(( كلمة سعادة الأستاذ الدكتور حسن الوراكلي ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سعادة الأستاذ عبد المقصود خوجه، سعادة قنصل المملكة المغربية، حضرات الأخوان العلماء والأدباء الأفاضل. |
أستأذن -الحضور الكريم- في أن أحدثهم عن مطلع النجم قبل أن أحدثهم عن النجم الذي ضاءت به جنبات (الاثنينية) هذه الليلة.. |
المطلع في الأفق الغربي من قاصية بلاد المغارب.. |
منذ الأَزْمُنِ الأُوَّلِ توشح بشعاع (حراء) وتعطر بطيوب (طيبة).. |
بذاك، وليس بغير ذاك، نبه قدراً وشرف ذكراً.. |
هل تدرون أي أفق أعني..؟ |
إنه مراكش (الكتبية).. |
شمس ضحى توهج بها ظهرُها.. وطاب المساء! |
منارة إيمان وبر أمرعت بغيثهما الأرض اليباب.. وتضوعت البطاح! |
من رباطاتها انطلقت أفراس الإنجاد تخفق في الذرى أعلامها.. وتسكب في سمع الزمن أنشودة مضمخة بعبير (بدر) وشذى (القادسية).. اسمها (الزلاقة)! |
أولئك هم المرابطون.. |
للَّه ما وشّوا به أفق (الكتبية) السني.. ووشحوا! |
وعلى أرضها الطيبة التي تسبيك بوهجة اليقين تبرعم حلم فتية آمنوا بربهم، ثم طاروا بإيمانهم، كالنسور، في شاسعات الآفاق، لا يهيض لهم جناح، ينثرون ريّا نفحاته على الأرض، ليس من واد ولا سهل، ولا منعرج ولا كثيب فيما بين (درن) و (شُلَّير) وبين مراكش وإفريقية إلا وأخصب بريَّا حلم الفتية الوردي العبق..! |
أولئك هم الموحدون.. |
لله ما وشوا به أفق "الكتبية" السني، ووشحوا! |
في ظل هؤلاء وأولئك، وفي ظل دول أخرى، سعدية وعلوية، من بعدهم خلفت، لم يغمد لمراكش "الكتبية" سيف جهاد وإنجاد، ترهب به عدو الله وعدوها، وتذود عن بيضة الإسلام وتحمي الذمار. |
وفي ظل هؤلاء وأولئك، وفي ظل دول أخرى، سعدية وعلوية، من بعدهم خلفت، لم يجفَّ لمراكش "الكتبية" قلم عرفان واجتهاد، تطول العصور والنبع يتدفق (شفاء) و (أنوار فجر) و (روضا أنفاً)! |
يزداد فورانه على كثرة الواردين.. ولا يغور! |
ذلك مما أوحى إلي به مطلع النجم.. نجم (الاثنينية) ليلتكم الوضيئة هذه... |
فأي حديث أسوق لكم -أيها الحضور الكريم- عن النجم في إثر الحديث عن مطلعه..؟ |
من أعطاف ذلكم الأفق البهي، أفق مراكش "الكتبية" انبثق النجم وأطل.. |
فرمق -وهو بعد في ريعانه- بعين الدهشة والاستغراب مئذنة جامع (الكتبيين) تطاول الجوزاء، وأسوار المدينة التي طالت عليها العُصُر تحكي عن أمجادها لأصيلها والسحر، والأضرحة تشمخ بالكرام من ساكنيها أهل العلم المكين والمنهج السليم، وعرصات النخل والزمان ذوات الأفنان تسبح في الأرض لربِّها..! |
ثم لحظ -وهو في ريعانه- بعين الإجلال والإكرام ما يحتضنه أفقه الوسيع من تراث بديع جعل يتتبعه في يومه وأمس.. |
يتقراه، حيناً، بلمس.. |
وحيناً يتحراه بحدس! |
وما زال يجدُّ في طلب هذا التراث، يسائل عنه في حله وترحاله، ويفيد منه في إقامته وظعنه حتى استوعب من تاريخه وسِيَر أعلامه وآثارهم غير يسير، وتمثل منه غير قليل.. |
ثم شرع قلمه، سيراً على سنن العلماء السالفين من أبناء هذا الأفق أو الذين آووا إليه من إشبيلية وقرطبة ومن سبتة وفاس، ومن غير تلك وهذه من حواضر العلم في العدوتين، ليحدث عصرييه ومن يأتي من الخالفين لهم، عما رأى مما يمتع الطرف في غابر أفق مراكش "الكتبية" العلمي وما يحلم به مما يثلج الفؤاد في قابلها، تعلي صرحه على أساس من إرثها الحافل بالعطاء والإبداع في غير مجال من مجالات العلم والأدب، والحضارة والعمران. |
ثم جعل كلما فرغ من إنجاز عمل له عن تراث أفقه خاطب بني أفقه، دانيهم والقاصي، قائلاً: هاؤم اقرأوا كتابيه عن (الجامعة اليوسفية بمراكش في تسعمائة سنة) و (الزاوية البوعمرية بمراكش) و (الآثار الأدبية لمتصوفة مراكش) و (الدولة المرابطية: قضايا وظواهر أدبية) و (الدولة الموحدية: أثر العقيدة في الأدب) وهلم جراً.. |
