(( كلمة فارس الاثنينية الأستاذ الدكتور محمد مريسي الحارثي ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
صاحب الاثنينية الصديق العزيز الغالي الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه، أستاذي الفاضل معالي الدكتور محمد عبده يماني، أيها الأخوة من شرفنا هذه الليلة. |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
حقيقة كنت أفكر في من يستحق التكريم لعطاءاته فوجدت أن هذا الرجل الجالس على يساري هو الذي يستحق التكريم لأنه أعطى التكريم العلمي حقه في هذه التظاهرات الثقافية العلمية الأدبية الإعلامية من على هذا المنبر، أعطاها الشيء الكثير من وقته وجهده ولكن أقول له: |
لا خيل عندي أهديها ولا مال |
فليسعف الحال إن لم يسعف المال |
|
فصاحب الاثنينية في خلقه ولطفه وقربه من أهل هذا الهم الثقافي هو رجل يستحق التكريم، ولكن سوف أشير إلى أن من يريد أن يكرم هذا الرجل فليكن التكريم من خلال إعطاء مادة هذه الاثنينية حقها من الدرس عند الدارسين لأنها تمثل خبرة متطورة لضيوف هذا الصالون يقدمونها عن سيرهم الذاتية وعن إنتاجاتهم الفكرية والأدبية والعلمية بشكل عام، وما ظنكم أيها الأخوة بشخصية تتضاءل مجاملة أمام من يكرمها قولاً وفعلاً حتى عندما يبادر أحدهم بالسلام عليّ علم الله أنني أخجل منه لماذا لم أبادره بالتحية قبل أن يبادرني، ولكن الحياة تجارب ومواقف وما يعرف قدر الرجال إلا من خبر الرجال ووقف على معاناتهم وكدحهم ونواياهم التي لا يضرون بها وطنهم ولا شعبهم ولا مجتمعهم ولا من طلب منهم إسداء للنصح أو علم أو توجيه أو ما يستطيع الإنسان أن يقدمه في حياته. |
أيها الأخوة الكرام.. حياتي من البساطة بمكان، عشت في قرية نائية تبعد عن مدينة الطائف بما يقرب من تسعين كيلاً من مدينة الطائف إلى الجنوب، درست المرحلة الابتدائية فيها ولعلّ ما يستوقفني في هذه المرحلة أنني كتبت خطاباً وأنا في الصف الثاني الابتدائي لأستاذي رحمه الله فضيلة الشيخ أحمد بن محمد اليمامي، وكان أول من فتق حلوقنا بالعلم كما يقول رحمه الله أنا أكتب ووالدي رحمه الله يملل عليّ ما يريد أن أوصله لهذا الأستاذ الفاضل، ومرت الأيام ودرست في دار التوحيد في مرحلتيها المتوسطة والثانوية وتخرجت فيها ثم التحقت بكلية الشريعة قبل أن تكون كلية من كليات جامعة أم القرى، وتخرجت فيها وواصلت تعليمي حتى حصلت على درجة الدكتوراه، وإذا بأستاذي بالأمس وكان قاضياً بالأمس يبعث إلي خطاباً ويرفقه وبطيه ذلكم الخطاب الطلابي الذي كتبته بالصف الثاني الابتدائي، بكيت كثيراً لربطي بين تلك المرحلة وما وصلت إليه، وكان بودي أن يكون بقربي من أملى عليّ ذلك الخطاب على ظهر هذا الكون، ليشهد ما أملى به وما وصل إليه هذا الخطاب، ثم صورت منها ما يقرب من عشرين نسخة وزعتها على كتب مكتبتي حتى لا أفقد هذا الخطاب العزيز على نفسي. |
ما كنت أطمح أن أواصل المسيرة التعليمية، وإنما أطمح إلى وظيفة أقتات منها كما هو الحال في كثيرين ممن يهمهم مشكلات الحياة الاجتماعية، وعندما تخرجت لم أجد من العمل ذلك البريق المادي الذي كنت أطمح عليه، كان راتب الأستاذ لا يزيد عن الألف إلا شيئاً قليلاً وعندما فُتِحتْ الدراسات العليا بمكة المكرمة -حرسها الله- اتصلنا بمعلمينا وأستاذينا وكنا قد عاصرنا نماذج من المعلمين على مستوى وعلى قدر كبير من الحرص على إسداء العلم لطلابهم، وفي المرحلة