شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الدكتور سعيد السريحي ))
السلام عليكم ورحمة الله.. لم يكن يرضى عن حرفٍ مما يقرأ، أو وجهٍ ممن يقابل ذاك كان أستاذي لطفي عبد البديع -رحمه الله- كأنما قد أجرى الله على لسانه قول التوحيدي:
نظرتُ فلم أُبصر بعيني سوى القذى
وجُبتُ فلم أجلب لنفسي سِوى الأذى
ولم أرَ وجهاً مستحقاً لمرحبا
ولا وجَه أمرٍ مستحِقاً لحبذا
 
كان قليلاً ما يحمد لإنسان حرفاً كتبه، أو رأياً أدلى به، ووطنتُ نفسي وقد عايشته ما ينيف على عقد من الزمن أن أسلِّم له بما يستجيد، وأن أجد فيما لا يحب شيئاً مما يمكن أن يُحَب، وخشيتُ إن أنا جاريته فيما يأخذ به أن أنتهي إلى ما انتهى إليه من غربة شبيهة بغربة من يسقط من السماء فلا يجد أرضاً تتلقاه، وكآبةٍ هي كآبة شمس لا تجد أرضاً تليق بأن تشرق عليها.
 
ذات زمنٍ سألني أستاذي لطفي عبد البديع، من هو عابد خزندار؟ كنت يومها أجهل كثيراً مما لا يليق بالمرء أن يجهله، لم أزد على أن قلت له إنه أحد أبناء مكة المكرمة، كنت لا أعرف عنه إلا هذا اللقب المكي وشذرات من سيرةِ أسرةٍ عريقة، قال أستاذي: (ده يكتب كويس) وأشار إلى عمود في (الشرق الأوسط) استوقفني أن أشاد به هذا الرجل الذي كان لا يتردد –وأعني به لطفي عبد البديع- أن يصف المكتبة العربية بأنها كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، ويصف حركة النشر بأنها مطابع تدفع، ورؤوس تبلع، وشمس عمياء تظلل الجميع، أدركت يومها أنني أمام رجل ينبغي أن أقرأه.
 
حين كتب الله عليّ أن أعمل في الحقل الصحفي كان هاجسي أن أصل إلى هذا الرجل، ووجدتُ أوراقه تحط أمامي أدركت يومها أن ما جاءني منه هو من باب الرزق الذي قال عنه الإمام علي كرّم الله وجهه: "الرزق رزقان: رزق تسعى إليه، ورزق يسعى إليك"، وكانت معرفتي بالأستاذ عابد خزندار هي من باب الرزق الذي سعى إليّ.
 
كنت أستشعر فرحاً يشبه الزهوَ وأنا أقرأ مقالات الأستاذ عابد وهي لا تزال غضة رطبة الحبر، كنت أقرأ فيه ضرباً من الكتابة لا أكاد أجده عند سواه، يومها كنا نحتفي بالقصيدة التي تتمرد على شرائع القصيدة، والقصة التي تتجاوز شعائرَ القصة، ونمارس ضرباً من النقد يزعم لنفسه أنه يتأسس على أنقاض ما عهده الناس من النقد، وكان عابد خزندار بالنسبة لنا فتحاً جديداً، فهو يكتب المقال لا كما يكتبه سواه، يكتب المقال الذي يؤسس لنفسه، باعتباره كتابة أولى تتمرد على شعائر وشرائع الذين جعلوا للمقال خصائص لا يتجاوزها.
 
كان الذين يكتبون القصيدة الحديثة كثيرين، والذين يكتبون القصة الحديثة كثيرين، والذين يكتبون النقد الحديث كثيرين كذلك، أما من كان يكتب المقال الحديث فهو عابد خزندار وحده، لم يكن المقال لديه تهميشاً للذات، لم يكن موضعة لها بقدر ما كان حضوراً لهذه الذات، لم يكن تغييباً للمجتمع بقدر ما كان كشفاً لأوجهه المندسة في ثنايا الأشياء، لم يكن يدعي لنفسه الموضوعية بقدر ما كان يعلن في مقالاته أن الإنسان هو مركز الكتابة وأن الكتابة هي الحضور الأمثل للإنسان كاتباً وقارئاً. في هذا الإطار كتب عابد خزندار عن الحب.. والحرب.. والموت.. والجنون.. قال ما لم يقله أحد، وخبأ بين سطوره ما لم تكن عين الرقيب قادرة على رصده، كنا نقرأه ونتذكر قول الشاعر:
بين الرقيب وبيننا وادٍ تُباعدنا شؤونهُ
نغتابهُ ونقولُ لا بقيَ الرقيبُ ولا عيونهُ
 
حتى إذا بلغ في الأمر غايته شاء أن يحمل نفسه وقارئه على أمر لم يكن له بدٌ من حمله عليه، فكشف عما كان يخبئه وأفصح عما يُكنى عنه فعرفه الناس كاتباً اجتماعياً ناقداً، يجدون في ثنايا ما يكتبه ما يعتلج في نفوسهم من هَمٍ، وما تنوء به حياتهم من أعباء، ولم يكن عابد خزندار فيما فعل يُبدِّل اتجاهاً أو يغير سيرة أو صورة، وإنما كان يفصح عن شذرات بوسع من كان يقرؤه قراءة ماعنة أن يجدها في ثنايا كتاباته، يوم أن كان من لا يحسن القراءة يتوهم انفصاله عن الوعي الاجتماعي وهموم الناس.
 
كان عابد خزندار في كتاباته الأخيرة يسدد فاتورة قديمة دفع قيمتها من حياته وغربته وعمله، كان يرتكب إثم النقد الاجتماعي في مجتمع لا يتسع صدره لأكثر من كلمات المُداجي أو عتب المحب لا تعرف المداجاة وتُسمي الأشياء بغير أسماءها، تحية للصديق عابد خزندار، تحية للرجل الذي كلما أمعنتُ في قراءته سألتُ الله الرحمة لأستاذي لطفي عبد البديع وعينه الكاشفة التي التقطت اسمه قبل ما يقارب العشرين عاماً من بين رُكَام الأسماء، وسألني في تلك الظهيرة من هو عابد خزندار؟ شكراً جزيلاً.
عريف الحفل: مستشار وزير الحج الأستاذ الأديب والكاتب السيد فؤاد عنقاوي له كلمة.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :858  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 85
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج