(( كلمة صاحب الاثنينية سعادة |
الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله على آلائه ونعمه التي بصرَّنا بها في محكم التنزيل بقوله: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا. والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم أنبيائه وحبيبه وصفيه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
الأخوان الأكارم.. الأساتذة الأفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
يسرني أن أرحبَ بكم في هذه الاثنينية التي نحتفي من خلالها بالأستاذ الفاضل الشيخ السيد محمد علي خزندار، وقد شهد في صباه الباكر البدايات التي قام عليها هذا الكيان الكبير، لذلك يسعدني أن أقفَ معه في لقطاتٍ سريعة تعود بذاكرتنا إلى العبق المكي الأصيل الذي عُرِفَتْ به المدينة المقدسة وعُرِفَ بها. |
مكة المكرمة في منتصف القرن الهجري الرابع عشر كانت حالمة بين شعوبها ووديانها، تمور بالحياة والضجيج خلال موسم الحج، ثم لا تلبث أن تعود إلى وتيرة حياتها الهادئة الوديعة، فأم القرى تدورُ كلها حول مركزها ومركزِ الأرض (الكعبة المشرفة)، يبدأ يومها بآذان الفجر النقي الندي ينسابُ إلى كلِّ المنازل عبرَ النوافذِ المشرعة لنسماتِ السحر، ثم يبدأ اليوم لمئات الأطفال بالتوجه نحو الكتاتيب التي كانت تشرف عليها بعض النساء الفاضلات، وتلك من الحِكَم البسيطة التي اهتدى لها الناس بالفطرة، حيث يكون الطفل في تلك المرحلة المبكرة أقرب إلى حنان الأم وبيئة المنزل، فكانت الفقيهات يَقُمن بهذا الدور على أكمل وجه، والدليل على ذلك أنه كان بمكة المكرمة ـ وقد ذكرت ذلك سابقاً في موقف من المواقف على ما أذكر - كان في مكة المكرمة وحدها في القرن السابع الهجري أكثر من مائتين وخمسين عالمةً وفقيهة اشتغلن بشتى العلوم الفقهية والتدريسية، وقد كان ضيفنا الكبير من ضمن أولئك التلاميذ الصغار الذين استفادوا من تلك الحلقات التعليمية الباكرة. |
أما التعليم النظامي فقد كان محصوراً في مدارسَ قليلةٍ أهمها مدرسة (المسعى) التي سمُيّتْ فيما بعد كما ذكر عريفُ الحفلِ المدرسة (الرحمانية) وكانت تُعرَفُ آنذاك بمدرسة (الخياط) أيضاً، والمدرسة (الصولتية) التي تعتبر أوّل مدرسة نظامية في مكة المكرمة أنشأتها السيدة/ صولة النساء من الهند، عام 1290 من الهجرة، وعَهِدتْ بإدارتها إلى مؤسسها الشيخ (رحمت الله)، وتعهدها من بعده أبناؤه المشايخ محمد سعيد ثم محمد سليم ثم مسعود -رحمهم الله- ويقوم الآن حفيد الشيخ ماجد بإدارتها - أمد الله في عمره، وقد تخرج من هذه المدرسة أكثر قضاة مكة المكرمة وعلمائها، كما كانت توجد المدرسة (الفخرية) التي أنشئت عام 1298 من الهجرة، بالإضافة إلى ذلك قامت مدرسة (الفلاح) بفرعيها حيث أسسها الحاج محمد علي زينل (رحمه الله) في جدة سنة 1323هـ، وفي مكة المكرمة سنة 1330هـ وفي مجال التعليم غير النظامي يوجد كُتَّاب الشيخ إبراهيم الخلوصي الذي كان يُركِّز على تعليم الخط والحساب، ونسيت أن هناك كانت مدرسة في الشبيكة تسمى (الماحي) أنشأها السيد أمين الماحي. |
أما حلقات الحرم المكي الشريف وحصاواه كانت غاصةً بالطلاب والمستفيدين من علوم الفقهِ والتفسيرِ والبلاغةِ والنحوِ والصرفِ وغيرها. كانت المدارس تُعنى عناية كبيرة بالنواحي التثقيفية وتساعد الطلاب البارزين على تنمية مواهبهم خاصة في مجال الخطابة وإلقاء الشعر، وكان فارسُ أمسيتنا يقوم خطيباً عن تلاميذ مدرسته في كل المناسبات، وبالتأكيد لم تكنْ أوقاتِ الفراغ العريضِ تجدْ ما يسدها غير الاطلاع الحر في الكتب والمجلات التي كانت تصل لماماً من بعض الدول المجاورة، ولعلَّ أبناءَ ذلك الجيل يترحمونَ على أيام كان الكتاب يتم تداوله بين عشرات الأيدي الصغيرة والعيون التي يشع منها ظمأ المعرفة وبريق الذكاء. |
تقودنا هذه الصورة إلى ما يسمى بالرجولة المبكرة، يخيل للكثيرين أن الطفولة كانت مرحلة تمر كالطيف في حياتنا، وسرعان ما يجد الطفل نفسه في رجولة مبكرة تستوعب طاقته وتوجهها للاستثمار في عمل اقتصادي يفيدُ الأسرةَ ويساهمُ في سد مصروفها، سيما وأن السلم التعليمي كان محدوداً للغاية ولا يُتاح لغالبية الطلاب إكمال دراستهم العليا خارج محيط بيئتهم المحدودة، لذلك نجد معظم الصبيان يتوجهون للعمل مع آبائهم وإخوانهم أو أقاربهم لاكتساب حرفة، وكمْ طرقَ أسماعنَا المثلُ الشعبي الشهير (صنعة أبوك لا يسبقوك) وكانت بعض العائلات الشهيرة في مكةَ تأخذ لقبها من حرفة مؤسسها مثل السقا، والخياط، والنجار، والخوجه، والعطار، والفقيه وغيرها... وهكذا وجدنا ضيفَنا الكبير يدخل عالم الوظيفة وهو في السابعة من عمره المديد إن شاء الله، ويعتبره المجتمع رجلاً يتحمل كامل المسؤولية، وهناك من عاركتهم الحياة وهم أصغر منه بكثير، حيث كانت الطفولة لمحة، والشباب الغض هو وقود الحياة وسند الأسرة.. ولم يكن العملُ مجالاً للقفز نحو الرفاهية والعبث وتبديد النقود، بل مسؤولية حقيقية تجسدها إرادة الأب وشخصية الأم والفهم الجمعي النابع من قيم المجتمع. |
وبمجرد الحصول على الوظيفة أو العمل في الخط المهني للأسرة يسعى الشاب لتكوين شخصيته الخاصة ويحاول اكتساب المزيد من الخبرات ويوسع مداركه، والجميل في الأمر أنْ يظلَ الباب مفتوحاً لطلب العلم من خلال الحرم المكي الشريف الذي يشكل جامعة مفتوحة لكل الأعمار تقريباً، حيث يجد طالبُ العلم ضالّتَه في الحلقة التي ترضي طموحه، وعلى يديْ الشيخ الذي يحب طريقته في التدريس ويتابع معه التحصيل إلى أقصى مدى ممكن، ثم ينتقل إلى حلقة أخرى... وهكذا دون كلل أو ملل، ودون أن يتعارض ذلك مع ساعات عمله أو أسلوبه في كسب العيش، ورغم ضيق فرص العمل، إلا أن نسبة التعليم نفسها كانت ضئيلة، لذلك بقليلٍ من الجهد يستطيعُ المتعلمُ أنْ يحصلَ على وظيفةٍ مناسبة، ولا يقف الطموح عند درجة محددة، بل يستطيع المجتهد أن يسعى للحصول على وظيفة أفضل بدخل أحسن، لذلك نرى تقلب كثير من البارزين في عدد غير قليل من الوظائف لأن كلَّ إدارةٍ تحاول استقطابهم للعمل لديها وإغرائهم مادياً أو اجتماعياً للعمل تحت مظلتها وبالتالي الاستفادة من خبراتهم السابقة.. ولم يكن ضيفُ أمسيتِنا بدعاً في ذلك، إذ تقلب في عدةِ وظائفَ إلى أن استقر في وزارة المالية لمدة ربع قرن. |
