والعنب وما غير ذلك، فمنطقة "القلمون" هضبة تقع بين دمشق وحمص ذكرها ياقوت الحموي في معجم "البلدان" وفي غربها جبل "سنيّر" المعروف الآن باسم سلسلة جبال لبنان الشرقية، ويفصلها عن بادية الشام سلسلة جبال "القلمون" الممتدة من عقدة جبل "قاسيون" وحتى مشارف "تدمر" هي إقليم بارد صيفاً، قارس شتاءً تكسو الثلوج أعلى قممه كل الشتاء والصيف، في هذه المنطقة مرج "عذراء" وثنية العقاب التي عبرها خالد بن الوليد إلى دمشق ويتكلم سكان عدة قرى في وسط هذا الإقليم فيما بينهم باللهجة "السيريانية"، التي كان يتكلم بها السيد المسيح وحتى الآن، في هذه المنطقة بلدات متجاورات على بلد زراعي هي "يبرود" و "النبك" و "دير عطية" و "قارة" يقطنها جميعاً مائة ألف أو يزيدون من المسلمين والمسيحيين العرب، ولا تبعد المسافة بين بلدة وأخرى أكثر من عشرين كيلو متر ،فكلها لا تعادل حياً من أحياء "الرياض" أو "جدة"، ولعلها صدفة أن يكرّم راعي هذه الندوة المباركة ثلاثة من أفاضل أهل "القلمون" أحدهم الشاعر المهجري الكبير المرحوم "زكي قنصل" من "يبرود" والثاني فضيلة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي من "دير عطية" والثالث العلامة عبد الحليم سويدان من "قارة" و "قارة" ذكرها ياقوت الحموي في معجمه أن أهلها كلهم كانوا مسيحيين، وقال فيها أن الشيخ عبد الغني النابلسي من شدة بردها "ما بين قارة والنبك بنات البُكَّر تبكي" بنى برجها الملك الظاهر بيبرس عام ستمائة واثنين وعشرين وقد روى لي صديقي العزيز المرحوم الأستاذ شريف سويدان شقيق معالي الدكتور أن الملك الظاهر مر في بلدة قارة في طريقه لقتال الفرنجة فوجد أهلها النصارى يظاهرونهم فأجلاهم إلا عائلة واحدة من المسيحيين سالمته، ووطَّنَ فيها أسرات مسلمة عريقة ذات شوكة ومنها أسرة آل سويدان، ومن الشائع أن أسرة آل سويدان من أصل تركماني ولكن صاحب تاريخ الأسرة الأتاسية التي هي فرع من آل العطاس وآل العيدروس وآل السقاف يقول في ذلك أن من باب عادة العرب نسبة إلى النازلين في ديارهم إلى بلادهم التي أتوا منها فقد جاء جد آل الأتاسي من بلاد التركمان إلى بلاد الشام فنُسِبَ إلى حيث أتى، ويقول إن أسراً كثيرة ومنها آل سويدان والكيلاني والخاني وغيرهم نُسِبَت إلى المكان أيضاً، وأنه قامت في القرن الثاني عشر الهجري مصاهرة بين آل الأتاسي وبين آل سويدان آغا الحسينيين أغوات حسيا وحُكّام حمص فقد تزوج إبراهيم سويدان متسلم "حمص"، ووظيفة المتسلم في العصر التركي تعلمون أنها تعادل مستوى وزارة داخلية، تزوج متسلم "حمص" من خديجة بنت محمد الأتاسي، وتزوج ابنه من بنت الشيخ صافي الأتاسي، وكما تعلمون أيضاً أن هذه الأسرة أسرة الأتاسي كان منها رئيس جمهورية في منتصف القرن الماضي مرتين هو المرحوم هاشم الأتاسي، وسواء كانت أسرة سويدان متصلة بالدوحة الحسينية أو متحدرة من غيرها فإن أسرة عريقة لا تزال لها مكانتها ووجاهتها في المنطقة. |
وحينما كانت نُذُر الحرب العالمية الأولى تدق طبولها بدأت رحلة معالي الدكتور عبد الحليم سويدان في تحديه للزمن، ففيما عشية الحرب العالمية الأولى والدعوة للسفر برلك ولد في بلدة "قارة" عبد الحليم ابن حجار آغا سويدان، وأمه أيضاً من أسرة عريقة من أسرة الدعاس إحدى حواضر "القلمون"، ويشرفني أن تكون قرابتنا لجدة أمه من آل النفوري، وأتم دراسته الابتدائية في "النبك" والثانوية في "دمشق" ولتفوقه حصل على منحة للدراسة في فرنسا لدراسة طب البيطرة، والتحدي الآخر أن تكون ولادة عبد الحليم سويدان تحدياً للظروف القاسية في مطلع الحرب العالمية الأولى، ولكن التحدي الأكبر كان دراسته في ظل الانتداب الفرنسي القاسي على منطقة "القلمون" خاصة لأنها كانت تقاوم الثورة الفرنسية على الانتداب، فكان تحديه الثاني أيضاً دراسته الجامعية في بلاد الغرب أثناء الحرب التي قاسينا منها في سوريا أيام الانتداب ما قاساه الأوروبيون وخاصة في فرنسا عشر ما قاسيناه ذلك، وحصل في ظل هذه الظروف الصعبة على درجة الدكتوراه في الطب البيطري من أكاديمية باريس ووزارة المعارف الفرنسية. |
|
