(( كلمة سعادة الأستاذ أنيس منصور ))
|
- بسم الله الرحمن الرحيم، لا بد أن الأستاذ الفاضل عبد المقصود خوجه حسن النية جداً أن يتصور أنني بعد هذه الكلمات الجميلة الأنيقة التي بهرني أسلوبها أكثر مما بهرني المضمون أو من الشخص الموجه إلي هذا الكلام، أعتقد أنه حسن الظن أن يتصور لحظة واحدة أنني أستطيع أن أعقب أو أن أتكلم في أي شيء آخر... لكن لا يفوتني أن أتقدم له بوافر الشكر والامتنان أن أعطاني هذه الفرصة وإن كنت أتمنى أن تكون أوسع بمعنى أن يكون لي لقاء أو أكثر من لقاء بكل هذه الصفوة من الأدباء والمفكرين وأن نتحدث في السياسة، ولكن ما دامت هذه قواعد وأصول هذه الندوة فإني أبادر بأن أشكر الأساتذة الكرام الذين غمروني بكثير من الصفات التي تجعلني أتضاءل وأتحول إلى نقطة وعلامة استفهام أو تعجب، فأنا لا أزال رغم كثرة ما كتبت أكثر الناس دهشة لما أكتب وأكثر الناس دهشة وتعجباً لما أقرأ وأحس كأني تلميذ صغير في مدرسة لا أول لها ولا آخر، ولا تزال عاداتي اليومية هي نفس عادات التلميذ الصغير، أنا أصحو كل يوم الساعة الرابعة صباحاً أبدأ في القراءة والكتابة وأفرغ من عملي تماماً حتى الساعة العاشرة وبعد ذلك لا أقرأ ولا أكتب إطلاقاً... تماماً كما أنني ما زلت تلميذاً صغيراً في مدرسة بلا أبواب ولا نوافذ ولا سقف ولا حدود... الشيء المؤكد أن الذي أعلمه قصير والذي أستطيع معرفته قليل وأنه كما يقول المثل اللاتيني العلم طويل والعمر قصير. |
عندي بعض المشاكل أو بعض الهموم أريد أن أطرحها ولا أعتقد أنني سأدخل الطمأنينة أو الراحة على المفكرين الحاضرين لأنني أعتقد أو انتسب إلى المدرسة التي ترى أن من واجب المفكر أن يقوم بدور المسحراتي، يوقظ الفكر النائم، والعقول التي استراحت إلى معلومات محددة وأن يكون مقلقاً أو مثيراً أو منبهاً أو مزلزلاً أو مجلجلاً، المهم أن المفكر لا يتوقف عن التفكير. |
وأبدأ في عرض ما أتصور أنه هموم بعض المفكرين... من ثلاثين سنة رافقت الشاعر الروسي ايفغيني ايفشنكو إلى الأقصر وأسوان، وهو أمير الشعراء السوفيت أو دلوعة الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، شاعر مبدع، رقيق، شفاف، ونثره لا يقل جمالا عن شعره، وفي أسوان تمدد في أحد الزوارق النيلية وكان القمر ساطعاًَ وسألنا هذا السؤال الذي ظل سنوات طويلة بلا إجابة واضحة لا عندي ولا عند كثير من المفكرين المصريين على اختلاف مدارسهم الفكرية والأدبية، السؤال: ما هي القضية التي يتفق ويختلف حولها المفكرون المصريون؟ اختلفنا في الإجابة كنا أربعة كل واحد قال حاجة، واحد قال إن مشكلتنا أن نحن نريد أن نحقق الاشتراكية الواقعية، واحد آخر قال نحقق الواقعية الاشتراكية، واحد ثالث قال كذا... الرابع أنا قلت نحن في حاجة إلى مزيد من الحرية الشخصية. وتركنا نختلف، نحن المصريين اختلفنا ولم نتفق، وطلب منا أن نترجم له هذه الخلافات لعله يعقب عليها، وترجمناها له، فقال أنتم عاملين زي واحد رسام طلبوه يرسم لوحة لأحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فلما ذهب إليه وجده بعين واحدة، فارتعد فإن رسمه بعين واحدة فهو الواقع القبيح، إن فقأ عينه الأخرى فهو تشويه للواقع إن وضع له عينا ليبصر بالعينين فهو تشويه مرة أخرى للواقع، فلم يجد إلا حلاً واحداً وهو أن يرسمه (بروفيل) أي لوحة جانبية، بعبارة أخرى أنتم أيها المصريون تتبعون قاعدة سكن تسلم، ولا يمكن أن يلجأ أحد إلى هذه القاعدة إلا إذا كان لا يعرف مبادئ النحو والصرف، المعنى إيه؟ المعنى أن لنا عدد من القضايا، طبيعي أن يكون لنا قضايا ومشاكل ولكننا لا نتجه إليها مباشرة وإنما نؤثر السلامة فننظر إليها من جانب واحد. |
وأنا أذكر أني كتبت هذا المعنى، غضب المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود وخيل إليه وهذا غير صحيح أنني أعرض بكتاب له يتحدث عن قضايا أو مشاكل المفكر المصري أو الذي يمكن عمله لإصلاح منهج التفكير أو أداة التعبير أو التخلص من القوالب اللغوية والفكرية السائدة بيننا ورد علي بمقال بديع ولكنني لم أقتنع به لأنه تحدث عن نفسه ولم يتحدث عن الحيرة التي تصيب المفكر والأديب والناقد المصري، فعدت إلى الكتابة عن الموضوع مرة أخرى أتساءل ما هي القضية التي نجدها في الصحف والمجلات بما يدل على أننا مشغولون بها؟ إيه قضيتنا؟ تقرأ الصحف المصرية تجد في قضايا كل واحد يكتب في حاجة ولكن ليست هناك نظرية ولا مشروع فكري ولا مشروع ثقافي، هذا الكلام أو هذه المناقشة كانت في الستينات... وحدث في مصر ما حدث وذابت هذه القضايا الفكرية أو المنهجية أو الفنية في القضايا السياسية الأخرى وجاءت مشاكل الحرب كعصا موسى تبتلع هذه القضايا التي في رؤياه أنها صغيرة، ولكننا لجأنا إلى ضرورة أن يكون لدينا تنوير... لا بد أن نحن نعاود الكلام والنظر والممارسة في أن يتجدد أو تتجدد نزعة التنوير المصرية مرة أخرى، ليس أسهل من مثل هذه العبارة، لكن ليس أصعب من أن نحقق هذا التنوير، لأن التنوير له شروط، يعني التنوير عندما حصل في أوروبا في شروط من ضمنها التمرد على الفكر السائد، على السلطة الدينية، من ضمنها استخدام العقل ضد النقل وإخضاع كل الخرافات والأساطير إلى مذهب نقدي حر من ضمنها نوع من التفاؤل أنه إذا تعلم الناس واختفت الفوارق الطبقية فلا بد أن يحقق المجتمع وضع أحسن، من ضمنها نوع من الحنين إلى الغربة إلى عالم الطبيعة والسفر إلى بلاد بعيدة الخ.... ففكرة التنوير أو عودة التنوير ليست بهذه السهولة أو السرعة، وعندما نقرأ في التاريخ نجد أن نحن رأينا نوعين من التنوير، التنوير في مصر في منتصف القرن التاسع عشر عندما ذهبت الوفود إلى أوروبا ويتقدمها رفاعة الطهطاوي سافر إلى باريس وعاد وكتب كتابه الشهير (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، وتكلم عن انطباعاته والأثر وترجم الدستور وترجم كتب وبلغت هذه الحركة التنويرية أوجها في أوائل القرن العشرين والعشرات والعشرينات من هذا القرن عند العقاد وطه حسين والمازني وعباس شكري وآخرين... في نفس الوقت بدأت حركة التنوير في اليابان واستطاعت اليابان أن تقوم بأول وآخر ثورة بيضاء في التاريخ، فقد أحس اليابانيون بأنهم متخلفون عندما فوجئوا ببعض سفن الأسطول الأمريكي ترسو في ميناء طوكيو ورأوا المدافع والأزياء