شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة معالي الأستاذ الدكتور عبد الهادي بوطالب ))
بسم الله الذي علمنا ألا نبدأ بدون أن ننطق بسم الله، وكل شيء لا يذكر عليه اسم الله فهو رد، والذي علمنا الفاتحة أن نُشيد وأنا أنطق بالبسملة بوصفين من أوصافه العظيمة الرحمن الرحيم وهذان الوصفان يعنيان أن ديننا الذي نفخر بالانتماء إليه هو دين الرحمة والتراحم والتعاطف والتكافل تكافل الأمة الواحدة على الكتاب الواحد على الإله الواحد على الدين الواحد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المعجزة البشرية الذي دعا بالصدق الذي صدَّق به المؤمنون ومايزال المؤمنون يصدقون به إلى يوم الدين، المعلم الأكبر الذي تربى في الوحي على ما أراد الله أن يكون عليه، ومنَّ الله عليه في ذلك في قوله: وعَلَّمكَ مَا لَمْ تَكُن تَعلَمُ وكانَ فَضلُ اللهِ عليكَ عَظِيماً (النساء, الآية: 113) هذا النبي الذي أقول لأفواج الطلبة في الجامعة إن الله تولى إعطاءنا ورقة الهوية كما نقول اليوم، في هذه الآية الكريمة: الذينَ يَتَّبِعونَ الرسولَ النبيِّ الأُمِّيَ الذي يَجدونَهُ مَكْتُوباً عِندهُم في التوراةِ والإِنجيلِ، يأمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ ويَنهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَليهِمُ الخَبائِثَ ويَضعُ عنهُم إِصْرُهُم والأغلالَ التي كانت عَلَيهِم (الأعراف, الآية: 157).
نبي التسامح نبي السماحة، النبي الذي لا يمكن أن يأذن أو يقبل العرف أو يقبل الإرهاب، أو يقبل أن يقوم المسلم بهذا الدور الذي لا يقوم به الإنسان الذي كرمه الله ونزهه عن أن يكون عامل إرهابٍ، بهذه الآية الكريمة أقول عنها إنها تؤلف الهوية للنبي صلى الله عليه وسلم، فيها مرجعيته أولاً، ووظيفته ومعجزة النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل مرجعيته، جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، بعد ذلك جاء بدين السماحة يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وقد ثبت علمياً أن كل ما حرمه الإسلام من الخبائث مضر وأنه مؤذٍ، وكل ما أحله الإسلام من الحلال ثبت أنه لا ضرر فيه، ويضع عنهم إصرهم، هذه كلمة الإصر تشير الثقل الذي كان تأتي به الديانات لمن سبق المسلمين، ألم يجدوا في القرآن ولَو أنَّا كَتَبنَا عليهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسِكُم (النساء, الآية: 66) كل هذا وضعه الإسلام كما يزحزح الإصر عن الأعناق يضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم، وكَتَبنا عَليهِم فيها أَنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ والعَينَ بالعَينِ (المائدة, الآية: 45) هذه يتحدث الله عن اليهود، وكَتَبْنَا عَليهِم فيها (المائدة, الآية: 45) أي: اليهود، الدين الإسلامي دين السماحة ودين تكافل ودين حضاري، وأقول عنه أنه دين الحداثي أيضاً، فهذا التعبير مني أنا أعتقد أن الحداثة والأصالة ليستا متشاكستين أو لا تقدران على العيش في بيت واحد أو تحت سقف واحد، بل بالعكس تتكاملان، أنا أقول بتأصيل الحداثة وتحديث الأصالة، ويمكن لهذه العملية أن تتم، وأدعو إلى ذلك في جميع خطبي وكتبي وأبحاثي، الإسلام دين الحداثة لماذا؟ لأنه جاء يَجُبُّ ما قبله، يقطع الصلة بالماضي، ويحدث الجديد، ليس المراد يجبُّ ما قبله لا ينبغي أن يفهم الحديث على أنه الدروب التي اقترفها من لم تصلهم الرسالة لا يؤاخذ الله بها، فالعبارة تشمل أكثر من ذلك، كل ما كان في عهد الجاهلية نسخه الإسلام ومحاه وأبطله وألغاه، وجاء بدين جديد أي حداثي، أي دين ينور الفكر والحداثة تنوير وكذلك جاء بدين يعطينا القدرة على أن نفهم ونستنبط الأحكام للمستجدات في عصرنا، وذلك بالجهاد الذي لولاه لما كمل الدين، حتى أن الآية القرآنية التي نزلت في عرفات على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على جبل عرفات في خطبة الوداع، وداع الدنيا إلى الآخرة، لأنه تنبأ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.. الحديث، هذا الإسلام جاء بشيء جديد كله تجديد أليس هو الذي جاء يستنكر القائلين إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم.... جاء هذا الإسلام وعلماؤنا يقولون إنه لا يقبل من المسلم أو المؤمن أن يقلد في دينه، جاء ليحض على التفكير والعقل والفهم والإدراك، ولعل عبارة نظر وفكر وقدر وما جاء فيها من جميع المشتقات مفعولاً به وفاعلاً ومصدراً وفعلاً في جميع الأزمنة من مضارع وماضي كلها بلغت من الكثرة في القرآن ما يدل على أنه دين تفكير وأنا أقول دائماً لطلبتي وأقوله لأولادي لأصدقائي لا يمكن للمسلم أن يكون مسلماً إن لم يكن يفكر لأنه لا بد أن يفهم لماذا هو مسلم؟ ولماذا دخل الإسلام؟ إذا كان لا يستطيع أن يجيب على السؤال فهو مؤمن ناقص الإيمان، وليس مؤمناً كامل الإيمان، علينا إذن أن نفكر وهذا التفكير هو الذي جعل الإسلام يزدهر، وعندما توقف الاجتهاد في القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي، توقف التفكير توقف الاجتهاد وتعقد الدين، وأصبح العالم يتساءل ما هي الأحكام التي تكون حيال المستجدات التي ظهرت في العصر؟ وبالاجتهاد يصح القول أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، وتنطبق الآية إنّا نحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وإِنَّا لهُ لَحَافِظُونَ (الحجر, الآية: 9) أقول هذه المقدمة فقط ربما جاءتني عفواً، لم أكن أخطط أن أبدأ هكذا، لقد طُلب مني أن أتحدث في هذه الكلمة جواباً على الكلمات الطيبة الخيرة التي أخجل بها السادة العلماء الذين تقدموني أخجلوا بها تواضعي حتى أنني أحياناً أترك نفسي وأنا أسمع الواحد تلو الآخر يُمجد ويُكرم ويُضفي عليَّ من الألقاب ما لا أستحقها، كنت أتساءل تراهم أيتكلمون عني أم عن غيري؟ ذلك أننا تربينا في تربيتنا داخل الأسرة وفي حلقات القرويين وتتلمذنا على أعلام شامخين في المعرفة، تتلمذنا على التواضع والتواضع هو الذي يتوفر دائماً للعلماء، العلماء أكثر الناس تواضعاً، ومن لم يتواضع والذين لا يتواضعون هم الجاهلون، والله أرجو أن يزيدنا علماً ونعوذ بالله كما كان يقول صلحاؤنا وأساتذتنا نعوذ بالله من علم لا ينفع.
طُلِبَ مني أن أتحدث عن جوانب من حياتي، وثقوا لا شيء يؤلمني ويزعجني أن أتحدث عن نفسي، لا يضيرني أن أسمع الغير يتحدث عني، ذلك لأنني أستفيد حتى لو تجاوز المتحدث عني طريقة النقد هي التهجم والانتقاد، لأنني أستفيد في كلتا الحالتين، أستفيد لأنني أعرف النقائص التي يجب أن أصلحها في نفسي، وأستفيد إذا كان هذا النقد بالأخص نقداً علمياً يستهدف الحقيقة والحقيقة لا يملكها واحد ولا مجتهد واحد.
أيها الأخوة.. أيها السادة: أنا مدين للسادة الأساتذة الذين تقدموني وأضفوا عليَّ صفات ما زلت أكرر وأعيد أني لا أستحقها، وأنهم أخجلوا تواضعي لكنهم كلهم على خلقٍ عظيم، وهذه هي أخلاق النبوة، الله تبارك وتعالى توجه إلى عبده محمد عليه السلام قائلاً: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم, الآية: 4) وعائشة كانت تقول: "كان خلقه القرآن" والأخلاقي الكبير.. هذا الرجل العظيم الذي علمنا أن يتواضع يستشير غيره من الصحابة فيما ينزل به وحي ويقول إني لم يوح إليّ إني مثلكما لم يوح إلي بأي شيء فماذا ترون في ذلك؟ يسألهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير كان ينظم يطبق نظام الشورى بالمعنى الحقيقي للكلمة، وما أكثر من استشار من رجال ونساء كانت له أيضاً من النساء مستشارات أم سلمى وعائشة، عائشة هذه الفتاة الصغيرة السن التي ذكرها الناس ذكرها الله وذكرها المؤرخون على أنها من المكثرين من الحديث، كانت تعطي الفتيا كانت تخطب في الجماهير، كانت تفتي كانت تفسر القرآن، كانت تشرحه، هذا هو الإسلام، هذه هي المقاربة الإسلامية التي يجب أن نأخذ بها، وهي الجرأة على اقتحام النصوص الدينية لنفهمها أكثر ونقوم بها بقراءة أخرى لأجل أن نفهمها، وجميع تفاسير القرآن منذ أن صدر التفسير الأول تفسير عبد الله ابن عباس، كان في مجموعها قراءات مختلفة فيها ما لا يتفق بعضها مع بعض، ولكنها قراءات مطلوب إعمال الفكر في النص يفيد في الاقتناع بقوة النص وبصحته ويعطينا الإيمان الذي يقوم على التفكير والاستنتاج وعن العقل.
تعلمت أن أكون متواضعاً من والدي، دعوني أتكلم هنا وأنا أعتبر أنني لا ألقي خطاباً إنني أدردش معكم، أقوم بدردشة ربما أحسن من أن أُعِدَّ خطاباً.. أنتقل من موضوع إلى موضوع، أسرح عبر الفكر الذي يقودني في متاهات أدخل فيها، تواضعي تعلمته من هذه القصة التي سأتحدث بها أمامكم لأنكم طلبتم مني أن أتحدث عن جوانب من حياتي لم تتضمنها السيرة الذاتية التي منها أخذتم ما أضفتم إليّ من صفات، وما أطلقتم عليَّ من نعوتٍ ما أزال أقول إنني لا أستحقها.
عندما كنت صغيراً في سن تسع سنوات حفظت القرآن الكريم عن ظهر قلب، فيما يُسمى عندنا في المغرب بالـ "مسيد" وكلمة "المسيد" هي تعني تحريف المسجد، والجيم كثيراً ما يُحرّفُ إلى الياء في اللغات كلها، ليس فقط في اللغة العربية نحن نقول لعدد من الكلمات حتى أنه أستاذنا المرحوم محمد الفاسي كان يقول إن كلمة "كوليج" في اللغة الفرنسية أتت من كلمة الكلية، وله الحق في ذلك فالجيم ينقلب ياء، كنت أقرأ القرآن ولكن لم أكن أفهمه، وثقوا بأني كنت في سن عشر سنوات أدخلني والدي إلى مسيد ليلة القدر وطلب مني أن آخذ دوري لأشفع في الناس أي لأقرأ القرآن وورائي يصلي الناس وأنا صغير السن، ولكنني بعد أن أخذت أقرأ ودخلت المدرسة التي أخذت أقرأ فيها وأفهم اللغة العربية، كان والدي إذا خرج إلى الشارع انهال الناس عليه طالبين منه دعاء البركة، من الشريف محمد أبوطالب، ونحن منحدرون من الأدارسة الذين أولهم هو الإمام إدريس مؤسس الدولة الإدريسية في فاس والذي جاء فاراً من وقعة "فخ" على بعد ثلاثة أميال من مكة المكرمة، فنحن عرب أنا عربي منكم وإليكم مواطن سعودي لأن جدي جاء من فخ، كان الوالد عندما يطلب الناس منه دعاء البركة يقول: اللهم ثبت النسب، لا أفهم هذه الكلمة إلا إذا كنت حاذقاً في اللغة العربية، ولكن عندما أخذت أحذقها سألته: ماذا يا أبتي تقول "اللهم ثبت النسب"؟ قال: يا ولدي الشريف عليه أن يتعلم التواضع.. ونحن نقول الشريف لما تسمونه أنتم هنا السادة، الشريف يجب أن يتعلم التواضع، اللهم ثبت النسب.. ندعو الله سبحانه وتعالى أن يكون نسبنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم موصولاً وممتداً لم ينقطع قط هذا النسب بفعل فاحشة أو فحشاء من فتاة أو امرأة لم تلتزم بواجباتها الزوجية ولم ترتكب الفحشاء، فاللهم ثبت النسب.. هذه الأولى. وعندما يستحضر الشريف هذه القضية يتواضع لأنه لا يقول أنا ابن الرسول.. ويفتخر بها؛ لأن الله نهى عن الجاهلية وتفاخرها بالآباء والأجداد كما تعلمون.
