(( كلمة سعادة صاحب الاثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا بمشكاة "إقرأ" والصلاة والسلام على معلِّم البشرية، سيدنا وحبيبنا محمد، وعلى آل بيته الكرام الطاهرين، وصحابته أجمعين. |
الأساتذة الأكارم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
يسعدني أن أرحب باسمكم جميعاً في هذه الأمسية بضيفنا الكبير معالي الأستاذ الدكتور شاكر محمد كامل الفَحَّام، الذي تفضل مشكوراً بتلبية دعوة "الاثنينية" ليسعدَنا بهذا اللقاء. فأهلاً وسهلاً ومرحباً به في بلده وبين محبيه، والتحية للأخ الدكتور عز الدين البدوي النجار الذي يرافق ضيفنا في هذا المنتدى، ويلقي الضوء على جوانب من مسيرته المباركة. |
إن ضيفنا الكبير يُعتبر واحداً من حراس اللغة العربية في هذا العصر، وأحد المرابطين في ثغرٍ من ثغورها المتعددة، أحبَّ اللغةِ العربيةَ وساهم مساهماتٍ فعالةً في العناية بها وبآدابها، ووظف كل ما لديه من مواهب علمية وإدارية ودبلوماسية لخدمة أهدافه السامية التي تصب كلها في مشروع النهوض بالعربية تجاهَ تحديات العصر. |
ومن البَدَيهيِّ أن نتفق ونختلف حول المحصلة النهائية لمجامع اللغة العربية في مختلف الدول العربية ونطرح علامات استفهام حول جدواها وفاعليتها وأساليب عملها، ويأتي التساؤل الأكبر بشأن مساهمتها في تطوير العقلية العربية والسير بها نحو الإبداع العلمي والتقني، إن نظرة سريعة على خارطة العطاء البشري مقرونة بالدلائل التاريخية تشير إلى أن العرب كانت لهم الريادة في مختلف ميادين العلوم التطبيقية، وعندما أقول العرب فإنني أعني بالضرورة المسلمين لأن اللغة العربية قد تماهت في الإسلام بحكم تقديسنا للكتاب العزيز الذي نزل بلسان عربي مبين، وتمسكنا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. |
هذا التمازج لم يمنع في فترة ما استنفار كل الطاقات للاستفادة من الموروث العالمي في مختلف مجالات العطاء الإنساني، ثم برز المسلمون بصفة عامة وبزُّوا نظراءهم فكان منهم محمد بن موسى الخوارزمي، أول من أدخل الصفر في علم الحساب، الأمر الذي يمثل ثورة علمية خطيرة، ثم نرى ابن النفيس الذي أهدى العالم نظريته في الدورة الدموية، والزهراوي الذي احتفت جامعات فرنسا وإيطاليا بمؤلفاته واعتبرتها جزءاً أساسياً من مناهجها الطبية حتى القرن الخامسَ عشر الميلادي، ثم ابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم من العلماء الأفذاذ الذين كان عطاؤهم بعقل عربي ولسان عربي، أي أن منهج التفكير نفسه كان عربياً، ولم تكن اللغات الأخرى تشكل بالنسبة لهم غير جسر للتواصل مع الآخر، لكن التفكير الإبداعي نفسه كان عربياً خالصاً، ونعجب اليوم حين نرى الجهد الكبير الذي يبذل لترجمة كلمة "الفاكس" إلى "الناسوخ" أو "اللاقط"، إن الإشكالية ليست في إيجاد الكلمة العلمية المناسبة، وإنما في منهج التفكير وأسلوب التعامل مع الآلة، والمنجز الحضاري برمته. |
إن لغات مثل اليابانية والعبرية وغيرها من اللغات الأوروبية، لم تشكل أبداً حاجزاً بين العقل المبدع وحركة المخترعات، وهذا يقودنا إلى تساؤل مشروع حول كيفية العودة إلى منابع الفكر العربي الذي يبادر ويحلل ويبتكر، وأكاد أجزم أن العلة تكمن في أسلوب تعاملنا مع اللغة العربية كوعاء للحفظ والسرد فقط، ولكنها ليست جسراً للتواصل مع الآخر، عبر المنجز الحضاري، أي الآلة والاختراع التي تدخل في حياة الناس اليومية. لقد أصبحنا للأسف أمة استهلاكية ولذلك عندما يقفز أحدنا فوق الحدود ويتعامل مع العالم بلسان وعقلية الغرب فإنه يتفوق وينال أعظم الجوائز العلمية تقديراً لنظرياته العلمية وبالتالي بدأ الناس ينظرون إلى اللغة العربية باعتبارها عنصراً طارداً للإبداع وهنا مكمن الخطر والمقتل الذي ما له من دافع. |