لم يكن السفر في تلك الأيام متاحاً لكثير من موظفي الدولة ناهيك عن العاملين في القطاع الخاص، أو أوساط التجار والحرفيين، فكانت فرصة مواتية لضيفنا الكبير لكي يرى العالم من خلال عمله في المكتب الخاص لمعالي وزير المالية، سيما وقد نال ترقية وضعته في وظيفة رئيس مكتب تنقلات معالي الوزير فتمكن من السفر إلى فرنسا، وإنجلترا، وأمريكا، في معية سمو الأمير مشعل بن عبد العزيز الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في ذلك الوقتِ، ثم سافرَ إلى مصر والأردن والهند وباكستان، ولاشك أنها فرصةً نادرة لدراسة ومقارنة الحياة والتقاليد السائدة آنذاك، عندما كان للقمر ضياء.. وللنجم اتجاه. |
الأخوان الأفاضل: |
نلتقي هذه الأمسية لنحيي (شاهد عصر) عاصر بدايات التعليم، وإرهاصات العمل الحكومي، وصعد السلم الوظيفي خطوة.. خطوة، حتى شارف عتباته الأخيرة، أدى واجبه في تفان وإخلاص وحب ونكران ذات، وكلها صفات لم تكن غريبة عن رجالات ذاك الزمن البهي. |
لا أعتقد أن لكلمة التقاعد أي مكان في قاموس هؤلاء النفر الأفاضل ومن بينهم ضيفنا المحتفى به، فعندما ترجل عن صهوة الوظيفة الحكومية اتجه فوراً إلى نشاط طالما حلم به وأحبه، فدخل شريكاً بالثلث في مكتبة معروفة آنذاك في شارع الملك عبد العزيز بجدة كان يملكها أحد الأخوة اللبنانيين من عائلة "دبوس" الكريمة، وبعد فترة استخلص المكتبة بالكامل لنفسه وجعلها متنفساً وجسراً للتواصل مع الخارج في مجال بيع الكتب والمجلات بعد أن كانت معظم المكتبات تعمل في مجال القرطاسية والاحتياجات المكتبية واحتياجات الطلاب، واستطاع أن يضع بصمته في هذا العمل، وأنشأ مؤسسة "الخزندار" التي حققت نجاحاً كبيراً بكل المقاييس، وواصلت تطورها لتصبح فيما بعد (شركة الخزندار للتوزيع والخدمات الطبية) لينظر ضيفنا الكبير من خلالها للمجهود الذي بذله عبر سني عمره المديد بإذن الله، ويرى في منظومتها ونجاح أبنائه في إدارتها امتداداً لعطائه وبنائه الشامخ الذي وضع لبناته الأولى قبل أكثر من سبعين عاماً، والأهم من ذلك أنه استطاع ببعد نظره أن يعلم أبناءه وبناته لأرقى المستويات الممكنة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمتعه بالصحة والعافية ويجعل ما قدمه لخدمة وطنه ومواطنيه في ميزان حسناته، ويوفق أبناءه لمواصلة المسيرة، مع أمنياتي لكم بأمسية مانعة في صحبة ضيفنا الكبير. |
ضيف الاثنينية القادم سعادة الأستاذ الكبير عبد الكريم الجهيمان، الأديب والشاعر والكاتب الصحفي المعروف، فأهلاً وسهلاً ومرحبا بكم وبكل محبي الحرف على بساط الوفاء والمحبة والإخاء، وأكرر أنْ لا دعوة في الاثنينية وأنها مفتوحة لكل من يتعامل مع الكلمة والحرف، فأهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وأتمنى لكم أمسية طيبة مع ضيفنا الكريم. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
عريف الحفل: كما هو معلوم لكثير من الحضور فإننا نتلقى الأسئلة واستفسارات الحضور بعد أن تُعْطَى الكلمة لفارس الاثنينية، نتمنى أن يكون سؤالا واحداً حتى نعطي الفرصة لعدد كبير من حضراتكم. |
|