شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الأستاذ الكاتب والمفكر الأستاذ عابد خزندار ))
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم أعن وساعد، ربِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وبعد:
يقال أن شهادة الابن مجروحة في ميزان القضاء والأحكام، ولكنها راجحة في معيار المعرفة والشهادة التاريخية، فهل هناك من يعرف الأب خيراً من ابنه؟ فهو أي الأب الذي أنبته وأنشأه ورعاه طفلاً في المهد ويافعاً يتلقى العلم، وشاباً يسعى في مناكب الأرض، وأحياناً كما في حالتي وحال أخوتي شيخاً يشعر أنه ما زال في حاجة إلى حب الوالد ودعائه ونصرته، وأنه مهما بلغ من شأوٍ في المجتمع، ورفعة بين الناس فإنه لن يبلغ شأو أبيه، ولا يرقى إلى مراقيه، ولا يسمو إلى مدارجه، إلا إذا كان الوالد راضياً ومباركاً لخطواته، وحفياً بنجاحه، والابن قد لا يعتد برضاء الناس حتى لو كان غاية يسهل إدراكها ولكنه حريص كل الحرص على أن يفوز برضاء الوالد حتى لو كلفه ذلك خرط القتاد ووعثاء المسير، والابن حين ينجح في الوصول إلى غاية من الغايات فإن أول ما يتطلع إليه هو فرح الوالد لفرحه، واحتفاؤه به، والابن كالبذرة تذوي وتصوِّح وتضمر إذا لم تجد التربة الطيبة والمنبت الكريم، وفي المقابل تهتز وتربو وتتجذر ثم تخترق الأرض وتتسامى إلى السماء إذا وجدت البيئة الصالحة والثرى الطيب والهواء النقي والمناخ الملائم والرواء المعين، وهذا ما وجدته ووعيت عليه حين تفتحت عيني للحياة، وقد تمثلت هذه البيئة الصالحة في الحب الذي يفعم به الوالد حياة كل من يحيط به ويعيش في كنفه، فهناك أولاً حبه لوالدته وولائه لها، وحبه لزوجته، ثم حبه لأخوته، ورعايته لهم فكان لهم الأب الذي فقدوه وهم صغار، ثم أخيراً حبه لنا نحن أبناؤه، وهو حب لا تسعه الدنيا على رحابتها وسعتها، حب تمثل في السهر علينا حين نمرض وكان يمرض لمرضنا بل وأكثر من مرضنا، وكنا نتمنى أن نشفى لا كي ننعم بالشفاء بل لكي يشفى قبلنا، ثم كان يجوع لننعم نحن بالشبع، ولن أنسى يوماً اختلست فيه السمع وهو يخاطب والدتي حين سألته عمّا إذا كان يريد منها أن تحضر غذاءه فقال لها إغرفي للأولاد أولاً وبعد ذلك نأكل أنا وأنت أي شيء، وكانت تلك أيام جوع ومسغبة.
كانت الحرب الثانية في أوج ضرامها، وكانت رحاها تطحن العالم طحناً، وكانت وقودها الناس والحجارة، فلم تُبقِ على الأخضر واليابس ولم يسلم من شررها ولظاها أحد. حتى نحن سكان هذا البلد فقد انقطع الحجيج عنا، وانقطعت سبل الاتصال والرزق بيننا وبين العالم، وكانت مؤنتنا اليومية لا تزيد عن قريصات من الخبز الأسود توزعها الحكومة عن طريق عُمدة الحارة نخلطها صباحاً بالقليل من الشاي الذي يوزعه علينا التموين مع السكر الأحمر ونخلطها في الضحى بشيء من الماء والبصل وهو ما كان يسمى (بفتة الهواء)، كانت الحياة قاسية وضروساً ولكن حنان الوالد وحبه جعلنا لا نشعر في أي يوم من أيامها بقسوتها وضراوتها.
