شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الأديب الصحفي والكاتب الأستاذ سليم نصار
فارس إثنينية هذا الأسبوع ))
أصحاب السعادة، السادة الأفاضل، ضيوف الاثنينية الكرام، أسعدتم مساء، أود أولاً أن أشكر للحاضرين، الأفاضل مشاركتهم في هذا اللقاء الذي أعتبره تكريماً لصناعة الكلمة في ندوة تذكرنا بالصالونات الأدبية التي أثرت الحياة الثقافية بعطاءات الأفكار المتجددة، مثل صالون مدام ريكامييه في باريس، ومي زيادة، وعباس العقاد في القاهرة، والندوة اللبنانية في بيروت، كما أود أن أشكر مؤسس الاثنينية الصديق القديم الشيخ عبد المقصود خوجه، الذي أتاح لي فرصة اللقاء بمجموعة مختارة من أهل جدة، عروس البحر الأحمر التي رافقتُ نموها المتعاظم، وشهدت على تطورها المتواصل، وأحببتُ شواطئها النحاسية اللون وبياض منازلها المجففة بحرارة الشمس.
وكل الشكر على كلمات الثناء والمديح التي قيلت في هذه الأمسية على نحوٍ رَفَعَ كثيراً مستوى التوقعات بحيث بت أخشى ألا يكون حديثي في حجم الأوصاف التي أغدقها عليَّ المحبون من أمثال الشيخ عبد المقصود والدكتور عبد الله والأستاذ غالب والأستاذ مفتي.
وتحاشياً للسقوط في رتابة الأنماط المكررة، اخترت من دروس مهنة البحث عن المتاعب أحداثاً حية انطبعت صورها في ذاكرتي كمحطات ثابتة يصعب محوها أو تجاوزها، وبما أن هذه الأحداث المعبرة تحمل عظات عميقة ذات صلة بحياة الناس، آثرت في هذه الأمسية الاستثنائية مراجعة بعض فصولها لعل حفلنا الكريم يشارك في استخلاص العبر أثناء اطلاعه على الجوانب الخفية لبعض الحكّام والزعماء.
المحطة الأولى كانت في مكتبة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، داخل عمارة (فيدرال بلازا) في نيويورك لاحظت أنه غطى جدران المكتب بصور الزعماء والحكام الذين فاوضهم وحاورهم من أمثال: خروتشيف.. تشرشل.. بريجينيف.. ماوتسي تونغ.. ديغول.. شوان لاي.. الملك فيصل بن عبد العزيز.. نهرو.. الملك الحسن الثاني.. حافظ الأسد والملك حسين، وتصورت أن حالته المعنوية قد تتأثر بهذا الماضي المجيد عاشه واعتبره الدواء الناجع لشفاء نفسيته من مرض (ووترغيت). شخص واحد فقط رأيت صورته معلقة وسط مجموعة الشخصيات العالمية، علماً بأنه لا ينتمي إلى صفوفها. إنه الحاجب في قصر الضيافة السعودي في جدة، وقد ظهر مبتسماً فرحاً بلباسه المزخرف وسيفه المذهب وخنجره اليمني المعقوف.
