(( كلمة فارس الاثنينية سعادة الأستاذ محمد رضا نصر الله ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الأعزاء، في هذا المساء الجميل وأنا أحظى بتكريم صديقنا الشيخ عبد المقصود خوجه، أشعر أنني أفتقر إلى لغة تعبر عن مكنون ما في نفسي، ذلك أن الوقوف على هذا المنبر الذي استضاف عمالقة الأدب والثقافة والإبداع في بلادنا والعالم العربي، لم أكن أتصور يوماً ما أنني أُجَرُّ إليه، والحق أن أبا محمد سعيد كان يتودد إليّ وأنا أتهرب منه كلما وصلتني دعوة للتكريم خوفاً من أن أقف هذا الموقف، فأين أنا من أولئك الذين استضافهم وما زالت ذاكرتي طرية بأمسية جمعت في بيته القديم شاعراً عربياً كبيراً هو "عمر أبو ريشة" ولغوياً جهيراً هو "أبو تراب الظاهري" وأديباً فَكِهَ الروح وموسيقي العبارة "محمد حسين زيدان"، وعلاّمة كبيراً هو الشيخ "حمد الجاسر". |
كنت وقت ذاك ما زلت أتطلع إلى خدمة الثقافة الوطنية عبر استضافة الكبار من محركي الفكر الاجتماعي والأدبي في المملكة والعالم العربي، ولا أنسى تلك الأيام التي قادتني إلى بيت شيخ الصحافة ورائد المسرح السعودي أستاذنا الكبير الشيخ "أحمد السباعي"، ومنه طرقت باب الشاعر الرائد المجدد "محمد حسن عواد"، وبينهما كنت أربط المواقف وأستدعيها وأولئك الرواد يؤسسون ذاكرتنا الوطنية. |
لقد بدأت متتلمذاً على أولئك عبر مكتبة والدي الذي كان من بين اهتماماته الشهرية ترقب وصول مجلة "المنهل" لشيخنا عبد القدوس الأنصاري، وعبرها استطعت أن أفتح كوة في مجتمعي الصغير لكي أطل على ساحة الأحداث الثقافية والاجتماعية في مملكتنا الناشئة، وفي هذه المكتبة تشكلت بدايات الطريق، وأنا أتقافز بين رفوفها المزدحمة بكتب في التراث والشعر والأدب الحديث خاصة، ولا أنسى هنا ذلك الكتاب اللطيف الروح كتاب "بلاغة العرب" لمحيي الدين رضا كان هذا أول إطلالة لي على الأدب الحديث في العالم العربي، وعلى الطريق وبعد التخرج من المدارس أو المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية انتقلت إلى الرياض، وفي الرياض سعدت بصحبة أساتذة من أمثال صديقي وأستاذي منصور الحازمي الذي دفعني دفعاً إلى ارتياد التجارب الشعرية والأدبية في العالم العربي، وإذ كنت أواصل كتابة المقالات والريبورتاجات الصحفية وجدتني ذات يوم وأنا أتلقى دعوة كريمة من الشاعر الذي أصبح دبلوماسياً الدكتور عبد العزيز محيي الدين خوجه، وكيل وزارة الإعلام وقتها لإعداد وتقديم برنامج أدبي، وحينما استجبت لهذه الدعوة الكريمة طفقتُ أبحث عن مواد تساعدني على إعداد هذا البرنامج، فلم أرَ إلا نصف ساعة يتيمة سجلها المذيع الشهير الأستاذ ماجد الشبل مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهنا طلبت منه أن يتقبل مغامرتي وكانت هذه المغامرة طلب السفر إلى القاهرة وتونس والجزائر والمغرب لاستضافة رواد الأدب والفكر في العالم العربي، تردد واستشار وزيره ووزيرنا أستاذنا الدكتور محمد عبده يماني فكانت المفاجأة السارة أن وافق على الفور، ليفتح الفرصة واسعة أمام هذا الشاب الصغير، ولحسن الحظ أن وُفقت بهذا الجو التشجيعي حيث ابتدأنا من القاهرة وسجلت أول حديث تلفازي مع الدكتور يوسف إدريس في اليوم أو الساعة التي قتل فيها الأديب والقاص والوزير وقتها أو بعدها يوسف السباعي في قبرص، وكان ذلك احتجاجاً على موقفه المساند أو شبه المساند لسياسة الانفتاح على العدو الإسرائيلي. |