المختلفة والمراكب الضخمة المهم أنهم شعروا بأنهم جهلاء وأنهم لا بد أن يتعلموا، فأمامهم حلين إما أن يوفدوا عدداً من شبابهم للخارج وإما أن يستضيفوا عدداً من المعلمين والعلماء والخبراء لتعليم الشعب الياباني فأرسلوا عشرة من رجالهم يطوفون القارة الأوروبية وأمريكا ويرجعوا يقولوا للشعب الياباني ما الذي ينقصه، رجعوا واكتشفوا أنهم لا يعرفون الكثير في شتى فروع المعرفة، فأتوا بخبراء من إنجلترا ليعملوا لهم سكك حديد وتلفونات، وأتوا بخبراء من فرنسا ليضعوا الدستور الياباني وأتوا من إيطاليا بمن يعلمهم الرسم والموسيقى وأتوا من ألمانيا بمن يبني لهم المستشفيات وأتوا من أمريكا بمن يفتح لهم مدارس ويعلمهم، هؤلاء الناس الذين جاؤوا إلى اليابان أغلقوا عليهم السنوات سنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً حتى أصبح عدد المتعلمين في اليابان كبيراً فأعادوا الخبراء وبدأت حركة التنوير التي بدأت في اليابان تصعد وتصعد حتى وصلت إلى ما وصلوا إليه الآن من رفعة في الفنون والتكنولوجيا وهي التطبيق العملي للعلوم النظرية. |
أيضا لازال بعض الأدباء والمفكرين في مصر يتحدث عن إمكانية التنوير مرة أخرى عندما نستعرض القضايا الموجودة عندنا نجد كثيراً من القضايا مستعارة، يعني ليست واقعية وليست مناسبة وليست بنت هذا العصر، مثلاً عندما نجد بعض النقاد يتكلم عن الشعر العمودي، الشعر العمودي وليس العمودي قضية حسمت وتكلم عنها الشعراء قبل ذلك ولكن كونهم يلجأوا إليها الآن هو هروب من موقف.. استعارة لقضايا ليست من زماننا وجاءت من زمان آخر لنتفادى الحديث عن قضايانا المعاصرة، فكرة وحدة القصيدة موضوع حسمه الأستاذ العقاد في الثلاثينات، إن القصيدة لا بد أن تكون مترابطة ترابطاً عضويا لها أول ولها آخر، مثل الوجه والجسم الإنساني، واختار له ضحية أمير الشعراء شوقي واختار من بين أعماله مسرحية (قمبيز) وغيرها من القصائد الأخرى التي رأى العقاد أن شوقي شاعر بيت وليس شاعر قصيدة بمعنى أن بعض قصائده يمكن أن نعيد ونزيد ونرتب الأبيات كما نشاء. فمثلاً قصيدته: |
خدعـوهـا بقــولهم حسنـاء |
والغـواني يغـرهـن الثــناء |
أتراهــا تنـاست اسمـي لمـا |
كثرت في غـرامهـا الأسمـاء |
إن رأتـني تمـيل عني كـأن لم |
يـك بيـني وبينهـا أشيـاء |
جاذبتني ثوبي العصي وقالت: |
أنتـم النـاس أيهـا الشعـراء |
|
|
وقال أيضاً: نظرة فابتسامة فموعد فلقاء. |
ثم قال: |
فلقـاء يـكون منــه دواء |
ولقـاء يـكون منـه الداء |
|
|
القصيدة من وجهة نظر العقاد يمكن ترتيب الأبيات على أي نحو تشاء، والمعنى أن وحدة القصيدة وعضوية القصيدة كانت شيئاً مفقوداً عند أمير الشعراء شوقي، وفي محاضرة للعقاد في الجامعة الأمريكية بعد وفاة شوقي هاجم شوقي مرة أخرى فعابوا عليه ذلك فقال أنتم لا تريدون أن أهاجم شوقي لأنه مات ولكني أعتقد أنه حي لذلك أهاجمه. واختار من ضمن قصائده ليدلل على عضوية القصيدة من أولها لأخرها القصيدة التي يقول فيها شوقي: |
على قدر الهـوى يـأتي العتـاب |
و من عاتبـت يفـديـه الصحاب |
ألوم معـذبي فـألـوم نـفسـي |
وأغضبهـا ويرضيهـا العـذاب |