لسبب أجهله حدد لي مساعده الخاص موعد المقابلة يوم السادس عشر من حزيران 1973، وهو يوم الاكتئاب والندم والتأمل بالنسبة للرئيس الأمريكي، ففي هذا التاريخ من عام 1973 اكتشف حرّاس الحزب الديمقراطي في مجمع (ووترغيت) في واشنطن خمسة رجال يحاولون التسلل إلى الداخل لسرقة مستندات الحزب، ولقد أدت اعترافاتهم إلى انفجار أزمة ثقة بين سيّد البيت الأبيض من جهة وبين الكونغرس والصحافة من جهة أخرى، انتهت بعد 783 يوماً إلى استقالة الرئيس في التاسع من آب (أغسطس) عام 1974. والسبب أن التحقيقات التي نشرها الصحفيان بوب وودورد وكارل برينشتاين أظهرت أن الحادث يتجاوز بأبعاده سرقة مكاتب الحزب الديمقراطي، بل هو في نتائجه السياسية أخطر على النظام من مختلف التجاوزات لأنه يحدد العلاقة بين مهمات الرئيس ومناقبية الممارسة، من هنا اعتُبرت محاولة السرقة بمعرفة نيكسون وموافقته خطيئة كبيرة لأضخم دينونة تعرض لها رئيس أميركي، لذلك قدّم استقالته وقرر الانسحاب والاعتزال والنفي الاختياري بعدما حطّمت فضيحة (ووترغيت) سمعته السياسية والشخصية، ودفعته إلى العيش وحيداً بحيث عُومل طوال السنوات الثلاث الأولى كمنبوذ يحظر الاقتراب منه، قال لي في وصف تلك المرحلة المظلمة من حياته المظلمة من حياته السياسية أن صاحب أحد المطاعم في منطقة (جورج تاون) اعتذر من عدم خدمته لأن الصحافي برنشتاين ألغى حجزه عندما اكتشف أن الرئيس المستقيل يتناول طعام العشاء مع زوجته في المكان ذاته، ووصف بصوت حزين كيف اضطر للانسحاب من المطعم تحت وابل من النظرات الشامتة المهينة.
وفي مناسبة أخرى روى لي أيضاً أن وكلاء إحدى العمارات في نيويورك رفضوا بيعه شقة بحجة أن السكان لم يوافقوا على وجوده معهم، وجاء في قرار تبرير الرفض أن المالكين يعتبرون مجاورته خطراً على حياتهم، وسبباً لانخفاض قيمة العمارة، سألته أثناء الحديث عن كيفية انبعاثه من المدفن السياسي العميق وكيف نجح في عملية رد الاعتبار لدوره السابق بحيث تحول من رئيس منبوذ إلى شخص آخر يفرض احترامه على المجتمع الذي طرده من سدة الحكم، أجاب من دون تردد أنه تعلّم درس الصبر والمثابرة من الزعيم الصيني ماوتسي تونغ الذي أثبت أن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة شرط أن يستعيد الإنسان إيمانه بنفسه ولو اضطر إلى السير وحيداً في صحراء الحياة الموحشة المقفرة، ووصف مرحلة ردّ الاعتبار بقوله: "لم أخرج من منفايَ الاختياري في "سان كليمانت" على شاطئ الباسيفيك إلا بعد استعداد نفسي دام أربع سنوات، وكانت إطلالتي الأولى على الناس عبر مذكرات مثيرة اعتبرها النقاد الأكثر رواجاً وشهرة، وفجأة فتحت أمامي هذه المحاولة كل الأبواب الموصدة وأعادتني إلى مسرح الأحداث والأضواء، ومنحتني أسباباً تخفيفية لمغفرة خطايا البيت الأبيض، وكان من نتيجة هذه القيامة أنني تلقيت سلسلة دعوات رسمية من حكومات سبع عشرة دولة قمت بزيارتها العام الماضي".
وعدت أسأل الرئيس نيكسون عن كيفية تجاوزه فضيحة (ووترغيت) وما إذا كان باستطاعة الكونغرس والشعب الأمريكي محوها من الذاكرة الجماعية؟ أجاب بلهجة الواثق: "يجب أن تعرف جيداً أن القادة العظماء الذين حوَّلوا مجرى التاريخ ليسوا بالضرورة أشخاصاً طيبين حسني السمعة والسيرة، قيصر روسيا بطرس الأكبر كان من أهم الإصلاحيين ولكنه في الوقت ذاته كان طاغية، ومثله كان يوليوس قيصر ونابليون وستالين وماوتسي تونغ، جميع هؤلاء نزلوا في الكتب كقادة تاريخيين غيَّروا مجرى الأحداث، أنا أجهل حتى الآن ماذا سيكتب المؤرخون عني، ولكني على ثقة بأنني أنا الذي اتخذت قرار سحب قواتنا من أوحال فيتنام. وأنا الذي دشَّنت انفتاح أميركا على الصين منهياً بذلك أربعة عقود من الكراهية والخلاف، وأنا الذي أرسيت دعائم الوفاق الدولي مع بريجينيف عام 1972. لهذه الأسباب وسواها قبلت التحدي ورفضت أن أنزل في كتب التاريخ كبطل فضيحة (ووترغيت)، بل كرئيس ساعد في هندسة الوفاق الدولي على أسس استفاد منها الرؤساء من بعدي ليعزّزوا دور الولايات المتحدة ومكانتها بحيث أصبحت الدولة العظمى الأولى في العالم".
كان هذا اللقاء بمثابة درس تعلمت منه أن الإنسان يستطيع الانتصار على المآسي شرط ألا يستسلم لضغوط الخوف واليأس. كما تعلمت أن الهروب من المشكلة يزيدها تعقيداً وأن التصدي لها هو أفضل وسائل الدفاع والحماية من العذاب المتواصل، ويقدم لنا هذا المثال الصارخ البرهان الساطع على أن الناس لا يحترمون إلا الذي يحترم نفسه، ولا يقدرون من البشر إلا الشخص الصبور المثابر والمحتفظ بمشاعر الكبرياء، إن قصة رد الاعتبار لرجل محطم مثل نيكسون ترمز إلى أمثولة نملة الإسكندر الذي حفزته بصبرها ومثابرتها على نقل حبة القمح إلى وكرها على استئناف القتال بعد أن اعتراه اليأس وكاد يستسلم.
المحطة الثانية كانت في هراري عاصمة زيمبابوي التي زرتها في ربيع 1984م بحثاً عن أجوبة محيرة لأسئلة تتعلق بمستقبل هذا البلد المتحرر حديثاً من وصاية الرجل الأبيض، ولقد شجعني على الزيارة عديل موغابي الغاني الأصل معتبراً أن مستقبل تجربة التعايش بين السود والبيض قد تؤثر على رسم الخريطة الديموغرافية للقارة الإفريقية، بدءاً بزيمبابوي وانتهاءً بدولة جنوب أفريقيا، التقيت الرئيس روبرت موغابي لمدة ثلاث ساعات تقريباً حدثني خلالها عن تاريخ وصول الرجل الأبيض إلى زيمبابوي بواسطة المستعمر البريطاني سيسل رودس عام 1890، وبعد مضي ثلاث سنوات قرر رودس تغيير اسم البلاد إلى روديسيا تيمناً باسمه ملغياً بذلك كل تاريخها السابق. وقال موغابي أن زعيم "الجبهة الجمهورية" إيان سميث ما زال يعبر عن مطلع الاستعمار بواسطة 250 ألف أبيض يتحكمون بأكثر من سبعة ملايين أسود وأخبرني أيضاً سميث الذي حكم قبله كرئيس وزراء مدة طويلة جداً أعلن عام 1965 تكريسي النظام العنصري كنظام أبدي.
وكان هذا الإعلان الاستفزازي بمثابة الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية خمس عشرة سنة فقدت البلاد خلالها أكثر من ثلاثين ألف شخص. واستوضحت الرئيس عما إذا كان يتضايق من إفساح المجال لمنافسه إيان سميث لكي يعبر عن وجهة نظر السكان البيض، وأخبرته أنني عازم على لقائه لأتعرف إلى وجهة نظر الفريق الآخر، يبدو أن سؤالي غير المتوقع أثار لدى موغابي بعض الذكريات المؤلمة بدليل أنه تخلى عن تحفظه وراح يروي أحداثاً ماضية كمعارض للنظام، قال إنه أمضى عشر سنوات في السجن خلال حكم إيان سميث وحدث ذات يوم أن زاره في المعتقل بصورة مفاجئة أحد أنسابه ليبلغه أن نجله الوحيد قد توفي بسبب تناوله مادة سامة تستخدم لإبادة الحشرات، وتقدم بطلب استرحام لرئيس الوزراء يرجوه السماح له بمغادرة الزنزانة برفقة حراسه لكي ينتقل إلى منزله ويلقي على وحيده نظرة الوداع الأخيرة، ثم يعود إلى السجن مخفوراً، عندما بلغ موغابي هذه الخلفية المحزنة تبدلت نبرة صوته واغرورقت عيناه بالدمع وهو يروي تفاصيل مأساته الشخصية ويقول: "أتعرف ماذا كان جواب إيان سميث؟ لقد رفض الاستجابة لطلب الاسترحام، ولما بلغني النبأ طلبت من رفاقي في الحزب القيام بوساطة مع زعماء دول عدم الانحياز لأنني كنت مناصراً لهم، وأبرق تيتو ونهرو وعبد الناصر لإيان سميث يتمنون عليه السماح لي بمغادرة المعتقل ولو نصف ساعة، ولكن وساطة الزعماء لم تنفع وظل رئيس الوزراء مصراً على قرار الرفض ثم دُفن ابني دون أن أراه، ترى لو كنت أنت في موقعي الآن وأصبحت رئيساً مكانه وحصلت على السلطة والنفوذ والدعم الشعبي الذي أنهى الحكم العنصري كيف سيكون تصرفك تجاه إيان سميث؟ أجبت بنبرة سخط لشدة ما تأثرتُ بالواقعة أقطع رأسه فوراً، علّق موغابي على جوابي بهدوء أعصاب فقال: لا يستطيع الحاكم أن يكره ويحب مثل سائر الناس، يجب عليه أن يتعالى عن الأحقاد والضغائن حتى لو كانت في حجم أحقاد الثأر، والدليل أنني تركتْ إيان سميث يقود المعارضة في مجلس النواب، وينتقد أداء الحكومة بين العواطف الشخصية والمواقف الوطنية لأن هذا التداخل يقود إلى اهتزاز موازين العدالة بحيث لا يعرف الحاكم أين تبدأ سلطته الخاصة وأين ينتهي نفوذه الرسمي، هذه الحادثة المؤثرة علمتني درساً مفيداً حاولت أن أطبقه أثناء ممارسة مهنة الصحافة بطريقة تفصل الأهواء الشخصية عن سلطة الكلمة، وتمنع التداخل بين العلاقات الاجتماعية والأداء السياسي.
بعد انقضاء عشرين سنة على الاستقلال زيمبابوي وتولي موغابي دفة الحكم يبدو أن الأقلية البيضاء التي انخفض عددها إلى سبعين ألف نسمة أصبحت متهمة بعرقلة عجلة الإصلاح الاقتصادي وتعطيل برنامج الحزب الواحد، ومن المؤكد أن تلك البلاد تمر حالياً في مرحلة مخاض سياسي عنيف يصعب التنبؤ بنتائجه خصوصاً وأن المعارضة تتهم الرئيس بتزوير الانتخابات، وباستغلال السلطة لصالح بقائه في الحكم، وبغض النظر عما تحمله التفاعلات الداخلية المرتقبة، فإن تعاطي روبرت موغابي مع غريمه السياسي إيان سميث يعبّر عن سلوك قيّم يمكن أن يكون قد أفسدته مدة الحكم الطويل.
المحطة الثالثة كانت في طوكيو، مدينة الأنوار الملونة، وأندية (القيشا) وعاصمة آسيا الصناعية. حدث هذا في مطلع ربيع 1974م، أي في موسم فوران الطبيعة وتدفق الناس فوق أرصفة الشوارع، وداخل الحدائق العامة، وكما يتباهى الألمان بسياراتهم المتطورة ومصانعهم الحديثة، وطرقاتهم العريضة، كذلك يفاخر اليابانيون بأنهم ينافسون حتى الولايات المتحدة في مجالات الصناعة المتقدمة والأجهزة المعقدة والأبنية السامقة المقاومة للزلازل، وهكذا أمضيت الأسبوع من الرحلة بزيارات إلزامية متواصلة لأحدث مصانع السيارات وأجهزة التلفزيون والراديو، وفوجئت ذات صباح وأنا أتصفح جريدة (الهرالد تريبيون) بخير مثير خلاصته أن فرقة من الكشاف عثرت بالصدفة على جندي ياباني ظل مختبئاً وسط أدغال جزيرة (غوام) مدة 29 سنة، وذكرت الصحيفة أن الطيّار (شيرو أونودا) لم يعرف أن الحرب قد انتهت، لذلك ظل متوارياً عن الأنظار طوال هذه المدة. ووصفت كيف كان يعيش على الفواكه وصيد الأسماك والقريدس، وأنه بنى لنفسه كوخاً من أعواد الخيزران تماماً مثلما فعل روبنسون كروزو في الرواية الشهيرة، ونشرت الصحيفة صورته في المستشفى حيث يخضع لمعاينة الأطباء، ولعملية إعادة تأهيل طويل الأمد.
شدتني هذه الحادثة الطريفة، فقررت القيام بزيارة المستشفى برفقة مترجم حصل على إذن خاص للمقابلة، وفوجئت بوجود عشرات المصورين والصحافيين المنتشرين داخل المبنى حوله، بهدف الظفر بمزيد من الصور والأحاديث. لم تكن المقابلة سهلة لأن الخوف من الناس كان يتحكم بكل حركة من حركات (شيرو) التي تدل على اضطراب نفسي ظهر جلياً في عينيه المقززتين، كانت أسنانه السوداء بارزة من تحت شفتيه، وقد تقوقع بجسده الصغير على طرف السرير كأنه يطلب الحماية والوقاية. سألته عبر المترجم: هل صحيح أنك لم تعرف بأن الحرب قد انتهت؟ وهزّ رأسه بالنفي وأجاب: هذا هراء.. غير صحيح. أنا طيّار هبطت بالمظلة في الغابة بعد احتراق طائرتي الحربية، ومن المؤكد أنني علمت بانتهاء الحرب بعد أن شاهدت الطائرات المدنية وهي تمر في أجواء الجزيرة التي لجأت إليها.
وعدت أسأله باستغراب: ولماذا إذن لم ترجع، وتعلن أمام أهلك، وأمام المسؤولين في وزارة الحربية بأنك حي وموجود وغير مفقود؟ كان سؤالي أشبه بسلك كهربائي مسّ منه موجعاً فراح يضرب صدره بيمينه ويعوي بصوت منفر أشبه بصوت حيوان مذعور، وأعترف بأنني اضطربت وتخيلت أن سؤالي المحرج قد استفزه وأخرجه عن صوابه، وطمأنني المترجم بأن رد الفعل كان متوقعاً وطبيعياً من جندي انتظم في مجموعة (الكاميكاز)، أي المجموعة التي تَقْسِمُ باسم الإمبراطور بأن تنتصر أو تنتحر إذا هُزمت. ويبدو أنه جَبُنَ أمام فكرة الانتحار، لذلك نراه يعذب نفسه ويضرب صدره نادماً مستغفراً، وأخبرني أيضاً أن فرقة (الكاميكاز) التي ينتمي إليها الطيار نجحت في إغراق 34 بارجة أميركية وعطّلت أكثر من ثلاثمائة سفينة حربية لدول الحلفاء. وكلمة (كاميكاز) باللغة اليابانية تعني (الريح الإلهية) وهي تُنْسَبً إلى أعاصير موسمية حدثت عام 1281 ميلادية، وكانت سبباً في منع قبائل المغول من تهديد اليابان بغزوٍ ضارٍ من الجهة الغربية لأن الرياح أغرقت السفن المهاجمة، في ضوء هذه الحادثة التاريخية أنشئت فرقة خاصة في الطيران الياباني أطلق عليها اسم (فرقة الكاميكاز). وكانت مهمة طياريها محصورةً في عمليات انتحارية مُعدة لإلحاق الأذى بأسطول العدو، وعلى الطيار أن يكون مستعداً لقيادة طائرة محملة بالقنابل المتفجرة والمواد الملتهبة، ثم ينطلق بسرعة نحو الهدف بحيث ترتطم طائرته بظهر السفينة وتنفجر، وتعترف واشنطن بأن هذه العمليات كانت مؤذية جداً، خصوصاً تلك التي حدثت في خليج (لايت) وأثناء معركة (أوكيناوا) إذ بلغ عدد القتلى أكثر من خمسة آلاف بحار أمريكي.
ولما علمت بأسباب مأساة الطيار وبأنه يحاول التخلص من كوابيس الخوف والهلع، طلبت من المترجم أن يسأله ما إذا كان يعرف العالم العربي، أو أنه قرأ عن العالم العربي؟ ورد على سؤالي بإظهار علامات النفي والاستغراب، قلت عندئذٍ للمترجم: أرجو أن تطمئنه إلى صوابية سلوكه، وتخبره بأن أفضل علاج لأزمته النفسية سيجده في العالم العربي حيث يكتشف أن هناك آلافاً من أمثاله فضّلت عبارة (ألف مرة جبان) على عبارة (الله يرحمه).
هذا اللقاء العفوي غير المتوقع مع شخص أمضى نصف عمره تقريباً هارباً من نفسه.. معزولاً.. وحيداً في الأدغال المقفرة، يقدم للمواطن العربي أفضل الأمثلة على العناد الوطني الذي يشبه صلابة الإيمان، لذلك حمّل (شيرو) نفسه أوزار الخطيئة المميتة لأنه جبن وخان قسمه عندما رفض مقابلة الهزيمة بالانتحار، وقد لا يوافق الكثيرون على ممارسة عنف التطرف الواقع بين حدين: زهو الانتصار، أو بشاعة الانكسار، وإنما لا نستطيع إلا أن نحترم هذه العقلية التي تساوي الهزيمة بالموت، وتعتبر الفشل في الدفاع عن الوطن مماثلاً لمعاناة أزلية يصعب التغلب عليها، أو تخفيف إدانتها بخلاص النفس من أثقالها المرهقة، وهذا ما يتحلى به الفرد الياباني الذي يؤمن بأن تحقيق مهماته الوطنية جزء لا يتجزأ من تقاليده وواجباته وأخلاقه، ومع انعدام هذه العلاقة في العالم العربي مرت الهزائم المتواصلة بشكل نكسات طارئة أغرقت الوعي الوطني الجماعي في لُجّةِ التشرذم العقدي والإيديولوجيات المستوردة، الأمر الذي أنبت العنف الأصولي وولد الحركات المسلحة.
وكما أن زعماء العالم يختلفون في أداء الحكم والسلوك الاجتماعي، كذلك يختلف بعضهم عن بعض حول أساليب التعاطي مع الصحافيين بطريقة يعتقدون أنها تميزهم عن سائر الناس. زرت (موغاديشو) مع ثلاثة من الزملاء في وقت كانت المعارضة الصومالية تطل برأسها عبر بيانات سياسية لا تشكل في الحقيقة تهديداً قوياً للنظام، وكان الرئيس (سياد بري) قد حسم موقفه الدولي واختار الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة بعد معركة (أوغاين) مدشناً بذلك مرحلة الخروج من تحالفات الدول الأفريقية المرتبطة بالاتحاد السوفياتي، وظهر الصومال في حينه كدولة ذات شأن استراتيجي تتنافس على جذبها كل من واشنطن وموسكو بسبب أهمية موقعها على جانبي القرن الإفريقي، حدد سياد بري موعد اللقاء الساعة الواحدة، ولما سألنا مساعده عن التوقيت الدقيق للساعة الواحدة بعد الظهر.. أم بعد منتصف الليل، أجاب بأن الرئيس يفضل العمل في الليل والراحة في النهار، وهذا ما أكده لنا الرئيس أثناء المقابلة، مبرراً توجسه ومخاوفه من الليل بأنه قام بانقلابه العسكري تحت جنح الظلام، وبأنه لا يسمح لخصومه بتقليده.
بدأ حياته معنا بإعلان عتبه على الدول العربية لأنها لا تستثمر في بلاده الشاسعة، مكرراً على مسامعنا لازمة مفادها أن وزير دفاعه محمد سمنتر هو الوزير الوحيد بين وزراء دفاع الدول العربية الذي يستحق المفاخرة بأنه خاض حرباً وربحها، إنها حرب (أوغادين) التي وصفها الرئيس بأنها تمثل أعتى معارك التنازع على امتلاك أهم حقول "اليورانيوم" في كل إفريقيا، ثم أنحى باللائمة على الولايات المتحدة لأنها ألقت على عاتق دولته الصغيرة مهام دولة كبيرة، الأمر الذي يقود في رأيه إلى التمزق الأهلي.
ولما وصلنا في الحديث إلى منتصف المدة المحددة تقريباً، دخل علينا من باب القاعة شاب مستدير القامة، منفوخ البطن يحمل بيمينه عوداً كأنه قادم من حفلة موسيقية، ولما اتجه نحونا وقف الرئيس ليرحب به، ويقدمه لنا بأنه وديع الصافي الصومالي.. وبأن صوته المدوي يمكن أن يحطم الثريا. وتبادلنا نظرات الاستغراب لاعتقادنا بأن المطرب ربما يكون نسيباً للأسرة وإلا فما معنى وجوده في هذه الساعة المتأخرة من الليل داخل القصر؟ ولم تدم حيرتنا طويلاً لأن سياد بري كشف السر عن سبب استقدام المطرب (وأعذروني إذا لم أذكر اسمه لأنه غدا مطرباً شهيراً) فقال إنه يتضايق من الأحاديث الصحفية الطويلة والمملة. لذلك ابتكر أسلوباً لكسر الرتابة، يتمثل في دعوة مطرب ما تكون مهمته إذكاء نار الفضول وتغيير جو الحديث السياسي، عندئذ تنحنح المغني، ثم شكر الرئيس وراح "يدوزن" عوده ويسألنا عن أفضل خياراتنا لأغاني وديع الصافي قلت له: لماذا لا تستوحي من الليل اسم الأغنية ونختار "الليل يا ليلى يعاتبني.. ويقول لي سلم على ليلى". قبل أن أنهي جوابي، كان صوت يهدر في قاعة القصر، بينما انشغل الرئيس بتفحص وجوهنا للتأكد من استمتاعنا بالصوت الرخيم، وفجأة فُتح باب القاعة على مصراعيه واندفع منه سكان القصر والخدم وهم يرتدون المنامات ويتطلعون نحونا بذعر واستغراب، وطمأنهم حراس القصر إلى أن ما سمعوه ليس رعداً صوتياً خرج من النوافذ ليوقظهم ويقلق نومهم، وفور انتهاء الأغنية استعد المطرب لقذفنا بواحدة أخرى، عندما أشار له سياد بري بالسكوت مؤقتاً لإفساح المجال لنا لاستكمال المقابلة، قبل أن ينتقل الرئيس لاستئناف حديث السياسة، سألنا عن انطباعاتنا بالنسبة للأغنية التي طردت النعاس من أجفاننا، وتمنى أن يقلده سائر حكام العالم، قلت معلقاً على ملاحظته: يا ليت الرئيس الأمريكي يستفيد من هذه الفكرة الظريفة، ويعمل على إدخال مايكل جاكسون مثلاً في برامج لقاءاته مع الصحافة في البيت الأبيض.
انتهت المقابلة على خير عند الفجر، وعدت إلى الفندق مع زملائي لأكتشف أن المغني قد سبقنا إلى هناك، وقال أنه أعجب جداً بتجاوبي واستمتاعي بأغنية وديع الصافي، ولهذا يسمح لنفسه بأن يسألني القيام بمعروف بسيط، قلت: تفضل. قال: الأسبوع المقبل أنا مدعو للمشاركة في مباراة ستُقام في البحرين لاختيار أفضل أغنية لهذا العام وأتمنى عليك أن تنظم لي قصيدة خاصة بهذه المناسبة سوف ألحنها وأغنيها وأُعلن عن اسمك كمؤلف مُعد للشهرة مثل بيرم التونسي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي، وضحكت من طلبه واعتذرت منه مؤكداً له أنني أفضل أن أغادر الصومال صحفياً كما جئتها، لا شاعراً أو ملحناً أو مغنياً.
قبل أن أغادر (موغاديشو) حاولت أن أجد التفسير المنطقي لسلوك الرئيس سياد بري، وما إذا كان يتصرف دائماً على أساس مغاير للأعراف المتبعة في مثل هذه المواقع الرسمية، وعلمت بأنه ابتكر هذا النمط من التعامل مع الصحافة لكي يميز نفسه عن الحكام الآخرين أولاً ويعطي الانطباع بأنه رئيس شعبي ثانياً، وربما قاده خيار الرهان على الولايات المتحدة إلى الظهور بمظهر الإنسان الحريص على أمركة الصومال واستبدال قيمها الموروثة بقيم مستوردة يحسب أن تبنيها سيعزز دوره لدى واشنطن، ومع أن سياسته الداخلية ساهمت في تدمير نظامه إلا أن الحرب الأهلية في بعض جوانبها كانت نتيجة الفوارق على المرجعيات الخارجية.
وهكذا أدى الاختلاف حول العلاقات الدولية إلى السقوط في دائرة العنف بحيث استدعى التدخل الخارجي، ويستفاد من تجربة الانفصام الوطني في الصومال أن هذا النموذج تكرر في بلدان أفريقية كثيرة فقدت توازنها الداخلي وتشابهت في سمة مشتركة واحدة تتعلق بالصراع على التبعية إلى أحد المعسكرين.
اخترت هذه الأمثلة الأربعة لشخصيات مختلفة في مواقع مختلفةٍ لأدلل على أهمية العمل الصحفي في رصد مشاعر أهل السلطة، وأبين أن استعراض القوة السياسية كثيراً ما ينبئ عن ضعف حيال المسائل الشخصية.
ففي نموذج نكسون اكتشفت أثر الشجاعة لإنسان استطاع أن يصمد ويتغلب على عوامل اليأس والعزل، وقد أعطى البرهان القاطع على أن سقوط الحكام لا يتم في الغالب إلا على أيديهم.
ظهر موغابي في مأساة وحيدة كرئيس معادٍ للنظام العنصري ولكنه محايد في سلوكه الشخصي بحيث تعالى حتى على مشاعره العاطفية.
أما في نموذج سياد بري فإن ممارساته المستهجنة أكدت أن الحاكم لا يستطيع إخفاء وجهه وراء قناعين من دون أن يثير التساؤل حول صورة وجهه الحقيقي.
الطيار الياباني (شيرو) فضل أن يعيش المرحلة الأخيرة من عمره مشرداً.. مجهولاً.. معذباً، وذلك تنفيذاً لحكم الإعدام المعنوي الذي أصدره ضد مستقبله، وكأن بهذا الخيار الطوعي يقاصص نفسه بسبب تخليه عن الوفاء بقسمه.
خلاصة القول إني أعتبر حياة الصحفي أشبه بمكتبة عامة يمكن أن يختار المرء من أمثولاتها القيمة ما تعجز وصايا الأهل وإرشادات المعلمين عن تأمينه، ذلك أن الأثر الذي تحفره في الذاكرة حادثة معينة أو صورة معينة يساوي كتابة آلاف الكلمات، ولقد حاولت بأقل عدد من الكلمات أن أرسم لهذا الجمهور الكريم بعض الصور العالقة في الذاكرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :703  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 183 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.