شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأستاذ عابد خزندار ))
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم. اللَّهم أعِن ويسِّر، أهدى إليّ الصديق عبد المقصود خوجه بأن أتحدث عن ضيفنا الدكتور عباس الجراري، وأرسل إليَّ ستين كتاباً في الأدب العربي والمغربي والتراث الشعبي، وشعر المقاومة، والثقافة والفكر الإسلامي، وهي كتبٌ تحتاج إلى حياة كاملة لقراءتها ناهيك عن دراستها، كما أرسل لي نبذة عن حياة الرجل والمناصب التي تقلدها والتي جمع العديد منها في وقت واحد، الأمر الذي يقف أمامه المرء حائراً ومتسائلاً دون أمل في الحصول على جواب شافٍ، وهو كيف استطاع الرجل أن يجد الوقت الكافي لتأليف كل هذه الكتب، والقيام بأعباء كل هذه المناصب؟ وبالطبع لا يمكن أن يكون هنالك سوى جواب واحد، وهو أن الرجل كرّس كل وقته وجهده للتأليف وخدمة الوطن، وأنه إنسان انصرف كل الانصراف عن توافه الحياة ومسرَّاتها العابرة وبرقها الخُلّب، مما يدل على أنه واحد من بقية الرجال الموسوعيين الذين نهضت على أكتافهم حضارة العرب والإسلام، والذين يتبادر إلى الذهن منهم الآن رجال كالجاحظ وجلال الدين السيوطي في العصر القديم، والعقاد في العصر الحديث.
 
ولأنه من المستحيل عليّ أن أتصفح كل هذه الكتب أو حتى أُلِم بها بعض الإلمام، خاصة وأنه لا تتوفر لدي أي خلفية علمية عن بعض المواضيع التي تطرق إليها، فقد رأيت أن أختار كتاباً واحداً لدي شيء من العلم عن مبحثه وأقدمه إليكم، لا لأقدم لكم فكرة عن عِلْم الرجل واطلاعه، ولكن عن جانب من جوانب هذا العلم، وهذا الكتاب عن الأدب والنقد وعنوانه (صفحات دراسية في القديم والحديث)، وبالطبع لم أستطعْ أيضاً أن أتناول كل مباحث هذا الكتاب، بل سأتناول جانباً واحداً منه.
 
والجانب الذي يهمني هو قضية الشك في الشعر الجاهلي، وهي قضية أثارها لأول مرة المستشرقون وعلى رأسهم مرجليوث، ثم تصدى لها طه حسين في أدبه العربي وألَّف عنها كتابه المشهور في الشعر الجاهلي. وقبل أن يتصدى لهذه القضية وما كتبه عنها الدكتور الجراري من تفنيد لها، أريد أن أعرض لسؤالٍ ظل يثور في نفسي ويؤرقها سنين عدداً وهو: لماذا لم تثر هذه القضية إلا في زمننا الحديث، وبالذات على يد المستشرقين؟ ولماذا لم يتطرق الشك فيها إلى علماء العرب ونقادها في صدر الإسلام وخاصة في القرن الهجري الثاني؟ لا سيما وأنهم قريبو عهد بها وخاصة ابن سلام الجمحي الذي ألَّف كتاباً في (طبقات الشعراء)، واستطاع أن يقسمه إلى طبقات لا يستطيع أن يرقى إليها وخاصة الطبقة الأولى (الشعراء رواة منتحلون) وخاصة حمّاد الراوية. وهل أُثِر عن هؤلاء أو بقي شيء من شعرهم يضاهي على الأقل ضعفاء الطبقات الدنيا من الشعر الجاهلي؟ وإذا تركنا ابن سلام وأتينا إلى علماء كالجاحظ وابن قتيبة وغيرهم ممن كان لهم باع واسع في علوم اللغة وبصر عميق بالشعر فهل يمكننا القول أو نجرؤ على التساؤل بأن علم هؤلاء قصر بهم عن إدراك أن الشعر الجاهلي منحول، وهل يسعنا أن نصدق المستشرقين ونغفل قول العالم العربي؟ خاصة وأن أدلتهم -أي أدلة المستشرقين- إذا دققنا فيها نجد أنها واهية لا تستقيم أمام المنطق أو الحقيقة، خاصة وأن ما قيل أن أقواها وهو أن العرب أُميُّون لم يعرفوا الكتابة دليل واحد يفنده التاريخ والوقائع.
والدكتور الجراري يقدم لنا العديد من البراهين التي تثبت أن العرب كانوا يعرفون الكتابة، وأنهم دونوا العديد من أشعارهم وأن التدوين لم يقتصر على المعلقات، وهو في هذا الصدد يقتبس هذا القول من الدكتور نجيب البهبيتي الذي يرى أن الشعر العربي قد نُقِل أغلبه من أصول مكتوبة، وحضارة العرب والجنس السامي عامة قد اقترنت أبداً بالكتابة ولم تفارقها لحظة واحدة، فضلاً عن وجود شواهد خاصة في التاريخ العربي على هذا، وفي صميم الشعر نفسه ما يدل عليه.
ويذكر الدكتور البهبيتي عدة شواهد على وجود الكتابة في الشعر العربي، من ذلك ما يقوله المرقش الأكبر:
الدار قفرٌ والرسوم كمــا
رقَّش في ظهر الأديم قلــم
 
