(( كلمة الأستاذ وديع فلسطين حبشي ))
|
شكراً على كل هذا الكلام الطيب الذي لا أظن أنني أستحق شيئاً منه، حاولت أن أستخلص صورتي الشخصية من كل هذا الكلام فعجزت عن ذلك، لأنكم الحقيقة بالغتم في تقديري وبالغتم في وصفي مما يعييني أن أشكر أفضالكم علي. |
السلام عليكم أيها الحفل الكريم، ما زلت متهيباً من مواجهة هذا الحشد الحاشد الذي لبى دعوة الأريحي النبيل الشيخ عبد المقصود خوجه، في الاثنينية البالغة الفضل للاجتماع بي ومواجهتي، ربما بامتحان عسير، ولهذا ترددت كثيراً في قبول ما عرضه علي الشيخ الجليل عبد المقصود خوجه، من اعتزامه تكريمي في ندوته الأسبوعية التي دخلت تاريخ الأدب والفكر من أوسع أبوابه، ورجوته أن يعتبر زيارتي مجرد سانحة للتعارف أقضيها في صحبته الجميلة وأشرف فيها بلقاء رواد ندوته من فضلاء أهل العلم والفكر والثقافة في هذه الأرض الطاهرة. |
وليس من قبيل التواضع الكاذب تهربي من أيّ حفاوة، فواقع الأمر أنني عشت كل حياتي كالتلميذ الذي لا يغادر فصول الدرس، صحيح أنني عاقرت القلم على مدى ستين عاماً، إلا أن واقع الحياة الغليظ ألزمني حدودي التي لا أجاوزها، حتى جفوت المجتمعات على مدى السنوات العشرين الأخيرة، وإن كنت لم أتخلّ عن قلمي مسهماً به في خدمة الأدب وإنصاف الأعلام الذين نعمت بموداتهم، والأهم من ذلك أنهم محضوني أستاذيتهم الآمرة دون منّ. |
وليست هذه هي زيارتي الأولى للمملكة العربية السعودية، فقد زرتها عدة مرات، وإن كانت وجهتي الدائمة هي المنطقة الشرقية، ذلك أنني عندما أوصدت في وجهي أبواب الصحافة العملية، لبيت دعوة شركة "أرامكو" للعمل في مكتبها في القاهرة، وبهذه الصفة ترددت على الظهران وما يتاخمها من مناطق، وكنتُ في كل زيارة أنبهر باستبحار العمران وبالتوسع في جميع ألوان الأنشطة، فقد تحولت الصحراء إلى مروج خضر، وانتشرت المتاجر التي تحاكي المتاجر الأوروبية والأمريكية، وتفوقت الصناعات المحلية على مثيلاتها في الخارج. |
وكنت بحكم عملي في "أرامكو" مسؤولاً عن إتحاف مجلة "قافلة الزيت" بثمرات أقلام الكُتّاب، وأسعدني أن أستكتب في المجلة أعلام الفكر في تلك الفترة، كعباس محمود العقاد، وعزيز أباظة، ومحمود تيمور، ومحمد مندور، ومنصور فهمي، ومحمد صبري السوربوني، وعلي أدهم، ومحمد عبد الغني حسن، وفؤاد صرّوف، والأمير مصطفى الشهابي، وزكي المحاسني، ووداد سكاكيني وعشرات غيرهم. |
وقد أكرمني ربي فعرفت عدداً غير قليل من الأعلام السعوديين، أذكر منهم: حمد الجاسر، وعبد القدوس الأنصاري، وعبد العزيز الرفاعي، ومحمد حسن عواد، وطاهر زمخشري، وأحمد عبد الغفور عطار، ومحمد بن علي السنوسي، وحافظ وهبه (وإن يكن مصري الأصل)، وفؤاد شاكر، وأمين مدني، وعبد السلام هاشم حافظ، وشكيب الأموي (وإن يكن فلسطيني الأصل)، وهاشم فلالي، ومحمد سعيد العامودي -رحمهم الله جميعاً-، كما عرفت عبد الله بلخير، وعبد الله عبد الجبار، وأحمد المانع، وعبد العزيز الربيعي، وأحمد الضبيب، وحسن عبد الله القرشي –أطال الله بقاءهم–، فلست إذاً غريباً عن هذا البلد الأمين الذي فتح ذراعيه لكثيرين من المضطهدين في بلادهم فأنزلهم منزلة المواطنين الشرفاء. |