والناحية الثانية التي يجب على الشريف أن يتواضع فيها هو ما حصل لنوح مع ولده، فعندما أراد ودعا الله أن يأخذ معه ولده في السفينة قال له الله سبحانه وتعالى: إنه ليس من أهلك (هود, الآية: 46) إنه عَمَلٌ أو عَمِلَ -في قراءتين- عَمِلَ غير صالح، أو عملٌ غير صالح، قال لي: نريد أن نكون على هذه السنة نسير، تعلم يا ولدي التواضع لا يترك الشرف ولا يترك العلم ولا تترك الحكم إذا توليت الحكمَ ولا تكون دائماً إلا في صف المتواضعين المخلصين عملهم لله لا ينتظرون لا جزاءً ولا شكوراً.
تربيتُ في بيئة دينية ملتزمة بقواعد الشرع، كنا نصلي في البيت أوقات الصلوات الخمس يؤم بنا والدنا وكنا نصلي في المدرسة، وكنا نقوم والحمد لله بشعائر الدين التي تربينا عليها حتى أصبحت لنا أنها عقيدة طبيعة ثانية، لا يمكن أن نتخلى عنها، في هذا البيت كان لجدي من أمي تأثير عليَّ في توجهي الديني وفي سلامة العقيدة، أذكر كان عمري ثلاث عشرة سنة عندما حضرته الوفاة، وكان رجلاً متديناً يخرج دائما إلى الصلوات الخمس في المسجد، وبقي حتى وصل إلى سن تسعين سنة، وكان دائماً فيه قدرة ذاتية وسلامة وعافية وصحة، وعندما حضرته الوفاة في اليوم الذي توفي فيه نادى على والدتي وقل لأولادي جميعاً أن يحضروا واستدعي عبد الهادي كان سني اثنا عشرة سنة وليأتي فإنني ملاق ربي اليوم، ودخلنا عنده، قال لأمي اسنديني بالوسادتين وقال إني ملاق ربي سألقاه هذا اليوم، ولي هناك في الدار الآخرة ما أكثر أحبابي أما أحبابي هنا فهم أنتم ليس إلا، وإياكم أن تبكوا أو تقيموا الجنازة عليّ فأنا ذاهب إلى ما هو أفضل وأبقى وأدوم وأزكى، وأخذ يعدد الصحابة والتابعين والأولياء الصالحين وغيرهم، ثم قال في القرآن الكريم اقرؤوا يس لما قُرِأَ له، فاقرءوا عليَّ سورة يس لألقى الله في هذه الساعة عند تلاوتها، وقال لي يا أولادي أنت تحفظ القرآن لا تقرأ من المصحف دع الآخرين يقرؤوا المصحف، ثم أخذ يقرأ معنا ونحن نقرأ ووصل إلى هذه الآية الكريمة إِنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فيكون. فسُبحانَ الذي بِيدهِ مَلَكوتُ كُلِّ شَيءٍ وإليهِ تُرجَعُونَ (يس, الآية: 82 - 83) فرفع سبابته وقال: فيكون ووضع رأسه وهو ينظر للسماء، هكذا إذاً في هذا الجو العطر الدافق بالتربية الدينية.. بالتقوى.. بالصلاح تربينا هنا في بيتنا.