ما أزال أتذكر هذا الموقف، وبعدها كرت السبحة مع توفيق الحكيم وكان لذلك قصة طريفة فأنا قد تعرفت إلى هذا الأديب المصري البارز في سنة ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين ميلادية، كنت قد ذهبت في أول زيارة لي للقاهرة لا بقصد المتعة والسياحة، وإنما بقصد التعرف إلى رموز الفكر الأدبي وقتذاك وفي طليعتهم الأستاذ توفيق الحكيم، والأستاذ نجيب محفوظ، والأستاذ نعمان عاشور، وأستاذ الفلسفة الوضعية الدكتور زكي نجيب محمود وغيرهم، وإذ وصلت إلى القاهرة وكان ذلك في شهر أغسطس اللاهب، أكتشف أن كل هؤلاء يذهبون يتصيفون أو يستريحون على شاطئ الإسكندرية الجميل، ذهبت إلى الإسكندرية وطفقت أبحث عن توفيق الحكيم استأجرت تكسياً مصرياً وهو التاكسي الذي لا يزال بشارته المعروفة ذات اللون الأصفر والأسود، وأخذني إلى شاطئ سيدي جابر من محطة الرمل، كان توفيق الحكيم قد اتفق معه صاحب كازينو (بترو) وهو يوناني بأن يحضر إليه صباح كل يوم مقابل تقديم فنجان قهوة مجاني له، وكانت هذه حركة ذكية من (بترو) لأنه يعلم إذا جاء توفيق الحكيم فإن معظم عناصر المجتمع الأدبي والسياسي في مصر المنتقلين من القاهرة إلى الإسكندرية سوف تستقطبهم هذه الندوة، وبالفعل فقد وجدت توفيق الحكيم محاطاً برموز أدبية وسياسية وإن كان السياسيون المصريون وقت ذاك من الذين يتحلقون حول توفيق الحكيم كانوا من بقايا حزب الوفد القديم، وفي طليعتهم سكرتيره العام الأستاذ إبراهيم فرج. |
مكثت قرابة شهرين في الإسكندرية أواظب يومياً على حضور ندوة توفيق الحكيم وأستمتع بالسجالات الأدبية والسياسية بين رموز الفكر والسياسية في مصر والعالم العربي، خاصة وأن توفيق الحكيم كان قد أصدر وقت ذاك كتابه الشهير "عودة الوعي" وما أحدثه هذا الكتاب من سجالات بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية المصرية، ولم أعد من رحلتي هذه إلا وقد استحصلت على حصيلة ثمينة من الحوارات الأدبية والثقافية مع هؤلاء الرموز وأيضاً عدت بمكتبة وفيرة العناوين. |
أعود إلى ذلك الموقف الطريف الذي حدث لي مع الأستاذ توفيق الحكيم، وقد جئته أطلب التسجيل معه للتلفزيون السعودي، وافق على هذا الطلب، وبالفعل نصبنا الكاميرات والأضواء كنا جاهزين للتسجيل فأتيت للأستاذ توفيق الحكيم وقلت له: توفيق بيه إحنا جاهزين، فقال لي: هل رأيت عباس؟ فعلى الفور أدركت أن الأستاذ توفيق الحكيم يطلب مكافأة، وهي بالطبع سوف تكون مكافأة مثقلة لمصروف جيبي المحدود، ذلك أن التلفزيون السعودي لم يخولني بأن أُسلِّم أو أدفع مكافآت للضيوف، فحاولت أن أستجير على هذا الطلب بشيء من التحايل فأصر وقال لي هل قابلت عباس؟ فقلت: من هو عباس؟ فأجابني قال: هو عباس يشتغل مع نجيب المستكاوي، نجيب المستكاوي هو رئيس تحرير القسم الرياضي في جريدة "الأهرام"، فأتيت إلى عباس هذا فقال لي: أنت الذي سوف تجري المقابلة مع توفيق بيه، قلت له: نعم، قال: هل رتبتم المسائل؟ قلت: أبداً مرتبة. الكاميرات منصوبة وإحنا مستعدين وكذا، قال لي: المسائل!! المسائل!! فأشار علي بأنه يطلب ألف جنيه مصري وكان هذا مبلغاً قاصماً للظهر، وازنت الأمر فدفعت هذا المبلغ إلى عباس وبالفعل بدأنا التسجيل الذي كان سجالياً، ولحسن الحظ أن بدأنا برنامجنا "الكلمة تدق ساعة" بهذا البرنامج الذي أحدث عاصفة كادت أن تكون سياسية، ولم أكتشف الأمر إلا في الأسبوع التالي حينما هاتفني معالي وزير الإعلام الدكتور محمد عبده يماني وهو يقول لي: هل جهزت حلقة ترد على ما قاله توفيق الحكيم؟ كانت آراء توفيق الحكيم متطرفة في رفضه للمواقف العربية وقتذاك، وقلت: نعم أنا جاهز، فلدي مقابلة أو برنامج أو حلقة سوف يشترك فيها الأستاذ أحمد بهاء الدين، والدكتور منصور الحازمي وآخرون، وقد أستضيف أيضاً عالِم اليهوديات الأستاذ الكبير الدكتور حسن ظاظا، فشجعني وقال عليك الاتصال به فوراً، اتصلت بالأستاذ حسن ظاظا فحينما أخبرته قال لي: هل وصلك العِلْم؟ قلت: لا أي عِلْم؟ قال لقد التقطت الحلقة التي قدمتها عن توفيق الحكيم في أجهزة الإعلام الإسرائيلية وهم يردون عليكم بضراوة في إذاعاتهم بالعبرية وبالعربية، ويبدو أنكم الآن قد وصلتكم هذه المعلومات وتريدون أن ترتبوا حلقة للرد عليهم، قلت لا عِلم لي قد يكون هذا العِلْم موجوداً عند القيادات، أو المستويات العُليا، وبالفعل لقد أحدثت هذه الحلقة / القنبلة نوعاً من الاستقطاب الجماهيري لهذا البرنامج الذي استضاف عدداً من رموز الفكر والأدب الحديث، حتى عَدَّهُ بعض مُنَظِّري الحداثة كالصديق الدكتور عبد الله الغذامي غلطة ظرفية، ذلك أن الكثيرين لم يتوقعوا أن يخرج مثل هذا البرنامج بين برامج التلفزيون السعودي وقتذاك. |
لم يكن هاجسي أنا شخصياً إلا نوعاً من المواكبة الفكرية لما يجري في الساحة العربية من طروحات فكرية وثقافية، خاصة وأن بلدنا وقتذاك كان يخطو نحو التنمية المادية، هذه التجربة التي خضتُ من أجل إكسابها البُعد الثقافي حوارات طويلة مع صديقنا الأستاذ هشام ناظر وزير التخطيط الأسبق، هشام بحكم ثقافته العميقة كأنه قد استجاب لمثل هذه الطروحات وكان متابعاً جيداً للبرنامج، ولحسن الحظ أن هذه الدعوات التي تراكمت بفعلي أو بفعل غيري أن استجاب لإعطاء هذا البُعد وزنه في خطة التنمية الرابعة، وقد جمعنا في ذات يوم ويبدو أن أستاذنا الدكتور منصور الحازمي كان من بين هؤلاء المدعوين وأَعدَّ أو أضافَ بُعداً ثقافياً لخطة التنمية. |
أعود إلى محاولة الربط بين هذه الاهتمامات الثقافية التي كان دافعها إضفاء بُعد فكري وثقافي على تجربتنا التنموية التي كنت دائماً ما أكرر ذلك في كتاباتي وأحاديثي بأنها تفتقد هذا البُعد، فهي تنمية مادية أُقْسِرَت أو فُرِضت على مجتمع لم يكن مستعداً لها، وبذلك أصبح الاهتمام بتفعيل البرامج الثقافية في أجهزة الإعلام وبرامج أو مناهج التعليم أمراً ضرورياً، على كل حال هذه تجربة يحوطها بالتأكيد الكثير من الملاحظات، أنا شخصياً أُلاحظ عليها كثيراُ، فلو أنها دُعِمت بشكل مؤَسسي لاستطاعت أن تؤسس لنا خطاباً ثقافياً جديداً، ولكنها ظلت متبعثرة لأنها جهد فرد. |
على كل حال لا أستطيع الاستمرار في الكلام، وأنا اليوم فعلاً أشعر بارتجاج وأنا أقف على هذا المنبر الذي جَسَّدَ معنىً كبيراً من معاني الوفاء لِخُدَّام الثقافة والأدب والفكر، ولحسن الحظ أن هيأ لنا في هذه البلاد رجلاً كعبد المقصود خوجه أن يأخذ بأيدي هؤلاء المنشغلين بقضايا الثقافة والأدب فيمنحهم مثل هذه اللفتة التكريمية التي كنا ننتظرها من جهات أخرى، كنا حقيقة ننتظرها من الدولة، وشكراً لكم. |
الشيخ عبد المقصود خوجه: أخي الأستاذ محمد رضا نصر الله، إخواني الكِرام، إن التكريم الذي نحظى به بأعلامنا ومن منحونا هذا الشرف هو في الحقيقة تكريم لنا، وأنّ سعينا الحثيث لتكريمهم هو حق من حقوقهم وليس خدمة من أيٍّ منا فهو فضل منهم وسيعود إليهم وما نحن إلا من أسباب هذه الحقوق، فلهم الفضل الأول بعد الله سبحانه وتعالى، فما قدموه لهذه الأمة ولهذا الوطن يستوجب منّا هذا التكريم، ويستوجب منّا أن نكون يداً واحدة نقف لتكريمهم وليس لنا أيُّ مِنّة أو فضل، أحببت أن أقول هذه الكلمة، فالاثنينية اثنينيتكم والتكريم منكم وهو واجب من واجباتنا، وما أقوم به ما هو إلا دور منكم وإليكم وباسمكم، وليس باسم الفرد بل هو باسم المجموع، فالشكر لهم أولاً، وليس لأيٍّ مِنّا فضل في ذلك، ولكم الفضل والشكر بعد الله سبحانه وتعالى ولهم، والسلام عليكم. |
|