وأعرف أن حظوظي المتواضعة من الشهرة أو الحيثية الأدبية تجعلني مجهولاً من كثيرين منكم، فاعذروني إن اجتهدت في التعريف بنفسي، وهو بحمد الله تعريف موجز، لأن حياتي كلها خلت من جلائل الأعمال أو كُبريات الإنجازات، فقد اخترت الصحافة ميداناً لعملي، فتخصصت فيها طالباً جامعياً، وعملت بها سنوات غير قليلة، كما قمت بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ونشرت ثلاثة كتب عن فنون الصحافة ووسائل الاتصال، ولكن الصحافة في أيامنا كانت مستقلة يملكها أفراد هم الذين يقررون سياستها ويديرون شؤونها، فلما آلت الصحافة إلى ملكية الدولة، صارت الدولة هي التي تقرر مصائر الصحفيين، فتقرب منهم من تشاء وتبعد منهم من لا ترتاح إليه، فألفيت نفسي وأنا دون الثلاثين من العمر صحفياً غير محترف، لا ينتسب إلى جريدة بعينها، وآثرت أن أهاجر بقلمي إلى الصحف والمجلات الصادرة في البلدان العربية. وإذا كانت السياسة كثيرة المزالق، فقد هجرت موضوعاتها في بادئ الأمر إلى الاقتصاد، فلما خضع الاقتصاد للتوجيهات، تركته إلى الأدب، فالأدب هو الأبقى وهو الآمن من متاعب المهنة. |
كنا في دار "المقتطف والمقطم" التي عملت فيها في باكورة حياتي الصحفية بعد ثلاث سنوات قضيتها في الأقسام الإدارية لجريدة "الأهرام"، كنا نقيم ندوة أسبوعية في الدار، كان يؤمها كثيرون من الكتّاب المصريين والعرب، مما هيّأ لي أن أسعد السوانح للتعرف بكثيرين من أعلام الأدب، وكنا نلقاهم في جو ودي ذابت فيه الرتب والألقاب الفخام، فمن الباشاوات الذين زارونا: الشاعر عزيز أباظة باشا، والدكتور منصور فهمي باشا، ومن البكوات: خليل مطران بك، ومحمود تيمور بك، والدكتور محمد صبري السوربوني بك، والشاعر الدكتور إبراهيم ناجي بك، واستقبلنا من أعلام العرب الأمير مصطفى الشهابي، ورئيس وزراء لبنان الأسبق سامي الصلح، والزعيم المغربي علال الفاسي، ورفائيل بطي، ونزار قباني، وعبد الله بلخير، وخليل السكاكيني، وقدري حافظ طوقان، وإبراهيم العريّض، وعبد الرازق محي الدين، والمؤرخ اليمني عبد الواسع الواسعي، والشيخ عبد القادر المغربي، ونازك الملائكة، والشاعر اللبناني إلياس خليل زخريا، ومحمد علي الحوماني، وغير هؤلاء كثيرون. (والحقيقة كل اسم من هذه الأسماء ربما احتاج إلى تعريف لأن الجيل الجديد قد لا يعرف أصحاب هذه الأسماء). فصرت من ريّق العمر أؤمن بالعروبة الخالصة التي تستند إلى اللغة والثقافة والأدب والفكر، وأرفض دعوة القومية العربية التي جعلت العروبة مذهباً سياسياً لا تُجمع عليه أمة العرب. |