لذلك أعتقد أن هذه التربية لازمتني وأنها هي التي كانت السبب في أن أتفتح الكثير، وفي أن أقرأ الكثير عن الدين الإسلامي في ينابيعه الأصلية، وفي كتبه التي كنا نسميها في القرويين الخطوط الصفراء، التي كانت تطبع على ورق أصفر، ونسميها الكتب الصفراء لم نأخذ هذه العلوم عن معلمين كما يعلمون اليوم اللغة العربية والدين، كنا نأخذها عن أناس نذروا أنفسهم وحياتهم لله أن يتفقهوا في الدين، ويحضرني هنا الدعوة الصالحة التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذ قال له: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، أتوقف عند قوله اللهم فقهه في الدين اللهم اجعله فقيهاً في الدين، لماذا زاد وعلمه التأويل؟ لا يمكن للفقيه أن يقتصر على فهم الدين ويقف، بل عليه أن يستنبط من الدين ويؤولَ ويجتهد ولا يتوقف عن فهم الدين واستخراج أحكام جديدة، هذا هو دور الفقيه الذي يعلمه الله في آن واحد الفقه ويجزيه من ذلك ومن تعليمه التأويل أي تأويل القرآن وتحويله إلى الأحكام الشرعية.
أعود لأقول بأنني دخلت معترك السياسة من باب النضال، دخلته وأنا لا أطمع في أن أكون لا وزيراً في حكومة الاستقلال الذي لم يكن يخطر ببالنا أننا سنعيش عصرها، لقد كنا ربينا في الخلايا الوطنية التي كانت تسمى الخلايا السرية ونحن صغار على أننا جيل الجسر.. جيل القنطرة، الذي يمر بالتضحيات وبالشدائد والصعوبات ثم لا يجني ثمار عمله، كيف يجنيها الجيل الذي يأتي بعدنا، ثقوا أننا لم نكن نعتقد أننا سندفع للاستقلال أو أننا سنعيش هذا العصر المخضرم بين عهد الكفاح الوطني لتحقيق الاستقلال وبين أن نعيش الاستقلال حقيقة واقعة على حياة المغاربة بالذات.
دخلت كذلك في الحكومة بروح النضال، أبداً لم أشعر مرة واحدة بأنني أصبحت متحولاً إلى موظف همه أن يتقاضى أجرته الشهرية في آخر الشهر، أو أن يكتسب من المنافع ما يستفيد منه بعد أن يخرج من الحُكم، كل هذا لم يكن يخطر ببالي، لقد اشتغلت على رأس اثنتي عشرة وزارة، لم آخذ فيها العطلة إلا ثلاث مرات كل سبع سنوات شهرين، ولم آخذ العطلة في الصيف ولا في الأعياد، كنت أشتغل وما أزال أشتغل، ثقوا وأنا الآن وقد وصلت الثمانين أنني أشتغل عشر ساعات في اليوم، أشتغلها ولا أكف عن ذلك، أقول لأولادي أبوكم حيوان كاسب، فيسألون الإنسان حيوان ضاحك، حيوان عاقل، الإنسان حيوان مفكر، جان جاك روسو كان يقول أحد الفلاسفة الفرنسيين "قصبة مفكرة" الإنسان قصبة مفكرة، فلنقل أيضاً عن الإنسان حيوان كاسب، ظللت أكتب منذ تقريباً ستة أشهر حتى انطفأ هذا الإبهام في أسبوعين وسبب لي ورماً كبيراً فذهبت عند الطبيب فقال لي: أتكتب؟ قلت: نعم، قال: هذا مرض تُصابُ به الأصابع عند من يحرصون على الكتابة ويواصلون الكتابة بالليل والنهار، ولعلني بذلك تأثرتُ بابن الخطيب الذي ألَّفتُ عنه أول كتاب لي وأنا في عمر لا يتجاوز الست والعشرين سنة، عكفتُ على تأليف هذا الكتاب في الخزانة الوطنية بالقاهرة، عندما اخترت الغربة والمنفى في القاهرة أيام تطورت الأمور بيننا وبين فرنسا إلى جهادٍ وكفاحٍ مرير، فاخترت أن أخرج إلى الخارج، ولكن هناك عدت إلى طينتي الأصلية وهي الكتابة والتفكير والعمل والبحث وكتبت هذا الكتاب.
هذا الكتاب يتحدث عن أساس هذا الرجل.. الرجل الذي يُسمى "ذا العُمَرين" يعيش الليل والنهار و "ذا الوزارتين" وزارة القلم ووزارة الحكم، وكان يسمى أيضاً تسميات تدل على أن الرجل موسوعة، ترك هذا الرجل ما يقرب من ثمانين كتاباً من كتبه، لكنه خُتِم بخاتمة سيئة إذ أنه تجنى عليه بلاط بني الأحمر في غرناطة آخر ملوك بني الأحمر كان هو أبو عبد الله وتجنى عليه بنو مرين في المغرب في فاس تجنوا عليه وقُتل وزُج به في السجن وقُتِل خنقاً ومات وهو يردد أبيات الشعر:
فقل للعباد عبد الخطيب وماس
ومـن ذا الـذي لا يمـوت
فمن كـان يفرح يومـاً لـه
فيفـرح لـه مـن لا يمـوت
 
إلى آخر الأبيات الشعرية التي أختتمها بهذه الكلمات.
بعض الناس أقول هذا عندما وقعت بيني وبين جلالة الملك الحسن الثاني جفوة سياسية في آخر ما اشتغلت معه حيث تقدمتُ له ببعض النصائح وكان - رحمه الله وأثابه - يقبل مني جميع النصائح، ولا ينصت لأحد من المستشارين أكثر مما ينصت إلي، لكنه كان في مرضه الذي كان يعاني منه ومات منه فأصبح لا يستطيع أن يرد عليه أحد كلمة ولا أن يقول له نصيحة، كان متأثراً كان المرض في جسمه لا يساعده على ما كان فيه من تألق وترفع وتواضع ليسمع من الصغير ماذا يقدر أن يصل إليه بنفسه.
أود هنا أن أتحدث عن هذا الموضوع الآن خرجتُ باختيار مني لأنني قلتُ له أنني لم أعد أؤدي دوري كمستشار بجانبك لأنك من قبل كنت تستمع إلي وكنت أعطيك بعض النصائح، وأتقدم ببعض التنزيلات، فكان يقبلها لسبب واحد لأنني كنتُ دون المستشارين أستاذه الوحيد، الآخرون لم يكونوا أساتذة له ولم يكن بينه وبينهم وشائج كالتي كانت بيني وبينه، كان يقبل مني سألني في كتاب نصف قرن من السياسة هذا الصحفي الذي سجَّلَ مدة شهر حواري معه فقال لي: الناس يقولون عنك إن حياة ابن الخطيب أسقطتها على حياتك في كتابك "وزير غرناطة" لأني كنت أدافع عن وزير غرناطة في هذا الكتاب، الذي أريد أن أقول لم ينصفوا الملوك الذين عاملوه هذه المعاملة البئيسة التي أودت بحياته، فقال لي هذا الأستاذ الصحفي: يقول الناس عنك أنك أسقطت حياتك، وأنا كنت أقول هذا وأنا دون الأربع وعشرين سنة ولم أدخل الحكومة إلا بعد أن أصبح عمري واحدا وثلاثين عاما وكنت فيها أصغر وزير، كما كنت في المدرسة أصغر تلميذ وكما كنتُ في المكتب السياسي، أصغر عضو وكما كنتُ في الأكاديمية أصغر عضو إلى غير ذلك دائماً كنت.. والحمد لله إنني باقٍ والذين أتحدث عنهم كلهم لقوا ربهم وصدق عليهم وعليَّ ما جاء في القرآن الكريم: فَمِنْهُمْ مَّنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً (الأحزاب, الآية: 23)، سألني قال لي: يقولوا إنك أسقطت حياتك على حياة ابن الخطيب فماذا تقول في ذلك؟ أجبتُ بهذه الإجابة، قلتُ له: أصدقك القول أنني لم أعد إلى قراءة هذا الكتاب رغم أنه طُبِعَ خمس طبعات واليوم سوف تكون الطبعة السابعة، طُبِع خمس طبعات في القاهرة والمغرب، لكن الغريب هو أن السؤال الذي تطرحه عليَّ سبق أن طُرِحَ عليَّ من عدد من الأصدقاء الذين قرؤوا "وزير غرناطة" اسم الكتاب وكانوا يعتقدون أني كتبته بعد أن مارست الحُكم وخرجتُ منه، وأنني كنتُ أتحدث فيه عن نفسي، والحقيقة أقول لم تكن لدي سنة 1950م أية توقعات بأنه سيصبح لي شأن في بلدي، ولم يخطر في بالي أن بلدي ستستقل وأني سأصبح وزيراً في حكومتها الأولى، وأني أتسلق درجات الحُكم بالوتيرة التي سرتُ عليها، إذاً لم يكن لي أي تصميم ولا أية إرادة لأن أكتب عن عبد الهادي بوطالب باسم مستعار ابن الخطيب، ثم قال السائل: لقد كانت نهاية ابن الخطيب مأساوية، فالرجل قتله الرعاع خنقاً وأُحرقت جثته بعد أن غضبت عليه الدولة المرينية وبعد أن قطع شعرة معاوية مع دولة بني الأحمر في الأندلس، في حين خرجتم أنتم من الحكم سليماً نظيفاً معافى، فكان جوابي: الحمد لله على ذلك.. لأن الحكم في بلادي ليس من نوع حكم بني مرين في فاس، ولا من حكم بني الأحمر في غرناطة ولا تصح المقارنة في ذلك، أنا عاشرت ثلاثة ملوك ولم تكن بيني وبين أي واحد منهم العلاقة المأساوية التي مر بها ابن الخطيب، وحتى بالنسبة لعلاقتي مع الملك الحسن الثاني لم تمتد جفوتها بطبيعة سوء تفاهم مر سريعاً وطواه الملك الحسن الثاني نفسه صفحته واستقبلني وعرض عليّ أن أعود إلى وظيفتي كمستشار واعتذرت له، وهو ما فعلته مع الملك محمد السادس الذي ما أن تلقى البيعة إلا ودعاني لأن أعود إلى منصبي كمستشار واعتذرت له كذلك، وكرر عليَّ الدعوة سنة من بعد واعتذرت له للمرة الثالثة؛ لأنني انتقلت إلى حياة أخرى، كم أنا سعيد بها أن أنتقل إلى سيرتي الأولى عالم الثقافة والفكر والعلم وليكون ما ابتدأته في حياتي وما ختمتُ به يكون خاتمة البداية وما جرى بين هلالين.. أشكركم شكراً جزيلاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الشيخ عبد المقصود خوجه: حديثكم عن الإسلام هو دين حداثة يتكلم وهو المغربي وقد قرأت للمشرقي الكبير أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد الذي شَرُفت الاثنينية بتكريمه في يوم من الأيام على حلقتين نشرتا في جريدة "الشرق الأوسط" عن نفس الموضوع.. وفي نفس الإطار، متكلماً عن الإرهاب.. وبُعد الإسلام عنه، الحث على الفضيلة والخلق.. البُعد عن العنف، الإسلام اللاعنف، الإسلام دين خلق.. دين كرامة.. دين تعاضد وتآزر، ودلف بعد هذا المدخل إلى فسحة كبيرة وهو يكتب عن الإسلام كدين أنه دين حداثة، وقد أبحر كثيراً على حلقتين، وأستاذنا اليوم يتحدث وأنا أعود لتلك الكلمات، توارد الأفكار.. توارد عظماء المفكرين، فهذا ضيف كريم.. عظيم.. متألق الفكر من المغرب.. وآخر من المشرق.
 
الدكتور عبد الهادي بوطالب: وهما صديقان حميمان..
 
الشيخ عبد المقصود خوجه: وهما صديقان حميمان.. يسعدني أن أسمع ذلك، رأيت أن أتكلم أو أتحدث إليكم بهذه المداخلة.. شكراً لكم.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :574  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 197
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.