((كلمة سعادة الدكتور عبد الله باسلامة ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
أيها السادة.. |
أيها الأخوة الكرام.. |
إنني في حيرة من أين أبدأ؟ وكيف أوجه الشكر والتقدير والامتنان، لقد أمطرت عليّ في هذه الليلة وابلٌ كبيرٌ من الطيب والورد والزهر والكلمات التي أرجو الله أن أكون جديراً ببعض منها، ليس في جعبتي ما أقدم لمن تفضلوا من الأخوة، وفي مقدمتهم الأستاذ الشيخ عبد المقصود من ترحيب وثناء عاطر، إلا أن أتوجه إلى الله أن أُجزيهم عما تفضلوا به وذكروا لي به في أشياء كثيرة أرجو فعلاً أن أكون محلها، أدعو الله لهم أن يجزيهم بالخير. |
والآن اسمحوا لي بأن أحدثكم الليلة عن بعض الشموع أو المصابيح التي أضاءت طريقي في مشوار الحياة، لا أريد أن أحدثكم عن نفسي وإنما عن هؤلاء المصابيح والشموع لعل في ذكراهم نترحم عليهم، ندعو لهم.. نذكرهم بما هم أهل، لعل فيه الاعتراف بفضلهم والدعاء لهم، ولأبدأ بوالدي حسين باسلامة، لقد ترك لنا إنتاجاً فكرياً وعملاً إنسانياً ولكنه لم يترك أي رصيد مادي كبير، في رأيي أنا.. أن هذا الرصيد الفكري سوف يضيء كما أضاء لي ولابني ولأحفادي إلى سنين طويلة. في سنة من السنوات أحدى الأخوات عندما اشتدت الحاجة كانت تقول: يا ليت أبوك طلب من الملك عندما كان طلب أن يسمحوا له قطعة أرض بدلاً أن يطبع كتاب، لكن تراجعت فيما بعد، قالت: لا والله أظن الكتاب له وزن كبير. |
ترك والدي بضعة كتب عندما توفى في مكتبة "فِدا"، مكتبة الثقافة بباب زيادة، وكتب في "المقعد"، وابتدأت الأسرة تبيع بعض الكتب ونذهب إلى باب زيادة نستلم بعض قيمة الكتب، ثم يبدءوا ببيع العُصي والمسابح، إلى أن انتهت الموارد وأصبحت الحالة شبه صعبة، فهنا ظهرت الشمعة الأخرى وهو جدي أبو والدتي -الله يرحمه- عباس، كان كفيف البصر ولكن ببصيرته يرعانا.. فعلاً، كان يرعانا ويسعدنا وعندما شعر بهذه الحاجة تذكر أيضاً المصباح الكبير الثالث وهو الملك عبد العزيز فأخذ الطفل وأخته إلى زيارة الملك عبد العزيز وقال له: هؤلاء أولاد حسين باسلامة، لا يوجد رواتب ولا تقاعد ولا شيء، وباعوا ما عندهم، فيقال: أن الملك قال: لا يمكن ألا يصرف له تقاعد، وأجرى علينا الملك عبد العزيز دخلاً مادياً أعاننا على مواصلة الحياة. |
الشمعة الأخرى إنسان يسمى مصطفى أدهم، هذا الرجل عنوان النخوة والإيمان، تعلمت منه درساً أتمنى أن تتاح لي الفرص أن أطبق ما تعلمته منه، دخل طفل إلى مكتب في وزارة المالية وكان في المكتب هذا عدد من الموظفين، أحد الموظفين هذا الشاب الأنيق المؤدب المكي رأى هذا الطفل يقف في وسط الغرفة لا يعرف أين يذهب وفي يده ورقة فقام من مكتبه وقال له: ماذا تريد؟ وأجلسه على كرسي وغاب حوالي ساعة ثم قال له: ترى المعاملة تأخذ وقت طويل اذهب إلى المنزل وأنا سوف أنهي المعاملة وأحضرها، وبعد أيام جاء وقال كانت المعاملة بخصوص التقاعد، وكان التقاعد مائة ريال، وبذل هو مجهود وأوصلها إلى مائة وخمسين ريالاً، سلّمنا المعاملة واختفى، ولكنه ترك عندنا أثراً نُرحِّم عليه من خلال السنوات الخمسين الماضية وما بعدها، إنه إنسان يستحق الرحمة. |
الشخصية الأخرى كلكم تعرفوها هو الشيخ محمد حسين زيدان، أو الشمعة الأخرى المضيئة، لقد أسعد الوالد وأسعدنا عندما خالف الجميع وكتب قال: نعم يمكن أن تربي امرأة ثور ويحرث، والقصة أن الشيخ محمد حسين زيدان كان جارنا في مكة ونحن أطفال مع أولاده وكان وصل إلى مسمعه من العوائل أن النسوة تقول للوالدة لا تتعبي نفسك لا توجد امرأة تربي ثور ويحرث، ويظهر أن الشيخ السيد محمد حسين زيدان -الله يرحمه- احتفظ بهذا الخبر عنده إلى أن أنهيت أنا تعليمي وعدت وبدأت حياتي العملية فكتب في إحدى الجرائد السعودية أنه ممكن "ثور يحرث".. عندما قرأناها الوالدة شعرت بسعادة كبيرة من هذا. |
شمعة أخرى وهو العم عبد الله غزاوي، هذا عرف كيف يدخل الفرحة على قلب يتيم، كان موظفاً في وزارة المعارف التي كانت تقع بجوار مدرسة "تحضير البعثات" في (القشاشية)، فكان يمت بصلة قريبة وعرف أني يتيم فقال لي: أنت لم تأخذ مكافأتك التي تخص اليتامى؟ قلت له: لا.. وبعد فترة أحضر لي مبلغاً من المال.. جنيهات ذهب. قال: هذا هو الرصيد المفروض أنك تستحقه، اشتريت بها دراجة واستعنت بها في مصاريفي في السنوات الأولى في القاهرة في الدراسة الطبية. |
شموع أخرى كثيرة، لكن أقف عند ثلاثة منهم وهم الرواد في المهن الأساسية في المملكة، هم الدكتور حامد هرساني، المهندس محمود مرداد، الأستاذ المرحوم محمد بادكوك. تعلمت منهم أنه عندما يستشار الإنسان يجب أن يفي بما طُلب منه وأن يقدم المشورة الصادقة، كنت في السنوات النهائية في الثانوية وكنت أريد أن أتخصص ولم يكن لا في الأسرة ولا حوالينا من يمكن أن تسأله كيف الجامعة وما هي الجامعة؟ وماذا تدرس؟ وأين تذهب؟ ولكن علمت أن هؤلاء الثلاثة كانوا واصلين وكانوا من الرواد، وكنت قرأت في كتاب "ديل كارنيجي" ربما بعضكم اطلع عليه أنه إذا أردت أن تحدد مستقبلكم فعليك أن تتصل برواد وهذا من نوع الأسئلة أطرحها عليهم عدد سنوات الدراسة.. صعوبة الدراسة.. مستقبل الدراسة.. نوع الدراسة.. فقد كتبت في هؤلاء الثلاثة بعضهم رد وبعضهم لم يرد، والدكتور حامد هرساني كان في رده الشفاء أو كان رده شافي ساعدني من ضمن ما ساعدني على الالتحاق بكلية الطب. |
من الشموع الأخرى جوزيف السائق اللبناني، هذا سائق في لبنان علّمنا البروتوكول وكيفية استعمال الشوكة والسكينة وعلّمنا.. وأكسانا لباس الغربي في تلك الفترة، كان عبد الله كامل -الله يعطيه الصحة والعافية- علم أنه أنا وابنه حسين وكان صالح كامل نريد السفر إلى مصر للدراسة ولكن كان السفر إلى مصر يجب أن تمضي ثلاثة أيام في "الكرنتينا" وإلا تسافر عن طريق لبنان، فكان استأجر سيارة لأولاده وكنت أنا من ضمنهم وكان هذا الجوزيف الذي علّمنا فعلاً كيف نستعمل الشوكة والسكينة. |