الابتدائية هناك مزيج من السعوديين ومن الشاميين، وفي دار التوحيد تلقينا العلم على أساتيذ من كبار الأساتيذ في الفقه واللغة من مصر وعندما حدثت مشكلة جمال عبد الناصر مع كثيرين من الدول العربية وغادر أولئك الأساتيذ، تلقينا تعليمنا الجامعي على مجموعة من الأساتيذ العراقيين، كان أغلبهم على غير مستوى الأساتيذ المصريين، وإن كنا لم نفقد بعض أولئك الأساتيذ الذين منحونا الكثير من علمهم وتوجيهاتهم، ثم عدنا للدراسات العليا طلاباً بمكافآت زهيدة جداً، ولكن الصبر والتصميم وشحذ العزائم واستنفاد الطاقات والإنسان يمتلك طاقة في طاقات كبيرة جداً إذا حاول أن يستغلها يمكن أن يصل إلى شئ مما يطمح إليه، كنا في مرحلة الماجستير نحصل على مكافأة قدرها ستمائة ريال ماذا أصرف منها على محروقات السيارة التي توصلني على الجامعة وماذا أصرف بها على أسرتي وقد تزوجت ورزقني الله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وماذا آكل منها ولكن الله سبحانه وتعالى يخفف عن طالب العلم مئونة الحاجة.. بعد حصولنا على الماجستير التحقنا بالجامعة الإسلامية ومنحنا الله سبحانه وتعالى من النظرة التشجيعية من أولئك الرجال الذين يرون أن هذا الوطن لا يبنى ولا يقوم بحقه إلا المواطن، منحونا فرصة الوظيفة والتعليم في آن واحد وبعثونا إلى مكة المكرمة للتحصيل الدراسي براتب خمسة وسبعين من الراتب مبلغ كبير جداً وكنا نقول هل نحن في حلم مما نحن فيه أم أن هذه الحقيقة، نعم هذه الحقيقة بعد حصولنا على الدرجة العلمية بدأت أقرأ بجدية كانت قراءتي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه تتمحور حول المنطق والفلسفة، وكدت أنزلق إليهما لشغفي بالترويض الذهني في هذه العلوم، وعندما أدركت أن غيري ممن أقرأ لهم من كبار المفكرين العرب الذين استهوتهم هذه الظاهرة العلمية الذهنية البحتة قد شهدوا وقدموا أشياء أقف أنا أحياناً حائراً لا أعرف ماذا يريد الكاتب، فاتجهت إلى التراث النقدي الذي تخصصت فيه وبدأت أقرأ كثيراً، وكانت أولى قراءاتي في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وبعدها عدت إلى مكة المكرمة أستاذاً في جامعة أم القرى وقد أُنشئت وبدأت أكون نظرة نقدية تراثية كنت أهدف من ورائها إلى أن يكون لي مشروع نقدي على أقل تقدير، أتفق مع مجموعة من الباحثين على سلامة السير فيه، فوجدت في هذا التراث وما زلت أبحث فيه وهو ينابيع كبيرة جمة ضخمة لا يمكن أن يصل غورها باحث إلا ووجد فيها ما يمكن أن يشبع نهمه العلمي كتبت ما يقرب من أربعين دراسة بين بحث وكتاب كنت أهدف من هذا كله إلى أن أقيم تراثاً وبين ما نحن فيه من هموم فكرية كثرت نوافذها على الساحة العربية النقدية وفتن طلابها بتتبعها وبرصدها وبمحاولة الإفادة منها، وكان هذا الجهد قد صاحب مرحلة من المراحل الدقيقة جداً في توجهات الأدباء والكتّاب والنقاد ليس في السعودية ولكن في عالمنا العربي، تعرفون أيها الأخوة أن الحركات الفكرية ومنها النقد، عند غيرنا قد بدأت تحقيبياً تغييراً بمعنى أنها كانت تؤرخ للأدب وللنقد بالمراحل الكلاسيكية ثم الاتجاهات الأدبية إنتاجاً ثم بالفكر من الفكر التنويري إلى الحداثة إلى ما بعد الحداثة إلى العولمة إلى هذا الفضاء الذي ينظر إلى نهاية العالم ونهاية التاريخ، كان شداة الأدب وناشئوه والمبتدئون فيه تغريهم مثل هذه الوقفات ومثل هذه المستجدات على الفكر العربي، ويمعنون ويغذون السير على أقل تقدير أن يقال أن هذا الدارس أو ذاك على وعي بحركة الكون المعاصرة وبثقافات الشعوب والأمم الحديثة، ثم بدأت أعيد النظر هل بالإمكان أن يفيد النقد العربي من هذه المعطيات والمستجدات المعاصرة؟ حقيقة كان هناك تصور من بعض البعيدين عن مضايق العلم بأن كل وافد هو شر، وبأن البقاء على التراث هو خير، وتعرفون أن النهضة العربية عندما بدأت، بدأت حول ثلاثة اتجاهات رئيسة: هناك من بقي على التراث لم يتحرك قيد أنملة كما يقولون، وهناك من حاول أن يستثمر المنجز الغيري لإقامة الحياة العربية المعاصرة كما هي عند الآخرين الذين تطوروا وسبقونا في التحديث والتطوير، وهناك من حاول أن يجمع بين المحافظين وبين هؤلاء الذين وجهوا وجهة غير عربية، كل هذه الاتجاهات الثلاثة كل أصحابها كانوا يحاولون الإصلاح والبناء، لا نشك في نية أحد منهم البتة، إنما كل له تصوره، وكل له أخطاؤه وكل له صوابه، بقينا حقيقة فترة طويلة لم نحقق شيئاً، وبدأنا نشكك في كل من دعا محافظاً أو مجدداً أو جامعاً توفيقياً بين هذا وذاك، ولعلّنا لم ننجح إلى هذه اللحظة في وضع مشروعاتنا الكبرى محل تخطيط وتنفيذ يقوم عليهما خبرات عربية علمية حتى ولو استعانت بغيرها ممن لديهم مكتسبات وخبرات تساعد على توسيع نظرتنا إلى هذه الحياة، أضرب لكم مثالاً واحداً، تعلمون أيها الأخوة قضية الدعوة إلى تحرير المرأة، عندما بدأها قاسم أمين في مصر قبل ما يزيد على مائة عام، قابلها المشهد العلمي الثقافي الشرعي والعلمي والتقليدي والمخزون المترسب في الأذهان، ثم صادرناها لمائة عام أو أكثر وبعدها فقد عقد أول مؤتمر للمرأة في القاهرة بمباركة عربية ودولية، لماذا لم نكن جريئين في مواجهة هذا الطرح الجريء في حينه، ثم بلورت تصور إسلامي عربي يوجه هذه الدعوة ويمتص حماس المنتفعين إلى توريط المرأة في أكثر من دائرتها، وفي أكثر من حجمها وفي أكثر من طبيعتها، هذا مثال واحد أضربه للحركة الاجتماعية العربية. |
وأضرب مثالاً لقضية الدعوة إلى الحداثة العربية، تعلمون أيها الأخوة أن التحقيب لمثل هذه الدعوات بدأ بالتنوير ثم بالحداثة ثم بما بعد الحداثة، ثم بالعولمة ثم ما بعد العولمة الآن. وبدأت مصادرة الخطاب الحداثي بدون أن نناقش حامليه ما الدوافع والغايات التي يبحث عنها هذا الخطاب، وحقيقة ما خُدم هذا الخطاب خدمة توجهه إلى الأصلح والأحسن وإلى أن يكون خطاباً منتمياً لأننا أيها الأخوة أمة لنا قيمنا ولنا انتماؤنا ولكن لا يمكن أن ننعزل عن حركة الكون لا بد أن نتأثر وأن نؤثر كيف نتأثر؟ نتأثر إذا كنا في حاجة إلى شيء عند الآخر، لكن لا نأخذه على علاته، لا بدّ أن تكون الحاجة وأن نهضم ذلك الآخر وأن نطبعه بطابعنا الخاص حتى يصبح لبنة بناءة في حركتنا الاجتماعية أو السياسية أو الإعلامية أو أي خطاب يمكن أن يفيد من هذا أو ذاك، هنا هذه الوقفات التصادمية ليس على ساحتنا ولكن على الساحة العربية بشكل عام أخرتنا كثيراً، وعندما نفيق من صدمة نُوَاجَهُ بصدمة أخرى وآخر هذه الصدمات هي الصدمة المعاصرة الآن ما سموه بعد الحادي عشر من سبتمبر، هنا لا بد أن نقف وقفة محاسبة للنفس ماذا نريد لذاتنا وماذا نريد من الآخر؟ هل نحن في طريق يوصل إلى غاياتنا؟ أم أن هنالك تعقيدات والتواءات في هذا الطريق تحاول أن تصدنا وأن تمنعنا عن الوصول إلى ما نصبو إليه؟ الذهنية العربية في حاجة إلى أن تكون ذهنية منتمية وأن تكون متسعة، المعرفة العربية عندما تطورت في العصر العباسي ودخلت فيها ثقافات أمم وطبعتها الثقافة العربية بطابعها الخاص اتسعت لكل التعددات الفكرية والأدبية والاجتماعية وكل خطاب وجد مكانه في الذهنية العربية وحقق له شيئاً من القبول. |