ويقول سلامة بن جندل:
لمن طلل مثل الكتاب المنمق
خلا عهده بين الصليب فمطرق
 
ويقول الحارث ابن حلِّزة اليشكُري:
لمن الديار عفون بالحبـس
آياتها كمهارق الفـــرس
 
والمهارق هي الصحف.
ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي:
لابن حطَّان بن عوفٍ منازلٌ
كما رقش العنوان في الرِّقِ كاتبُ
 
وقد اكتفى الدكتور البهبيتي أو ربما الدكتور الجراري بهذه الأمثلة مع أن هناك أمثلة كثيرة جاء فيها ذكر الكتابة والرسم، أراها جديرة بالذكر لِمَا فيها من دلالة على أن الكتابة كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة العرب قبل الإسلام. ومن هذه الأشعار:
دار لها لأسماء بالغمرين ماثلة
ليس بها من أهلهــا إرمُ
 
وإرم تعني أحداً، والبيت لزهير، والذي يقول:
فمدافع الريان عُريّ رسمها
خلِقاً كما ضمن الوحِيَّ سلامها
 
وهذا البيت يحتاج إلى شرح، المدافع: الأماكن التي يندفع منها الماء، والسلام: الحجارة، والوحيّ، جمع وحي وهو الكتابة، وهو يقول أيضاً:
وجلى السيول عن الطرول
كأنها زُبُرٌ تجد متونها أقلامها
 
والزبر: جمع زبور وهو الكتاب، والسيول تفعل فعل القلم حين يجدد الكتابة ويعيدها إلى سابق عهدها. وهذا المعنى يؤكده البيت الذي يليه مباشرة في المعلقة:
أو رجع واشمة أسفّ تؤورها
كِفَفَاً تعرَّض فوق وشامها
 
والرجع: هو الترديد والتجديد، الحقيقة أنا أحاول أن أختصر بقدر الإمكان، ولو رجعنا إلى دراسة الصور الشعرية الأولى في الشعر الجاهلي وهي دراسة مهمة لأن الصور الشعرية هي خير ما يمكن أن توصف بها حياة أمة ومعايشها وعلاقتها بالأرض، إذا رجعنا إلى هذه الصورة في تخلقها النهائي نجد أنها تتمثل في الوشم والوسم والرسم والكتابة والوحي، وهذه الكلمات كلها مترادفات تنتمي إلى عائلة واحدة أو (Paradigm) واحد، وهي كلها معادل موضوعي للأطلال، والأطلال هي السمة الأساسية لحياة الجاهليين، وتشبيه الأطلال بالكتابة لا يمكن أن يعني إلا شيئاً واحداً وهو أن الكتابة نفسها كانت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم.
نأتي أولاً إلى الوشم: وهو نوع من الرسم والكتابة، ونجده يتردد في شعر الجاهليين الأوائل، فهذا على سبيل المثال دويد ابن زيد القضاعي، يقول وهو من شعراء القرن الثالث قبل الإسلام، وهذا ينقض ما يقال عامة الأدباء من أن عمر الشعر الجاهلي مائة وخمسون عاماً قبل الإسلام، يقول دويد:
اليوم يُبنى لدويد بيته
لو كان للدهر بِلَىً أبليته
أو كان قرنى واحداً كفيته
يا رُبَّ نهب صالحٍ حويته
ومعصمٍ موشَّمٍ لويته
 
والشاعر يعني ببيته هنا قبره، فهو البيت الوحيد الذي يمتلكه الإنسان ويسكنه، ثم يأتي طرفة ويقول:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
 
فهذا وغيره كما يقول أيضاً الدكتور الجراري يدل على أن العرب في جاهليتهم عرفوا الكتابة واستخدموها في كثير من الشؤون، بل كتبوا بها بعض الأنساب والأخبار، ففي القرآن الكريم: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ.
ثم يقول الدكتور الجراري أما قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ فمعناه يكونوا أميين من ناحية الدين أو معناه العرب كما عند غير قليل من علماء اللغة أو غير اليهود بصفة عامة، على اعتبار أن الكلمة في الأصل نسبة إلى أمة وأن لفظ الجمع أمم كان ترجمة أو تحويراً لـ (قوييم) وهو الاسم الذي كان يطلقه اليهود على غيرهم من الأمم والشعوب، وأنا أؤيد الدكتور الجراري في هذا الرأي، فأُمِّيون اسم أطلقه اليهود على العرب، فقد جاء في القرآن الكريم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِيِنَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران، آية: 75)، وقد جاء في تفسير ابن كثير: "ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا". وفي اللغة الإنجليزية نجد أن اليهود يطلقون على الأمم الأخرى كلمة (Gentile) وتعني عندهم وفقاً لقاموس وبستر -الأمم الأخرى غير اليهودية- وكل هذا يثبت أن العرب عرفوا الكتابة وأن كلمة الأميين لا تعني الجاهلين بالكتابة.
أما لماذا وصل إلينا الشعر العربي في أغلبه مروياً ولم يصل إلينا مكتوباً فذلك لأن العرب كانوا يثقون في الرواة أكثر من ثقتهم بالوراقين والمصحفين، ويكفي دليلاً على ذلك أن الأصفهاني صاحب الأغاني وهو من المتأخرين اعتمد في أخباره على الرواة ولم يعتمد على النصوص المكتوبة، على أن هذا مبحث آخر لا يتسع له المجال، هنا خاصة وأن الوقت قد انتهى كما أُمرت. شكراً.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :912  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 85
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.