شموع كثيرة ولكن أقف أيضاً عند أم علي، أم علي هذه سيدة نجدية كانت قد وصلت حوالي الخمسين من العمر، وكانت داية مشهورة ومتخصصة في العناية بالأُسر الكبيرة المرموقة، ولكنها كانت من الذكاء بحيث عرفت أنه عندما يحين الأوان يجب أن تقف الداية وتترك المجال للذي تعلم قليلاً في كليات الطب في هذا المجال، أكسبتني -رحمها الله- ثقة القوم هناك وفتحت لي طريق الشهرة في البيوت والأُسر الكبيرة، شخصية أو شمعة أخرى أضاءت لي الطريق وهو الدكتور مصطفى أمين، علّمني كيف يجب أن يتوقف الإنسان عندما يحين الأوان، وأن يتوقف وأن يكون لا يزال هناك نوع من البريق، كان قد بلغ السبعين من عمره عندما وصلت إلى الرياض كنت أشتغل أخصائي أمراض النساء والولادة في مستشفى الشميسي ولكن كان يصر على العمل، وكان يصر على إجراء العمليات ويقول: (لازم عبد الله بيه يساعدني) وكانت يده ترتعش ويقول لي: انظر أنت وجدت واحد أنا يمسك يدي، أنت غداً لن تجد أحد يمسك يدك حتى لا ينقطع الشريان، اسمع نصيحتي عندما تجد الأمور خلاص توقف، تعلمت منه فعلاً. |
هناك شموع أخرى منها الدكتور محمد عمر الزبير، الدكتور محمد عبده يماني، هذه مصابيح فعلاً سَلَّطَتْ ضوءها المعنوي والنفسي في جوانب متعددة جذبتني من الرياض، وأنا كنت الواقع في تلك الفترة في أوج شهرتي وعملي هناك، ولكن كان لديهم من إصرار وتصميم على بناء كلية طب في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقاموا باحضار العميد من الرياض بدون أن يأخذوا إذن من الدولة بفتح كلية طب. لم يؤخذ الإذن بإنشاء كلية طب إلا لاحقاً من الملك فيصل -يرحمه الله- كانت له مواقف كما ذكر الدكتور الزبير في المستشفى الجامعي منها: أذكر أنه عندما طُلب إنشاء كلية الطب لم تكن هناك مستشفيات في جدة لتعليم الطب غير مستشفى باب شريف، الذي هم كثير الذين لا يعرفونه، ومستشفى الولادة، وليس هناك مستشفى لتعليم الطب، ولحسن الحظ طبعاً وزارة المالية لم تذكر أن هناك كلية طب حتى تضع ميزانية لها وإنما خصصت ميزانية للجامعة بما يسمى بمركز طبي للجامعة، وحدة صحية للجامعة، عندما علمت بالخبر ذهبت للدكتور الزبير والدكتور محمد عبده يماني وقلت لهم: المالية أعطتكم مبلغ إنشاء وحدة صحية بعشرين سرير وعشرين سرير لا تكفي للخدمة، فلنجعلها مائة سرير، وكان الدكتور عبد الله نصيف ثالثهم فدبروا ووافقوا على أن يكون بدل عشرين سرير مائة سرير، وذهبت في تلك الليلة ولم أنم، وفي الصباح دخلت مرة أخرى على الدكتور محمد عبده وأظنه كان الدكتور الزبير عنده قلت لهم: انظروا.. من يستطيع أن يبني مائة سرير يستطيع أن يبني مائتي سرير، أذكر الدكتور محمد عبده يماني قال لي: (يا واد.. تبغاهم يحبسوني ويحبسوك) أقول لك: روح ورزقي ورزقك على الله، وأنشئ المستشفى القديم بسعة 250 سريراً خدم التعليم الطبي وخدم جدة 17 عام، إلى أن تم النقل إلى هذا المستشفى. |
من الشموع الصغيرة وأرى شموع صغيرة هنا أمامي هم أوائل طلاب كلية الطب هؤلاء مصابيح ستظل تضيء وأنا فخور بأبوتهم، عندما بدأ إنشاء كلية الطب كانت مجموعة من أبناء جدة ذهبوا إلى الرياض لدراسة الطب هناك لأنها لم تكن كلية، وعندما علموا بأن كلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز ستفتح عادوا وطلبوا أن تنشأ كلية طب لسنة أولى وثانية معاً، وصمموا وقالوا نحن على استعداد لأن نقوم بكل ما يمكن القيام به، حيث تنشأ كلية طب، وفعلاً منهم من ذهب إلى المطار وحمل الجثث إلى الفيلا، ومنهم من ذهب إلى النجار وعمل طاولات تشريح ومن تبرع بالفورمالين، والآن هم أساتذة في كلية الطب ومتخصصين منهم ربما منهم الذي.. عمل قسطرةالأخ عبد الله الجفري في المستشفيات التخصصية في جدة، أنا فخور بأبوتهم. |
من الأيام التي لا تُنسى ومر عليها الدكتور الزبير مراً سريعاً هو الكلمات الموثقة التي قالها الأمير فهد في ذلك الوقت الملك فهد -أطال الله في عمره- ومده بالصحة والعافية، أذكر يوم افتتاح المستشفى الجامعي والدكتور الزبير يذكر كان من ضمن الحضور الدكتور حسين الجزائري وزير الصحة، الدكتور الأستاذ هشام ناظر، ومعالي الشيخ محمد أبا الخير، وكنا نمر في المستشفى وكميرات التلفزيون تصور فأراد الجزائري يعني مناكفة وقال لسمو الأمير: يا سمو الأمير الدكتور عبد الله عمل مستشفى والجامعة عملت مستشفى بدون إذن من المالية أو من الصحة أو من التخطيط، فالتفت الأمير: وقال أنا يا عبد الله ضد وزير المالية، ووزير الصحة، ووزير التخطيط -أطال الله في عمره-. |
أخيراً وليس آخراً، الشيخ عبد المقصود خوجه هذا الإنسان الكريم، وهذا المصباح الكبير الذي أضاء الجزء قبل الأخير من حياتي، مصباح أضاء لكثيرين قبلي وسوف يضيء لكثيرين بعدي إلى ما شاء الله، وأنتم أيها السادة الكرام وجودكم اليوم في حفل تكريمي ستظل أنوار هذه الليلة تملأ حياتي ما بقيت، والآن اسمحوا لي أن أقول شيء في خاطري، عن والدتي.. عن أمي، هي الشخصية أو الشمعة التي كانت تضيء حياتي يوم لم يكن في مكة مولد كهرباء ولا كثير من الزاد، ولا كثير حتى من الماء.. ولا رواتب.. ولا معين غير الله، عملت ما في وسعها عملت الكثير، أرادت أن ترى الثور يحرث وأرجو أن يكون قد كان، كانت تغني منذ صغري وإلى أن وافاها الأجل منذ عام بالضبط وتقول: لا إله إلا الله ليس في قلبي إلا الله، هذه غنوتها كانت، لم تدخل كتاباً ولم تقرأ كتاباً ولا صحيفة ولا مجلة ولم تفك الخط، ولكنها كانت تقرأ يومياً ما بين ثلاثة وأربعة أجزاء من القرآن، -رحمها الله- انطفأت تلك الشمعة ولكن ظل ضياؤها في القلب نوراً وسلاماً. والسلام عليكم ورحمة الله. |
|