ولو أني استطعـت لتـبت عنـه |
ولكن كيف عن روحي المـتـاب |
يـلـوم الـلائمـون ومـا رأوه |
وقدماً ضـاع في النـاس الصواب |
إذا ما اعتضـت عن عشـق بعشق |
أعيـد العهـد وامتـد الشـراب |
|
|
اختار العقاد هذه القصيدة دليلاً على وجهة نظره في عضوية القصيدة: |
أيضاً نجد على أيام طه حسين والعقاد كانت قضايا - هذا متأثر بالأدب الأنجلوسكسوني، وطه حسين متأثر بالأدب اللاتيني - وكل واحد يقدم أحسن ما عنده لعل هذا أن يثري الفكر ويغير من وجهة نظر الأدباء والدارسين إذا ما تقدموا أو حاولوا أن يضيفوا إلى أدبنا الحديث شيئاً من الأدب الغربي... إذاً هذه قضية حسمت إلى حد كبير، ومناقشة هذه القضايا هذه السنوات أو هذه الأيام ليس واقعنا ولكنه استعارة لما كان قبل ذلك، إذن لماذا نستعير؟ لأننا لا نجد ما نعبر عنه أو نتفق أو نختلف عليه. |
سنة 1950م أصدرت أول كتاب باللغة العربية عن الفلسفة الوجودية، وهو عرض للمدارس الفلسفية الوجودية بعبارة سهلة، وليست بعبارة صعبة، ونفد هذا الكتاب ولكن بعد سنة 1950م والمناداة بالحرية الفردية والحرية الشخصية في مواجهة الدول الشمولية وغيره جاءت ثورة 1952م بقضاياها الكبرى التي نقلت إلى الظل مثل هذه الاتجاهات الأدبية أو الفلسفية بقضاياها الصغيرة، رغم إن الفلسفة الوجودية لم تكن إلا رد اعتبار الفرد في مواجهة النظم الشمولية من الشيوعية والفاشية والنازية، في عبارة للفيلسوف الفرنسي سارتر يقول: إننا لم نعرف طعم الحرية إلا في ظل الاحتلال النازي... بمعنى أنه في ظل الاحتلال فقد أي إنسان كرامته وكبرياءه وقيمته وتاريخه ومادام فقد كل هذه فيمكن أن يعمل ما بداله. مثل ما ترى إنسان في الشارع شحات مسكين يقدر يعمل أي حاجة في. الشارع ولا لوم عليه، أو بعبارة أخرى نجد في السجون المحكوم عليهم بالإعدام أو المحكوم بالأشغال الشاقة المؤبدة يسمح له أن يفعل أي شيء، لأنه لا يمكن أن تعاقبه بأكثر مما هو فيه!!. |
الذي حصل فيه شيء من هذا، في الستينات في مصر فوجئنا في مصر بأننا كلنا مشغولين بالكتابة عن مسرح العبث الفرنسي وأنا وآخرين شاركنا في ترجمة عدد من المسرحيات الفرنسية لما يسمى مسرح العبث أو مسرح اللامعقول، وفوجئنا بأن توفيق الحكيم عمل مسرحية يا "طالع الشجرة" واخترعنا نحن مسرحية من عندنا اسمها "الهواء الأسود" وهي ليس لها أي أساس ونسبناها إلى أحد الأدباء الألمان الكبار وقرأها الكتاب وعلقوا عليها وظهرت على المسرح في بغداد على أنها من الأدب العبثي الجديد للكاتب الألماني فريدريك دلمار... وهي من اختراعي أنا والأستاذ الساخر الكاتب أحمد رجب. وكل الكتاب أفاضوا في العظمة وفي العبارة وفي الحكمة والتلميح والتصريح وكل هذا لا أساس له من الواقع، ولكن الجو العام أننا اخترنا مسرح العبث، اخترناه تقليداً لكن للحقيقة لم يحدث أنه في أعمال مسرحية عبرت عن الواقع المصري كما عبر مسرح العبث، لأن أساس العبث، كلمة العبث، في الإنجليزية Absurd بالفرنسي la 'absurdite باللاتيني abserdos وهي في الموسيقى تعني النشاز.. فمسرحيات العبث ليست مسرحيات بلا معنى أو مسرحيات اللامعقول، إنما هي مسرحيات لها معنى ومعقولة رغم