(( كلمة سعادة الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري ))
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... |
بسم الله الرحمن الرحيم كانت وكالة الأنباء السعودية، الجهازَ الحكوميَّ الأول الذي استقبلني للعمل به بعد تخرجي في الجامعة، ومع مطلع عام 1394هـ صدر قرار بتعييني مندوباً ومحرراً في مقرها الرئيسي بالرياض، ولم تمض سوى أيامٍ قلائلَ من مباشرتي للعمل في الوكالة، حتى تكونت بعثة من وزارة الإعلام، تتشكل من مندوبين من الإذاعة والتلفاز، ووكالة الأنباء السعودية، على أهبة الاستعداد للذهاب إلى منطقة حائل، لتغطية نشاطاتها، استجابة لطلب سمو أميرها، وصادف أن يوم رحيل البعثة إلى حائل، هو يوم رحيل والدة مندوب وكالة الأنباء السعودية إلى الدار الآخرة.. فما كان من المسؤولين في الوكالة إلاّ أن وقع اختيارهم على شخصي الضعيف، بدلاً من الزميل الذي كان مقرراً أن يمثّلها. |
توكلنا على الله وسافرنا إلى حائل، على طائرة من نوع داكوتا، لم يسعدني الحظّ بركوب مثلها قبل ذلك.. ولذلك فإني كنت أجهلُ التصرف الذي كان عليّ فعلُه في بعض المواقف أثناء تحليقها، فقد كانت الطائرة عندما تميل بأحد جناحيها، كان هنالك شعورٌ يراودني بأنها على وشك الوقوع على ذلك الجناح الذي مالت عليه، وأنّ بإمكاني المساعدة في منع ذلك، بما يشبه قفزي في الهواء، ثمّ أهوي بكل ثقلي على أرض الطائرة، أملاً في إيجاد نوع من التوازن، يحول دون سقوطها..! |
كما كنتُ أجهلُ التصرف السليم عند حدوث المطبات الهوائية، التي كلما جاء منها مطبٌّ، كادت |
الطائرة تهوي إلى الأرض، فيهوي معها القلب وسائرُ ملحقاته.. ثم لا تلبث الطائرة أن تعود إلى الوضع الطبيعي.. |
ويبدو أنّ جهلي بالأمور يومئذ، لا يعادله إلاّ ما كان من جاري الذي كلما هوت الطائرة أو مالت، صب على الطيار سوط الشتائم والسباب.. وإذا قلتُ له: إنه لا ذنب له.. قال: "وما ذنبنا يتعلم علينا سِواقة الطيارات؟!" |
وصلنا حائل بعد مرورنا على العديد من مدن الشمال، حيث ينزل ركاب ويصعد آخرون.. ومن الطريف أنّ المدينة التي ليس لها في الطائرة ركاب يقصدونها، يُشار للطائرة من الأرض بخرقة حمراء ذات اليمين وذات الشمال. والمعنى: أنه لا ركاب لكم عندنا، امضوا إلى سبيلكم! وعندما اقتربت الطائرة من الأرض لتنزل في حائل، أيقنتُ أنها النهاية وأنّ النزول إنما هو اضطراري.. ذلك أن هنالك بيوتاً متناثرةً هنا وهناك في الساحة هي التي يُطلق عليها المطار مجازاً.. وبين تلك البيوت أطفال يلعبون وأغنام ترعى الكلأ في المطار.. ولم يسبق قبلها أن رأيت طائرة غير الهليكوبتر، تهبط على أرض جرداء ترعى فيها الأغنام، ويلعب فيها الصبيان! |
كل شيء في حائل يومئذ، هو (زفتٌ في زفتٍ) اللَّهم إلاّ شيئين اثنين: أخلاق أهلها العالية، وشوارعها التي لم تر زفتا قط..! |
وبعد.. فيا أيها السادة: كلّ ما سبق، هو بمثابة الخضّ للزبدة التي أريد أن أقدمها لكم.. |
جاء هذا الرجل الماثلُ أمامكم، الذي نُكرِّم أنفسنا الليلة بتكريمه.. جاء إلى حائل التي ذكرتُ لكم نتفاً من حالها قبل نحو من ثلاثين عاماً.. جاء إليها رئيساً لبلديتها، فكانت هنالك ملاحمُ من العطاء والإخلاص والتفاني، كل ملحمة منها، أهلٌ لأن تُفرد بالتأليف وخاصة بعد أن أصبحت من ضمن حكايات وأسمار حائل وأَهْلِهَا الكرام..! |
وإنّ من تلكم الملاحم، ملحمة الحدائق والمتنزهات العامة التي يرى أنه لا بد من وجودها حتى ولو لم تكن لها اعتماداتٌ ومبالغ مرصودةٌ.. ولتحقيقه لذلك جاء بعمالة خاصة بالبلدية، ينظفون المدينة وينشئون بإشرافه الحدائق العامة، ويحفرون الآبار اللازمة لريّها.. ومن طريف ما يُحكى أنّ بَكَرَةَ أحدَ تلك الآبار سقطت يوماً داخله، وطلب أحد المختصين مبلغاً كبيراً لقاء إخراجها، فما كان من رئيس بلدية حائل، إلاّ أن تخفف من ثيابه، وربط نفسه بحبل، ثم طلب من العمال أن يُدلوه داخل البئر، فأخرج البكرة، ولسان حاله يقول: دخلت البئر وأنا إبراهيم البليهي: وخرجت منها وأنا إبراهيم البليهي.. |
ومن ملاحمه الخوالد التي سبق وسابق بها الزمن، حمايتُه للبيئة واستثماره للنفايات.. وذلك بتحويلها |
سماداً لمشاتِل البلدية وحدائقها، وما يفيض عن حاجتها، يوزعه على فقراء المزارعين.. وأما كيف اهتدى إلى ذلك وإلى غيره من أولياته التي لم يُسبق إليها ومنها: البحيرةُ التي أوجدها في الصحراء، يُمشى عليها بالقوارب وتُصاد فيها الأسماك.. فإنّ سيادته لخير من يُنْبِئْكم عن ذلك. |
وأما الملحمة الكبرى للشيخ إبراهيم التي أصبحت مضرب المثل، ليس في حائل وحدها بل وفي القصيم وفي سائر المدن التي تولى مسؤوليات بلدياتها فتتمثل في حمايته للأملاك العامة من العبث، ومن سطوة الذين يُعرفون الحلال بأنّه ما حلّ بيدك فهو الحلال.. وأنّ الحرام هو ما حُرمتَ منه! ومن القصص الرائعة عن ذلك، التي ينبغي أن تسجلها المناهج الدراسيةُ للناشئة لكي يجدوا مثالاً حياً يُحتذى عن الأمانة: ما تكرر منه في أكثر من منطقة.. وهو أنه ما إن يسمعْ أنّ هاموراً من الهوامير التي لا تشبع ولا يملأ أجوافها سوى التراب.. ولّى شطره لأرض من الأراضي المعدّة للمشاريع العامة، بغية وضع يده عليها وامتلاكه لها بأية وسيلة، إلاّ ويقوم الشيخ إبراهيم البليهي في جنح الليل ومعه كل العاملين في جهازه بزيارة ذلك الموقع (الذي زاغ في عين الهمور).. فما إن ينبلج الفجر ويشعشع بنوره، إلاّ وقد أصبح حديقةً عامة للناس أجمعين، سواء العاكف فيها والباد! |
إنّ من سوء حظّ هذه المدينة (جُدة) التي كانت يوماً على ساحل البحر أنّ الشيخ إبراهيم البليهي لم يكن هو (المؤتمن) على بلديتها يوم كان بها بحرٌ كنّا نقرأ في كتب التاريخ أنه كان يسمّى بـ (بحر القلزم).. ثم أصبح (أحمَرَ) وآل أمره بعد ذلك أن أصبح دُولَةً بين الأغنياء والمستثمرين، الذين ضاق البَرُّ بما رحب بالكثيرين منهم، بعد أن أتوا على كل صغيرة وكبيرة منه.. فما كان منهم إلاّ الزّحفُ إلى البحر ليطردوا غيرهم عنه! |
أتدرون أيها السادة، أن الرجل الذي تكرمونه الليلة، كان يسكن في حائل وهو رئيس بلديتها في منزل مستأجر، وأنه رفض كل المنح والهبات والأعطيات التي تشرئب لأمثالها أعناق أمثاله؟! |
وكونوا على ثقة من أنه لو كان اليوم يملك مسكناً خاصاً به في بريدة بالقصيم، فهو ذلك المنزل الذي ملكه أو آل إليه بالوراثة من قبل أن يتولى مسؤولياته الجسام التي تتيح له أن يملك ما يشاء من غير حسيب أو رقيب، إلاّ حسيباً ورقيباً كان دوماً نصب عينيه في كل ما يأتي وما يذر. أمّا أنت يا شيخ عبد المقصود خوجه، فلك الشكر على أنك رفعت عنّا إثم التقصير، بتكريمكم للشيخ إبراهيم البليهي، أصالة عن نفسك ونيابة عنّا أجمعين.. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
عريف الحفل: الكلمة الآن لسعادة الأستاذ أحمد السلطان رئيس بلدية بريدة. |
|
|