نحن الآن نحتاج إلى ذهنية نشكلها نحن لا تشكلها أمريكا ولا يشكلها الغرب، كيف نشكل هذه الذهنية؟ ليست المسألة ببعيدة، نحن أمة لنا تراث ومعذرة لا أريد أن أُناقش في قضية إدخال القرآن الكريم والحديث في بنية التراث، من يريد أن يناقش فليؤخر ذلك لأنه جدل لا يتسع المجال له للوصول إلى نتيجة، ولكن نريد أن نشكل ذهنية عربية تقوم على المعطى الشرعي لأن الأساس فيه وتقوم على المعطى القومي العربي لأن من العرب من غير المسلمين يعيشون معنا في أرضنا، تجمعنا بينهم القومية والعصبية والوطنية، وتجمعنا بهم ثقافتنا التي تسللت إلى أذهانهم، فلدينا من غير المسلمين من العرب مواطنين ولهم المشاركة في بناء هذا المجتمع العربي الكبير، المعرفة الشرعية والمعرفة القومية ولا أقصد بالقومي أن نستعيد ما كان في الستينات، لا، أنا أقصد بالقومية ذلك الخطاب الذي ينطلق من الشرعي ويعود إليه بما يحمل من خبرة القوم والوطن ومن خبرة المعطى الوطني في البلاد العربية.. |
ثم المرتكز الثالث: هو الخبرة الإنسانية التي نحتاجها بشروط التأثر والتأثير وليس بشروط الانزلاق وأن نكون تابعين وأن نكون دائماً تلامذة لغيرنا، لا أريد أن أطيل لأن هناك أسئلة، ولكن في الحقيقة سعدت بتكريم أخينا الفاضل الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه هذه الليلة وأنا حقيقية أقلكم ممن يستحق التكريم، وأقلكم ممن يهمهم هذا الشأن لأنه هم جمعي تشتركون كلكم فيه وتشترك الأمة فيه وأقول لعلّ الله أن يتيح لهذه الأمة أن تعرف ذاتها وأن تعرف الآخرين معرفة حقيقية وأن يكتب الله لها النصر والتوفيق.. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
الشيخ عبد المقصود خوجه: شكراً لضيفنا الكريم على هذه الكلمة الضافية، وسوف أتخذ صدر هذه الكلمة أنموذجا سأبعث به لكل من ستستضيفه الاثنينية للتكريم، لأننا بحاجة دائماً أن نعرف السيرة الذاتية للضيف، ونعرفها من ذاكرة الطفولة والتوجه الفكري بخواتيم الأيام التي سبقت تكريم هذا الضيف لنعرف هذا الضيف منذ البدء وحتى النهاية، ودائماً نحن في إشكاليات إيصال صوتنا لكثير من القامات التي سعدنا بتكريمها لأننا لا نجد هذا الإطار، الآن وأنا استمع إلى السيرة الذاتية في صدر كلمة الضيف الكريم هذه الأمسية دارت في ذهني أن أؤطر هذه الكلمة وأرسلها كأنموذج، لأنه دائما أسمع من الضيف يقول أنا ما عارف إيه المطلوب مني، ثانياً أثني على ما قاله معالي دكتورنا الفاضل الأستاذ ووزير الإعلام الأسبق محمد عبده يماني بأن هذه الاثنينية ليست لي وهي اثنينيتكم وما أنا إلا سبب وما لي إلا مقعدي وأرجو من الجميع ألا تسمى اثنينية عبد المقصود خوجه، الاثنينية هي لكم ومنكم وبكم ومعكم. |
الأمر الأخير، إنني في عهد الطفولة النظرية كما يبدو لأن المرء يكبر وتكبر الوسائل التي يستعين بها، وأنا أتكلم في غير محظور، فأنا الآن في دور الاستعانة بنظارة للقريب والبعيد وأحس بالتلعثم ولو أنني اقرأ من ورقة، وربما تختلط عليّ الكلمات لأنني أحس بدوار، وتختلط عليّ بعض مخارج الألفاظ ولكن يبدو أنه سيأتي الدور عليكم بعد عمر طويل... وشكراً لكم.. |
|