أننا سميناها مسرح اللامعقول، أساس العبث أن الناس أحست بعدم وجود معنى لأي شيء، وأنه لا يوجد حوار بين الناس، وأنه من الممكن أن يلتقي الناس بمئات في مكان واحد ولا يدور بينهم حوار، وأن الناس يمكن أن تأكل وتشرب وتشاهد التلفزيون والأسرة لا تتكلم، ما فيش حوار، ما فيش جدوى للحوار، ما فيش معنى للحوار، ما فيش معنى للاستمرار فيه لأنه ما فيش معنى لكل شيء، فقدت الأشياء معناها، فقدت الوزن، الطول، العرض، العمق، كل هذا أحسسنا به في الستينات، وعلى الرغم من أننا استوردنا مسرح العبث ولم نقصد أنه يعبر عن واقع انعدام الفكر المصري في الستينات لكنه كان واقعاً صحيحاً، في نفس الوقت تبارى المفكرون - توفيق الحكيم وآخرون - فيما عدا طبعاً عباس العقاد وطه حسين، استنكروا مسرح العبث وسخر طه حسين من مسرح العبث ومن لعب توفيق الحكيم لأن طه حسين ابن الوضوح الفرنسي، تلميذ من تلامذة ديكارت، من المؤمنين بالفكر البين بذاته الذي نسميه بالإنجليزي Self Evident من التفكير البديهي، العقاد ينتسب لمدرسة التحليل المنطقي، مدرسة برتراند رسل، والاثنين يرفضا العبث بالفكر أو العبث بالواقع أو الهروب منه أو أن نحول الواقع إلى شيء يبعث على الضحك مع أنه يبعث على البكاء. ورغم أننا قدمنا هذا وشاركت فيه مع كثيرين لكن المعنى الذي نفتقده لا يزال موجوداً وهو أنه لا توجد هناك نظرية أو فكرة أو مشروع يلتف حوله الأدباء يتفقون ويختلفون، أيضاً افتقدنا هذا المعنى. |
جئنا بعد ذلك لافتعال قضايا، مثلاً من بعض الأشياء التي كنت أستغرب لها وأرجو قبول عذري، كنت أرى بعض الأخوة الأدباء السعوديين أو أدباء الخليج يستغرقوا في الكتابة عن البنيوية، يعني قضية البنيوية قديمة ومرتبطة بالفكر أو الفلسفة الأوروبية، لما طلع كتاب البنيوية للكاتب الفرنسي كلود ليفيشتراوس، كان له مبررات حتى أن بعض المذاهب الأخرى هاجمته، لكن قلت لعل البنيوية تنعش الفكر أو تثير قلق المفكرين أملأ في أن تظهر أفكار أو قضايا، لكن رأيت بعد ذلك أن أدباءنا في الخليج أو السعودية لا يختلفون عن أدبائنا في مصر أنهم يبحثون عن قضية أو عن نظرية أو شيء يحرك الفكر الراكد أو غير المتجدد في الأدب والمسرح والشعر الخ... |
فوجئنا بشيء آخر في مصر - وأنا أتكلم عن مصر لأني أعرفها أكثر - إنه مسرح العبث أعيد مرة أخرى ولكن بشكل آخر، أنا لي كتاب اسمه (شارع التنهدات) أحكي في الصفحة الأولى منه أنني ذهبت مع طه حسين علشان نشوف مسرحية لتوفيق الحكيم في مسرح الأوبرا وطول الوقت طه حسين يضحك ضحكته الساخرة، يضحك قائلاً إن أخينا توفيق الحكيم راجل ظريف وخفيف الدم إلا في هذه المسرحية، وأن في الشعراء الفرنسيين من تناول هذه المعاني بظرف ألطف من توفيق الحكيم، وأنا سألته مثل من يا أستاذ؟ قال مثل الشاعر الفرنسي لوتري آمو، والشاعر الفرنسي رامبويه، والشاعر الفرنسي فرلين، الخ… وذكر أسماء بودلير وغيره، فأنا استغربت، لكن طه حسين مثل العقاد الاثنين لا يؤمنوا إلا بالعقل.. العبث الجديد عندنا أن المسارح معظمها مسارح كوميدية، كلها ضحك وتهريج والناس بتخرج مبسوطة، وأنا شخصياً كان لي سبع مسرحيات كوميدية وظهرت على المسرح والتلفزيون أيضاً، وساهمنا في هذه النهضة المسرحية إن صح التعبير لأن كلمة نهضة كبيرة، النشاط المسرحي في الستينات، الذي بلغ أوج قوته أو تنوعه الآن.. ما هو العبث في المسرح الكوميدي في مصر؟ أستاذنا أرسطو قال: إنه الغرض من المسرحيات الكوميدية إنه المسرح صورة من المتفرجين، عندما يعرض المؤلف مسرحية فهو يعرض واقع المتفرج عليه، فيضحك المتفرج على نفسه، وعن طريق أن أضحك على نفسي يتحقق ما يسميه هو "التطهير" يعني أكف عن البخل إن كنت بخيلاً، أو عن الجبن إن كنت جباناً، وبهذا الشكل يكون المسرح الكوميدي علاج للمتفرجين.. المسرح الكوميدي الذي عندنا تذهب إليه الناس وتدفع مبالغ كبيرة وتضحك وتخرج من المسرح وكأن شيئاً لم يكن، بمعنى أن الهدف من الضحك على الناس وعلى السلطات بأشخاصهم وأحياناً بأسمائهم الغرض منه نوع من النقد الاجتماعي شارك فيه المؤلف والمخرج والممثلون والمشاهدون، فتكون النتيجة أن المسرح الكوميدي لا يؤتي ثماره لأن الناس تضحك وخلاص! وعن طريق الضحك يرتاح وأعصابه تهدأ وخلاص. لكن الهدف من الضحك الذي أشار إليه أرسطو لم يتحقق إذن نحن عدنا مرة أخرى إلى مسرح العبث أو مسرح اللامنطق أو اللامعنى مرة أخرى. ويبقى السؤال ما هي النظرية أو ما هي الفكرة التي ارتأى المفكرون والأدباء والفنانون أن يؤكدوها ويوثقوها ويعبروا عنها ويجسدوها بما ينعش الفكر عند القارئ والمشاهد معاً؟ والجواب: ما فيش نظرية. |
احنا في السنوات الأخيرة شاعت عندنا تعبيرات غير منطقية، مثلاً عندما يأتي القرن الواحد والعشرين تحل جميع المشاكل! القرن الواحد وعشرين فاضل عليه 25 شهر، إيه الذي يمكن أن ينعمل من إعجاز في خلال هذه الأشهر، إيه الذي يستطيعه شروق الشمس وغروبها في 25 شهر أن يغير من طبائع ناس، حكاية 25 شهر هذه تعنينا نحن فقط، لكن الشمس لا تدري بالزمان ولا بالمكان.. الشمس تشرق على الأرض منذ أربعة آلاف مليون سنة، وهو عمر الأرض، بعض الناس يتصور لما يأتي القرن الواحد وعشرين كل شيء سوف يتغير، وهذا تعبير سائد ولا معنى له مثل أن تقول لشخص ما اترك التدخين فيقول لك أول الشهر القادم! طيب اعمل ريجيم! حسناً يوم السبت! يعني أول الأسبوع، أول الشهر، أول السنة! إلى جانب أن هناك زعماً أو وهماً أو خرافة تقول أن هناك في نهاية كل ألفية تحدث معجزة، مثل زلزال أو الأرض تتغير أو الشمس تقرب أو تبعد الخ.. لكن لن يحدث أي شيء بهذا العمق وبهذه الأهمية بعد 25 شهراً، إذاً التعليق بأن كل شيء سيحدث مع القرن 21 يوم 31 ديسمبر سنة 2000 وبعده بدقيقة واحدة يصل القرن 21 وتحدث المعجزة، سوف يجيء هذا القرن إن شاء الله وربنا يعطيكم طول العمر ولن تظهر نظرية أو مشروع فكري يجمع شتات المفكرين والأدباء حول قضية واحدة لها شأنها أو من أهم ما تقوم به أو تنجزه هذه النظرية أن تغير وأن تبدل وأن ترفع مستوى الفكر وأن تحل المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ليس هذا موضوعاً ولا قضية ولكن هي علامات استفهام.. |
وأنا لم آت لكي اسري عنكم ولكن لكي أنقل بعض همومي إليكم لعلكم أن تصابوا بنفس الأرق والقلق. |
وشكراً جزيلاً. |
|
|