(( كلمة صاحب الاثنينية سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على خير من تعلم وأعلمَ بالله عزّ وجلّ، وعلى آلِ بيته الكرام الطاهرين وأصحابه الغرِّ الميامين. |
الأساتذة الأفاضل: |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
يسعدني أن أرحب بكم أجمل ترحيب، وباسمكم جميعاً أحيي معالي ضيفنا الكريم الأستاذ الدكتور عباس بن عبد الله بن العباس الجراري، الذي تفضل علينا رغم شواغله الجمّة بتكبد مشاق السفر من المغرب الشقيق، ليسعدنا بهذا اللقاء الذي طالما استشرفته نفوسنا المتعطشة إلى لقاء الأحبة من كل أقطار المغرب العربي، فله الشكر أجزله على ما تفضل به من كرم نفس جُبِلَ عليه، والشيء من معدنه لا يُستغرب، فأسرته تضربُ في أعماق التأريخ علماً وفضلاً ونُبلاً ونبوغاً، ولها من شرف السيادة والقيادة والريادة ما يجعلها منتهى الفخر ومبتغى الظفر، ومع أن ضيفنا الكريم ظلَّ حفِياً بهذا الشرف الباذخ، إلا أنه صقل مواهبه المتعددة بالدراسة الجادة الدءوبة، فخرج إلى الدنيا نسيج وحده، فقد كانت طفولته إصغاءً في حضرة والده الشهيد المربي الفاضل عبد اللَّه الجراري، وشبابه نهلاً وعلاً من أعرق الجامعات العربية والغربية، وفتوة عطائه ورجولته في مجالي الدبلوماسية والتعليم الجامعي، ثم زبدة عطائه كرجل دولة، ومستشار لجلالة الملك محمد السادس. |
|
إن ضيفنا الكبير استطاع أن يبسط شخصيته المحببة إلى النفوس على امتداد المغرب الشقيق وكثير من الدول العربية والإسلامية والغربية، كما أن مؤلفاته العديدة التي غاص من خلالها في لُجة كثير من العلوم الإنسانية فكتب بتمكن الواثق من أدواته في مختلف ضروب الثقافة والأدب والفكر، وجمع بين الأصالة والمعاصرة، وكرَّس الكثير من جهده لخدمة الهوية الثقافية المغربية، وساهم في تأسيس كرسيِّ الأدب المغربي بالجامعة المغربية، كما ساهم في إنشاء الجامعة نفسها، بالإضافة إلى الدراسات التي كتبها عنه دارسون ونقّاد وباحثون كُثْر، كل ذلك جعل منه علماً مميزاً في أدبنا المعاصر.. والمتتبع لمؤلفات ضيفنا الكبير يجد أنها تنقسم إلى فئات أربع رئيسة: حاز (الأدب المغربي) على نصفها تقريباً، بينما تناول في النصف الآخر مواضيع أساسية هي: التراث، ثم الفكر الإسلامي، ثم الثقافة بصفة عامة، كما أن له مؤلفات في أدب الرسائل والشعر، ولعلَّ الكثيرين لا يعلمون أن ضيفنا له إبداعات شعرية بدأها في بواكير حياته، غير أنه كما يبدو سرعان ما حاد عنها ليولي معظم اهتمامه للأدب المغربي كما أسلفت، غير أن ولعه بالشعر ما انفك مؤثراً على ميوله في الدراسات التي أثرى بها المكتبة العربية حول الشعر المغربي. |
|
ولمعالي ضيفنا الكريم ديباجة أدبية قوية ناصعة العبارة، في سلاسة تشير إلى ثراء قاموسه الخاص الذي مكَّنه من ارتياد مواضيع شائكة، والخوض فيها متسلحاً بمراس طويل في حقل التدريس الجامعي، بالإضافة إلى المادة الغزيرة التي ترفد عطاءه باستمرار خاصة في إطار الدراسات التي أشرتُ إليها آنفاً، كما أن كتاباته تعكس اهتمامه بوصول الصوت المغربي إلى شقيقه المشرقي، ولعلَّ هذا التوجه الذي ظل يمثل هاجساً بالنسبة لعطائه وإبداعاته جعل عبارته ذات جرس موائم للأذن العربية المشرقية، فاستطاع أن يستقطب اهتمام كل من قرأ له، وأدرك أن هذا العالِم الفذ ما هو إلا موسوعة تمشي على قدمين، وذروة في سنام الأدب والفكر، له أسلوب مميز في التحليل والنقد، نهل من علوم العربية وآدابها، والدراسات الإسلامية وأصولها، والتراث وجذوره، ثم عرج على آداب الفرنسية ورشف رحيقها، وتمثل كل ذلك الزخم بعقلية منفتحة، ثم أفرز عطاءً نقياً شكَّل مساهمة فاعلة في مكتبتنا العربية. |