أحببت الشعر منذ عهد الدراسة، لأن أستاذ الأدب العربي كان يختار لنا نماذج جميلة ينشدها أمامنا، وحفظت كثيراً من الشعر، ولهذا رحّبت بدعوة "الأهرام"، لإعداد كتاب يضم مختارات شعرية منتقاة من الوطن العربي، فانتقيت نماذج تمثل زبدة ما جادت به قرائح الشعراء وحرصت على أن تتفق هذه المختارات مع الشعر الأصيل الموزون المقفى، رافضاً كل ما عداه من مسميات شعرية فشت في يومنا الحاضر وأفسدت ديوان العرب، بل أفسدت الذوق العام الذي لم يعد يستطيب الشعر الخليلي ويصدف عنه. ولا غرو بعد ذلك أن يتضاءل حظ الكتاب في أسواق التوزيع، لأن الجمهور انصرف تماماً عن الشعر بل عن الأدب، وإن أقبل نوعاً ما على الأدب الروائي حتى تعالت الأصوات القائلة بأن الرواية لا الشعر هي ديوان العرب، ولئن تخطّتني جميع التشكيلات الأدبية في مجتمعي –فلست عضواً في أيّ لجنة أو أيّ هيئة- فقد التمستُ الخروج من هذه الدائرة الضيقة بتوسيع نطاق اتصالاتي بأدباء الأمة العربية والمهاجر، تشهد على ذلك سلسلةُ المقالات التي نشرتها بعنوان "حديث مستطرد" سجلت فيها ما كان بيني وبين هؤلاء الأعلام، وكأنني ترجمت لنفسي من خلال أعلام العصر –ولست منهم– ولئن صادفت هذه الفصول ترحيباً من عدد غير قليل من القراء، فقد تجهم لها القابضون على أسباب النشر ممّا حدا بي على الكف عن كتابتها. وحسبي جزاءً أنني أنصفت جيلاً كاملاً من أعلام العصر، وأبرزت صور كثيرين كادت تطمسها الأيام. |
|
ومن قبيل التحدث بنعمة الله أن مجمع اللغة العربية بدمشق ومجمع اللغة العربية الأردني اختاراني عضواً منتسباً إليهما دون أي مسعى من جانبي، ولا يزعجني أنني لم أظفر بالنصاب القانوني عندما رشحت في العام الماضي في انتخابات مجمع القاهرة. |
|
كنا في يومنا نعترف لأساتذتنا الكبار بالأولوية والسبق، فلا يخطر لنا ببال أن ننكر فضلهم أو أن ننتقص من أقدارهم، ولكن الدنيا تغيرت والمعايير انقلبت، فصار المخضرمون من أمثالنا لا يلقون من الجيل الطالع اعترافاً بما قدموه، وكثيراً ما يفضلون عليه ناشئة من شبيبة الأدب على ضعف أدواتهم، حتى سمعت بأذني شكاوى من أدباء كبار مثل محمد عبد الغني حسن، وعلي أدهم وحسن كامل الصيرفي بأنهم عاجزون عن نشر كتبهم ومقالاتهم، لأن المتصدرين للنشر افتقروا إلى الحس الأدبي الأصيل. ولا أكتمكم أنني مررت بدوري بمثل هذه التجربة، فآثرتُ ألا أطرق باب النشر حتى لا يصدمني شابٌ بعبارة رافضة. |
|
ومعذرة يا سادتي الأجلاء إذا كنت قد أضعت وقتكم وأمللتكم بهذا الحديث عن شخصي، ولولا سعة صدر شيخنا الكبير عبد المقصود خوجه لاستوصيت بمنهاج شهرزاد التي كانت تتوقف عن الكلام المباح كلما أدركها الصباح. |
|
وإذا كنت أجزل لكم شكري العميق على تشريفكم إياي بالحضور في هذه الأمسية، فإنني لأعتذر لكم عما قد تكونون تكبدتموه من عناء وصادفتموه من مشاق في سبيل المشاركة في الاثنينية، وأتمنى لكم جميعاً تحقيق غاية ما ترجونه من آلاء الصحة والعافية والسعادة والتوفيق: |
أعيت بياني وشكراني عوارفكم |
يا أكرم الناس، بالغتم بإكرامي |
|
|
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|