|
وإذ يكتب حسن، نجم الاثنينية الثاقب هذه الليلة، تلك العناوين وغيرها مما يماثلها ويناظر: |
(هذا تراثنا.. هذه ملامحنا وقسماتنا، هذا ماضينا يصب نهره في حاضرنا). |
|
وإذ يرفع حسن، نجم (الاثنينية) ليلتكم هذه، القواعد من البيت الذي بات مركزاً للدراسات والأبحاث حول مراكش: |
(هذا ماضينا الوضيئ.. ماضي مراكش "الكتبية" يختلج بنور العلم والإيمان). |
|
ولقد كان حسن نجم (الاثنينية) الليلة -وهو ينجز هذا العمل وذاك- يدرك: |
أ_ أن خدمة التراث بإحياء نصوصه السوية ودرسها وفق منهج غير ذي عوج أمانة في أعناق الأسوياء من أبناء هذا الأفـق؛ بل أبناء الأمة كلهم، عليهم النهوض به وفاء لإرث غالٍ شكَّلَ ماضيها مكرساً قيم الحق والعدل، والخير والتكافل في حياتها. |
ب- أن خدمة اللغة العربية بإعداد حماة لها أكفياء تحت سقف صرحها المنيف، الذي يديره سنين عدداً، يعمق الوعي لدى ناشئة الأمة: بأن لغة الضاد من الدين الذي هو المكون الرئيسُ لهويتنا.. والجوهر. وبأنه ليس من لغة سواها، وافدة غازية كانت أو غير وافدة غازية، تجمع صفنا وتوحد شملنا. |
|
ذلك مما أوحى إلي به نجم (الاثنينية) الثاقب ليلتكم الوضيئة هذه... وأخيراً، وليس آخراً، أختم بلمعتين: |
أولى اللمعتين أن نجم ليلتنا الوضيئة هذه ثاني اثنين من رجالات العلم والأدب والفضل والكرم تحتفي بهما -في بحر هذا العام- (اثنينية) العلم والأدب والفضل والكرم.. |
|
أولاهما الدوحة الفينانة الطيبة التي أصلها ثابت: عباس الجراري.. |
وثانيتهما فرعهما المثمر الذي في السماء: حسن جلاب.. |
|
أما ثانية اللمعتين فمفادها أن المجاورين لبيت الله الحرام في بلده الأمين من أهل الأفق الغربي، من أندلسيين ومغاربة، كانوا إذا أهلَّ عليهم من أفقهم نجم علم وفضل اغتبطوا بطلوعه وابتهجوا بوفوده، وفسحوا له في منازلهم والمجالس.. |
وهاكم مثالين:
|
الأول أبو الحسن القلصادي الأندلسي (ت 891هـ) الذي سجل لنا في رحلته (تمهيد الطالب ومنتهى الراغب) احتفاء أخلائه من المجاورين به وإقبالهم عليه (في تلك الأماكن الشريفة والمواضع المنيفة، يثيرون لآلئ الفوائد ويسحبون أذيال المسائل الفرائد، ويردون من أعذب المصادر والموارد)... |
والثاني أبو سالم العياشي المغربي (ت 1090هـ) الذي نراه في رحلته (ماء الموائد) يلتقي ببلديّيه من المجاورين في رباط (الموفق) بمكة المكرمة فيفسحون له ويقبلون عليه، ويلتقي بآخرين في رباط (عثمان) بالمدينة النبوية فيجد لديهم من الرعاية والتحفي ما يقر به عيناً؛ بل إننا نراه يوسع خطوه فينتهي إلى الطائف حيث يلتقي بإخوان له طاب لهم المقام عند مسجد حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما (يرحبون به غاية، ويظهرون له ولصحبه من بشرهم النهاية، وكل منهم يطلب النزول عنده في داره، ويقسم على ذلك جهد يمينه، ويبذل في القرى المستطاع من ملك يمينه)..!. |
وبعد.. |
فهل أَزْمُنُ الجوار اللائي مضين رواجع..؟ |
هل يكون لنا -نحن أحفاد أولئك الكرام البررة من المجاورين- أن نصل حاضر الجوار بماضيه -صنيع نجم (الاثنينية) الثاقب حين وصل حاضر مطلعه، مراكش "الكتبية"، بماضيها العريق الباهر- فنحيي سنتهم في التحفي بالطالعين علينا من الأفق الغربي من حملة العلم ورواته، نكرم الوفادة ونسقي الرفادة..؟ |
تا الله إنا لنرى ذلك من آكد واجباتنا.. ونحرص، المستطاع، على الوفاء به.. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
عريف الحفل: أيها السادة، للشعر في هذه الليلة مساحة وأبى شاعرنا الكبير شاعر مكة الأستاذ علي أبو العلا إلا أن يطرز هذه الليلة ويزركشها ويلوّنها إذا جاز لي التعبير، بقصيدة في فارس اثنينية هذا الأسبوع، وقد أكرمني بقراءتها نيابة عنه يقول: |
|
|