عندما تتحول اللغة –تدريجياً- إلى آفة تستوجب المكافحة، وسُبَّة تستدعي الخلاص، ورمز للسلبية والتخلف والتبعية، فإن الناس ولا سيما البسطاء منهم سينصرفون عن اللغة إلى ما يبهرهم ويرضي تطلعاتهم ووهم التقدم والرقي في نفوسهم، ونجد ملامح ذلك في أسماء بعض محلاتنا التجارية، وقنواتنا الفضائية، وأبنائنا وبناتنا، وأزيائنا وأغانينا وعدِّدْ ما شئت من أُطر التغريب والغربة، ولا شك أن هذا الاستلاب اللاواعي يساعد على اهتراء عباءة اللغة التي تستر جسد هذه الأمة، وتتحول بالتالي إلى نهب مشاع لكل من هبَّ ودب، لأن هويتنا سوف تضيع، ثم نغذُّ السير في طريق الاستهلاك بلا رجعة ونبقى حائرين بين لغة فصحى لا تجيد غير الشعر والبكاء على الأطلال، والفخر والمديح ولغة عامية تستأثر بما تبقى من شؤون الحياة، أما العلم والفكر والمخترعات، فأمرها متروك لغيرنا من الأمم شرقاً وغرباً، وعلينا أن نضرب أخماساً في أسداس لاستبدال كلمة "فاكس" بكلمة "ناسوخ" أو "لاقط"، وهذا منتهى الأرب وغاية الجهد والقصد، والله المستعان. |
معذرة لهذا الاستطراد غير أن مكانة ضيفنا الكبير على ساحة اللغة العربية تحتم علينا أن نضع بين يديه مثل هذه الهموم والشجون، وإنني على ثقة بأنه سيسهم مع بقية أساتذتنا الأفاضل في الجامعات والمعاهد، ومجامع اللغة العربية على تدارك الأمر، وتثوير العمل جملة وتفصيلاً، منهجياً وعلمياً وفكرياً، حتى تخرج الأجيال القادمة من شرك الاستهلاك إلى آفاق العطاء والإسهام في حضارة العالم التي تقوم على العلم التجريبي والمختبرات والمعامل، وبالتالي تعود لنا هويتنا ومكانتنا السامية أيام كانت أوروبا تتهافت على مخطوطاتنا وتراثنا العلمي وتطوره نحو الأفضل والأنفع للبشرية، وإنني ما زلت عند تفاؤلي بأن البقاء للأصلح، وليس هناك أصح أو أصلح للعالم من القرآن الكريم، الذي هو قمة اللغة العربية، ولذا ستبقى هذه اللغة الجميلة رغم كل شيء، فقط علينا أن نغير ما بأنفسنا لتبقى خير أمة أخرجت للناس. |
الأحبة الأفاضل: |
هذه الأمسية تأتي مسك الختام لموسمنا الحالي، الذي سعدنا من خلاله بلقاء صفوة من كبار العلماء الأجلاء والمبدعين، وكنا نأمل لو بدأ في وقت مبكر بعض الشيء ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والحمد لله الذي مكننا من حصاد هذه السنابل الطيبة المباركة متمنياً لكم أمسية شيقة مع ضيفنا الكبير. |
وإلى لقاء يتجدد بإذن الله في موسمنا القادم بعد العطلة الصيفية، وأنتم على ما أحبه لكم من صحة وعافية. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
عريف الحفل: أيها الأخوة معنا من المتحدثين في هذه الليلة أصحاب السعادة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، سعادة الدكتور حيدر الغدير، وسعادة الدكتور عز الدين البدوي النجار. |
وقبل أن أعطي الكلمة تعلمون بأنه يفتح حوار مع فارس الاثنينية عقب أن تعطى لمعاليه الكلمة، نأمل موافاتنا بالأسئلة وليكن سؤالاً واحداً حتى نتيح الفرصة لأكبر عدد من حضراتكم. |
الكلمة الآن لسعادة الأديب رئيس النادي الأدبي الثقافي بجدة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين. |
|
|
|