|
وإنني إذ أرحب بضيف هذه الأمسية لن أتمكن بحالٍ من الأحوال من الإحاطة ولو بنزر يسير عن مسيرته الظافرة وفكره ومنهجه، ولكني سأحاول فتح نوافذ محدودة نطل من خلالها على جوانب ذات خصوصية لصيقة بشخصية ضيفنا الكريم، وأولها يتعلق بصوته.. نعم صوته! فالصوت الذي اختاره جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني بإذن الله ليسجل له ثلاثة أجزاء من تفسير (التحرير والتنوير) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور وهي الأجزاء: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وأفردت له الإذاعة المغربية قاعة تسجيل خاصة لتلبية هذا التكليف الملكي، يدلنا هذا على وجود نوع من الإحساس المتفرد في الإلقاء لدى ضيفنا الكريم. |
|
ولا شك أنه مبرأٌ من لحن القول، وله قدرة فائقة في التحكم بطبقات صوته، وله قوة مغناطيسية جاذبة نحو متابعته دون ملل، أتصور تمكُّن معاليه من هذه الملكات الإبداعية في مجال القراءة الجهرية وإلا لما اختاره جلالته -رحمه الله- للقيام بهذا العمل الذي يتسم بخصوصية شديدة، وما أجمل أن يسمع الإنسان الصوت الذي يحبه في غسق الدُجى، أو هدأة السَحَر، أو وقت الخلو إلى النفس، ولندرك عظمة هذه الموهبة نتصور الكفاءات التي كان بإمكان جلالة المغفور له أن يكلفها بهذا الأمر الخاص، سواء من داخل المملكة المغربية أو مختلف الدول العربية والإسلامية، وهو الذي عُرِف بثقافته الواسعة وافتتانه باللغة العربية وآدابها. |
|
النافذة الثانية التي نطل منها على زاوية من شخصية ضيفنا الكريم هي زاوية الوفاء، فقد دأب والده العلامة الكبير على إقامة منتدى أسبوعياً يعقده بدارته عصر كل يوم جمعة، يجمع فيها نخبة من العلماء والأدباء وبعض أصدقائه وتلامذته وزُوَّاره وعارفي فضله يجمع فيها هؤلاء جميعاً، واستمرت تلك الندوة دون انقطاع منذ عام 1930م ولمدة نصف قرن تقريباً، وقد أسهم ذلك المنتدى إسهاماً وافراً في التاريخ الأدبي بالمغرب الشقيق، وقد حافظ ضيفنا الكريم على ذلك المنتدى العريق ليظل نبراساً يضيء الطريق وواحة ظليلة يلتقي حملة القلم والفكر في فينئها، بالإضافة إلى قيام ضيفنا الكبير بتنظيم ندوة يُطلق عليها (ندوة عبد الله الجراري)، وهي ندوة يعقدها لوالده في ذكرى وفاته، تُدارُ كل مرة حول موضوع يتصل بأحد اهتماماته الأدبية والتاريخية والثقافية، ثم يُصدِر أعمال تلك الندوة في حلقات، ويزيد على ذلك القيام بطباعة بعض مؤلفات والده المخطوطة ضمن سلسلة منشورات النادي الجراري، هذه الإضمامة من أعمال الوفاء قلَّ ما نراها في زمن الجحود والعقوق، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها في ميزان حسناته، سعيداً باقتراح المؤاخاة بين الاثنينية والنادي الجراري، تمتيناً لأواصر المحبة والصداقة والمودة والإخاء التي تربط بين الأدب المغربي وأصوله وجذوره التي تعود إلى جزيرة العرب. |
|
ونافذة ثالثة تقودنا إلى عالم جماليات الروح، حيث نجد ضيفنا الكبير محباً للموسيقى والموشحات الأندلسية، ليس من ناحية التذوق الفني فحسب بل كناقد ودارس متفهم بعمق لأصول ذلك الفن الرفيع، وله إسهامات كثيرة في هذا الباب تؤكد علوَّ كعبه وإحاطته بتفاصيل ودقائق هذا الفن الجميل، مع تشريحه الفني للنصوص الشعرية الراقية ذات الإيقاعات التي تتفاعل مع النفس الإنسانية في فطرتها الطبيعية، وإسقاط الموسيقى على النص الشعري بما يُنبئ عن تمكنه من أدواته وامتلاكه للحس الفني المرهف الذي يؤهله للإبداع في هذا المجال. |
|
وإذا استرسلت في فتح النوافذ نحو عوالم أستاذنا الكريم فلا أستغرب رؤيته وهو ينهض بأداء خطبتي الجمعة ثم إمامة المصلين، فقد عيَّنه جلالة الملك الحسن الثاني خطيباً بمسجد (للاّسَكينة) في أواخر رمضان عام 1409هـ، وقد اتسمت خطبه بالتجديد واللون الأدبي المتطور الذي خرج بها عن نمطية التناول السابقة، كما نحا إلى التجديد في مضامين خطبتي الجمعة وضمنها العديد من الموضوعات الحية والقضايا المعاصرة فجمع من خلالها بين المعطيات الدينية والواقع المعاش، مما أكسبها زخماً جديداً وساهم في إثراء وإحياء رسالة المسجد كمنبر تنويري له تأثير فاعل في الحياة الاجتماعية اليومية. |
|
لقد أثبتت الأيام أن ضيفنا الكبير أمة في رجل، وإذا لم تسعد الظروف بعضنا بالتعرف عن كثب على معاليه خلال السنوات الماضية، فما أجمل أن نتمسك بوشائج العلاقة الحميمة التي نمت وازدهرت بلقائه الذي زانه بأدبه ولطفه وكريم خصاله، متطلعاً إلى لقاء يجمعنا كل موسم من مواسم الاثنينية القادمة بمشيئة الله بأحد رواد النهضة الأدبية المغربية الشقيقة، وهذا عهد بدأناه الآن، ولله الحمد بتكريم عميد الأدب العربي في ذلك البلد الحبيب، الذي يشكِّل ثغراً يرابط به المجاهدون في سبيل لغة القرآن الكريم، فلهم منا كل الإعزاز والتقدير والتكريم، متمنياً لكم أمسية ندية متشحة بألوان الطيف التي يتمتع بها ضيفنا الكبير. |
|
ويسعدنا أن نلتقي الاثنينية القادمة للاحتفاء بالأخ الأديب المعروف الأستاذ عابد خزندار، الذي عرفناه قلماً مُترعاً بالعطاء، وفكراً مستنيراً، وثقافة واسعة، وكما أردد دائماً فإن الاثنينية منكم وبكم وإليكم، وليس لها رقاع دعوة، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبكل من يتعامل مع الكلمة، واسمحوا لي أن أختتم كلمتي مذكراً الأساتذة الأفاضل الذين يثرون أمسياتنا بالمشاركة بكلماتهم الماتعة أن تكون فضلاً في صميم المواضيع التي تتعلق بضيف الأمسية، ومختصرة قدر الإمكان، لأن بعض روّاد الاثنينية يأتون من مكة المكرمة فيصعب عليهم العودة في وقت متأخر من الليل، وقد أبدى بعضهم ضجره من طول الأمسية، واضطر بعضهم لمغادرة الحفل قبل أن ينتهي، ولا شك أنكم تقدرون هذا كما أقدره، لأني لا أملك في هذا المنتدى غير المقعد الذي أقتعده بينكم. |
|
كما آمل منكم التكرم بالحضور المبكر حتى نبدأ ونختم أمسيتنا في وقت مبكر أيضاً، وأخيراً أدعو كل من له علاقة وطيدة بشخصية يرى تكريمها من داخل أو خارج المملكة، خاصة من الدول العربية والإسلامية أن يتفضل مشكوراً بتزويد سكرتارية الاثنينية بنسخة من السيرة الذاتية للمحتفى به، وعنوانه بما فيه الهاتف والفاكس، مما يُهيئ السبيل لدراسة ملف المكرمين قبل وقت كاف، ومن ثم التشرف بالاتصال بهم وعمل الترتيبات اللازمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|
|