الحديث عن الحرب ليس بالحديث المرَّجم تضر إذ أضرموها في كل أرجاء أوروبا وتقطعت السُبُل بالطلاب الموفدين فاتخذ الدكتور سويدان أيضاً قرار التحدي الصعب كما كان أيضاً المرحوم معالي الدكتور الدواليبي، فانصرف إلى تحصيل العلوم في الفروع الأخرى امتثالاً لقول الله تعالى: وقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً (طه, الآية: 114) وقوله تعالى: هَلْ يستوي الذين يَعْلَمونَ والذينَ لا يَعْلَمونَ (الزمر, الآية: 9) فكان الدكتور سويدان أحد منهومين لا يشبعان طالب علم وطالب مال، فانتسب بعد تخرجه طبيباً بيطرياً لكلية العلوم وتخرج فيها بخمس شهادات عالية، ولما وضعت الحرب أوزارها سارع مع كثير من زملائه لركوب البحر في شهر آب من عام 1945م عائدين إلى الوطن وكانت فرحة العائد فرحتين فرحته بالعودة إلى أهله متمماً مهمته بتحصيل العلم، وفرحته باستقلال وطنه، فأين هؤلاء الروَّاد من جيل اليوم؟ الذي استبدل بعض شبابه الذي هو أدنى بالذي هو خير، واشتروا الضلالة بالهدى ورغبوا عن الثقافة إلى السفافة، نتمنى من كل جيلنا وجيل أولادنا أن يقتدي بهؤلاء الروَّاد الذين كابدوا وجاهدوا ووصلوا إلى ما يرضي الله. |
|
كان التحول الثاني في حياته الوظيفية الزاخرة في العطاء، أستاذاً في كلية العلوم، فساهم في تأسيسها وتعاقبت مهماته الوظيفية وكيلاً لجامعة "دمشق" ووزيراً للزراعة، ولكنه لم يدم طويلاً فعاد إلى كرسي الأستاذية للعلوم فكل ميسر لما خُلِقَ له، فهو يهوى سياسة العلم وليس علم السياسة. |
تحوله الثالث عندما ولى وجهه شطر أفريقيا، في منظمة "اليونسكو" خبيراً وأستاذاً في المدرسة العليا في الرباط، وأستاذاً في الجزائر، وخبيراً في اليونسكو في المعهد العالي للدراسات الزراعية في الكونغو، ثم ألقى عصاه واستقر به النوى وقد بلغ الرابعة والستين فلم يعد يتمثل قول الطغرائي: |
إن العلا حدثتني وهي صاغرة |
فيما تحدث أن العزَّ في النُقَلِ |
|
فعاد إلى كرسي الأستاذية في قسم علوم الحيوان الذي أسسه في كلية العلوم جامعة دمشق إلى أن تقاعد لما أكمل السبعين من عمره المديد بالصحة والعافية، وتصديقاً لقول الله تعالى: يَرْفَعُ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُم والذينَ أُوتٌوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ واللهُ بِما تَعملونَ خَبِيرٌ (المجادلة, الآية: 11) صدر مرسوم من رئاسة الجمهورية بتاريخ 12/10/1983 بتسميته عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق، وهو أول مجمع أُنشئ في العالم العربي في العهد الفيصلي في العام 1919 م ومدة عضويته مدى حياة العضو، ولم يبخل عبد الحليم سويدان وهو يجاوز السبعين على بلده ووطنه، ولم يتنكر للعلم الذي أحبه إيماناً بقوله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسيرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسوُلُهُ والمؤمِنُونَ (التوبة, الآية: 105) فاستقطبته هيئة الموسوعة العربية رئيساً لقسم العلوم التطبيقية مدة ستة عشر عاماً، وقد ذكر لي صديقنا الأستاذ الدكتور عادل عبد السلام زميل العلامة الدكتور عبد الحليم سويدان في عمله في الموسوعة عن همة هذا الشيخ وحدة ذكائه، وإضاءة ذاكرته وحصافة رأيه، ومثله يُزكي الشهادة ولا يُزكى بها، أنه كثيراً ما يُسمي أنواع النبات أو المصطلحات العلمية التي يدرسونها باللغة العربية والفرنسية واللاتينية بلا كتاب أو قاموس يقرأ فيه، ولم تكن السنون الثمانون التي بلغها تحيج سمعه إلى ترجمان. |
أيها الأخوة الأفاضل عفواً إن أطلت عليكم لكن الحديث عن العلامة الموسوعي الدكتور عبد الحليم سويدان يحتاج إلى أكثر من ذلك فمن سجاياه بسطه علمه بأدب جم وتواضع كبير غير دعيٍّ ولا فخور، معتقداً حرمة احتكار العلم، وحرمة احتقار المتعلم، وكل من عرفه والتقى به يشعره أنه صديقه وحده لسعة ما يحيط محدثه بعبارات المودة والاهتمام. |
إنني واحد من أبناء منطقة "القلمون" لا يسعني إلا أن أقف بكل إجلال واحترام لأحيي في نهاية الكلام علامة "القلمون" الدكتور عبد الحليم سويدان. |
|
وأشكر مرة أخرى سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه أصالة عن نفسي ونيابة عن أهل منطقة "القلمون" كلها لتكريمه علماءها، ومنهم هذا الشيخ الوقور العلامة الغيور، أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية، وعلينا نحن أبناء المنطقة إيفاء علمائها الآخرين حقهم أمثال المربي الكبير النحوي القدير ياسين طربوش يرحمه الله، وغيره من العلماء والوزراء والقادة العسكريين والسياسيين الذين لهم فضل كبير على هذه المنطقة خاصة ووطنهم عامة وأشكركم جميعاً مرة أخرى وأستغفر الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
عريف الحفل: وننقل الميكرفون إلى سعادة الأستاذ الدكتور محمود حسن زيني أستاذ الدراسات العليا بجامعة "أم القرى" بمكة المكرمة. |
|