واليوم وأنا أتذكر تلك الأيام أشعر أنني أريد أن أنهال على يده لأقبلها عرفاناً لجميله واعترافاً بفضله وخافضاً جناح الذل والمسكنة له، وأنا لا أريد أن أغمط حق الوالدة الشريفة (هيا عبد الحميد عنقاوي) رحمها الله، فهي أيضاً قد غذتنا بغذاء المحبة وروتنا بروائها، وقصارى ما يمكن أن يقال عن الوالدين هو ما قاله شوقي في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فإذا رَحِمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا كانت البيئة التي نشأت فيها قد أُشبِعت بالحب، فإنها أيضاً قد أينعت بالأدب، وحينما فتَّحت عيني على الحياة وجدت أن الكتب والمجلات تحيط بي من كل جانب وكانت الكتب في تلك الأيام عملة نادرة، ولكن بيتنا كان غنياً بها خاصة وأنه بجانب كتب أبي كانت هناك كتب عمي حسين، وهو من أدباء الرعيل الثاني في الحجاز وله مقالات منشورة في كتاب "وحي الصحراء" الذي أشرف على جمعه وتبويبه ونشره الأستاذان عبد الله بلخير، ومحمد سعيد خوجه، وكان صدور هذا الكتاب في تلك الأيام حدثاً هاماً ومنعطفاً تاريخياً في مسيرة الحركة الأدبية في الحجاز، وقد عكفت على قراءته أنا وصديقي جميل ششه -رحمه الله- غير مرة، وكان الذي يحثنا على قراءته أن يعبر عن وعي جديد والوعي هو بداية التاريخ، فالتاريخ ليس حروباً ومعارك وسيرة دول، وإنما التاريخ هو إحساس أمة ما بشخصيتها المتميزة ورسالتها في الحياة ووعيها بما تفرضه عليها هذه الرسالة من أعباء ومهمات وغايات، وسعيها بكل حماس واندفاع في تحقيق هذه الغايات، ولهذا لم يكن أدباء الرعيل الأول ومنهم: محمد سرور الصبان، وأحمد إبراهيم الغزاوي، ومحمد عمر عرب، ومحمد حسن عواد، وحمزة شحاته، منعزلين في برج عاجي أو مثقفي صالونات كما يقال عن مثقفي هذه الأيام، بل خاضوا غمار الحياة من حولهم وأسهموا في خدمة المجتمع وساعدهم على ذلك المراكز الكبيرة التي تولاها بعضهم، وجاء الرعيل الثاني من بعدهم كمحمد عمر توفيق، وحسين عرب، ومحمد سعيد عبد المقصود خوجه، وعبد الله بلخير، وحسن كتبي ومحمد حسن فقي وحسين خزندار وبالطبع والدي محمد علي خزندار، وهو وإن لم يكن له نتاج أدبي إلا أنه كان واحداً من مؤسسي الوعي الجديد الذين أخلصوا في تحويله إلى مشروع بناء أمة، ولم يكن ذلك بالأمر السهل في تلك الأيام التي سبقت الحرب العالمية الثانية وأعقبتها، فلم تكن هناك أي بنية تحتية وكان الانتقال من مكان إلى مكان آخر في المملكة لا يختلف عن الرحلات التي وصفها ابن بطوطة وكان على والدي الذي كان يعمل مديراً لمكتب عبد الله السليمان المتنقل أن يقضي جزءاً من كل عام في الخرج التي لم تكن فيها أي وسائل للعيش المريح والسكن المناسب، فكانت حياته فيها شظفاً ومعاناة، ولكنه تحمل ذلك بصبر وإصرار وإحساس بالسعادة يغمره ويشعره بأنه يؤدي واجباً وطنياً، وهذا أي حب الوطن هو الشيء الثالث الذي تعلمته من والدي بعد الحب وعشق الأدب.
وحب الوطن لا يعني الإخلاص له والتفاني في خدمته، بل يعني أيضاً التضحية والصبر على الأذى الذي لا يسلم منه أي مواطن حقيقي، وهو ما تعرض الوالد له وما تعرضت له أيضاً، ولكننا نحتسب كل ذلك عند الله وعند الوطن وعند التاريخ، ونحن لم نكن في أي يوم من الأيام من الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية العاشرة من سورة العنكبوت: وَمِنَ النَّاسِ مَن يقُولُ أمَنَّا باللهِ فَإِذَا أُوذِيَ في اللِّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلئِن جاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ ليَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما في صُدُورِ العَالَمِينَ.
وهو الآن بعد أن أدى الرسالة وقام بالواجب يتطلَّع إلى لقاء ربه والمؤمن يجب أن يتطلع إلى لقاء ربه في كل لحظة من لحظات حياته بنفس راضية وقلب مطمئن وضمير نقي وروح مفعمة بالإيمان وآخر دعواه: رَبِ قد ءَاتيْتَني مِنَ المُلْكِ وَعلَّمْتَني مِن تأويلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ أنتَ وَلِيِّ في الدُّنيا وَالأَخِرَة ِتوفَّنَي مُسْلِماً وألحقني بالصَّالِحِينَ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد المقصود خوجه: الله يحسن إليك، الله يحسن إليك.
عريف الحفل: هل توافقوني الرأي بأن من الصعب جداً أن يتحدث الابن عن أبيه، يبدو لي أن الدموع دائماً تسبق هذه الكلمات، أمد الله في عمر الأب والابن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :668  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 191 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.