شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأديب الأستاذ عبده خال ))
مساء الخير، يبدو أنني سوف أجنح إلى أماكن أخرى في الحديث عن قاسم، كما يفعل قاسم حداد تماماً، أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى كاتدرائية الجبال، فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريباً، هذه الجملة لقاسم، هذا الوصول للبحث عن معرفة الذات، وأنا حاولت التعرف على قاسم من خلال الصورة، هذا الشارب الكث والعينان اللتان تلتهمان ما يصادفهما من غير أن تعوقهما النظارتان الشفافتان، تركض في تلك التضاريس باحثاً عمن أسرك بشعر جباه غنيمة من بين سهوب وجبال النفس العصية. تقف متسائلاً: هل أعرف هذا الشاعر؟
وفعل قاسم مع ذاته يمارسه القارئ مع كل كاتب معجب به، ربما يضع صورة كاتبه أمامه
ويسأل: هل أعرف هذا الكاتب. ويطمئن إلى معرفته به..
يدعي بعضنا معرفة الكُتَّاب من خلال سحناتهم المشنوقة في هيئة واحدة على ما يكتبون، وربما نتمادى في هذه المعرفة حتى نذهب إلى القول: إن هذا الكاتب خجول أو جريء أو صاحب نظرات حادة. هذه الاستعارات المجازية هي استعارات لنعزز ثقتنا بعمق حدسنا وقوة ملاحظتنا. ولأن الإنسان جُزر متباعدة يضمها هذا الهيكل الذي يقال له الجسد لا يمكننا من تقدير ذلك التباعد الشاسع بين جزرها، بين يابستها ومائها، بين أرضها وسمائها بين عمقها وسطحها، إن الإنسان يحمل تضاريس عصيّة على الفهم، عصية على الإمساك، عصية على التحديد، عصية على المقاربة.
وقاسم حداد، حينما حاول التعرف على ذاته، كان قادراً على استحضار الشكل لكنه تائه في مستويات النفس المتعددة، تائه في ذلك المحيط الذي يقف يومياً بين أمواجه المتلاطمة. فهل معرفة النص توصلنا لمعرفة الكاتب؟ لا أظن ذلك، فالنص يقودنا لمستويات متباعدة من شخصية الكاتب، ربما تجلسنا في غرفة مظلمة وتمارس معنا لعبة احذر.. وفي كل محاولة لتحديد المشهد الذي نطل عليه من خارجه تكون الإجابة واهنة وهزيلة. فهل أعرف حقاً قاسم حداد حتى أكون هنا؟ ربما أنطلق في سرد سيرته وأتشعب بين مرجانها وأهبط لسفوحها وأتسلق قممها.. إلا أن هذه ليست هي المعرفة! حينما غُبَّ على قاسم معرفة ذاته التي انشطرت في مرايا عدة، إنما كان هذا المشهد مشهد العالِم بغور الوادي الذي يطل منه.
وأما معرفتنا به فتتمّ من خلال الصورة التي تتناسخ بأمجادها.. تتناسخ بالقصائد التي توقفنا عالياً فتجعلنا نقدر ونجل صاحب تلك الصورة.. يتحول لدينا إلى أغنية لا نجيد ترديد مقاطعها. ويتحول لدينا إلى قصيدة نشدو بها ولسنا قائليها. وكلما أبهرنا صاحب الأمجاد بأمجاده، تعالى صاحبها وغدا كل ألوان قوس قزح، مهمته أن يبهرنا بتداخل ألوانه ونصاعتها فيتضخم في دواخلنا حتى نعجز عن الحديث في حضرته.
في السنوات الأولى من عملي الصحفي كنت أتهيب الحديث مع رموز ثقافتنا العربية، ثمة عجز يعتريني حينما أقرر الحديث معهم، وقاسم أحدهم. إن سلطة الاسم تحولنا إلى ضعفاء مستضعفين أمام تلك الشخصية، وإن للكتّاب هيبة السلاطين، تتحول شخصياتهم إلى سلطة تجعل الكلمات تتردد بين فيك، وتجعل فرائصك ترتعد (لا يحدث هذا إلا مع من يقدر الكُتَّاب حق قدرهم). في أول مهاتفة كلامية بيني وبين قاسم حداد حدثت قبل ست سنوات، وكان تهيبي لا يزال قائماً من الحديث مع رمز كقاسم حداد، رفعت السماعة الهاتف وثمة جمل كنت أحوكها في مخيلتي مع سماع صوته، كان صوته فخماً شعرت بالارتباك حيالها وأخذت سلطة الاسم تضغط علي: أستاذ قاسم: نعم. أنا عبده خال. هكذا بارتباك..، أهلاً عبده.. كيف هي أخبار الأصدقاء في السعودية؟ وانطلقت ترحيباته لتبدأ تلك الصورة الضاغطة على مخيلتي تتموج وتداري عصفوراً من موج العاصفة، وكانت مخيلتي تترف صوراً متعددة لقاسم، أخذت تغيب وتغيب لتنجلي في صورة أكثر وداعة وحميمية. ومع كل مهاتفة معه ظل قاسم حداد مبهراً، كلما هممت بمحادثته تضخم في مخيلتي وبز ثقتي ويتركني ألملم الكلمات التي تليق به.
إن الكتابة المتميزة تصنع من صاحبها شخصية تبتعد به عنا صوب القمم، ونظل من سفوحنا نضع الاحتمالات عما يمكن أن تكون عليه القمة. فهل فعلاً ستكون الكلمات التي تقال الليلة لباساً يليق بهذه القامة التي رنونا إليها طويلاً وسرنا بها في مخيلتنا كتجسيد للفنان الذي التزم بقضايا الفن والجمال وحرية الإنسان وقضاياه الكبرى، وكلما حرص على إجلاء الإنسان من الإنسان ذهب به هذا الفعل بعيداً، بعيداً صوب الزنازين المحكمة، وهناك يغزل قصيدته ويأوي إلى الكلمات، يأوي إلى قمته التي تبقيه طائراً يرف بجناحيه في الفضاء البعيد وإذا أتى إلينا لم يأتِ إلا غيمة يانعة كلما أطلت أمطرتنا بمائها. فهل فعلاً أنا أجلس هنا للحديث عن قاسم حداد؟ سأتلفت لأتأكد من ذلك.. فعلاً أنا مع قاسم، لكنني على يقين بأن كل الكلمات التي ستقال لن توفي قاسم عتبة واحدة من مجده الذي بناه بنهر القصيدة. شكراً.
عريف الحفل: وقبل أن نستمع إلى قصيدة للشاعر الدكتور بهاء عِزِّي سأترك الميكروفون للأستاذ أحمد عايل فقيهي الأديب والصحفي المعروف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :525  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 145
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج