(( كلمة سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه ))
|
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير... وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على الهادي البشير، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين. |
الأحبة الأفاضل: |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. يطيب لي أن أرحب بكم أجمل ترحيب، وباسمكم جميعاً أحيي ضيف أمسيتنا الذي طوى الأجواء من أرض الكنانة لنسعد بتشريفه على مشارف أطهر بقاع الأرض قاطبةً.. ولنسعد بصحبته سويعاتٍ من عمر السعادة، فصحبة علمٍ مثل الصحفيّ اللامع، والأديب المبدع، الأستاذ الكبير أنيس منصور، تعتبر فعلاً من لحظات الإمتاع الفكريِّ والثقافيِّ التي لا تتكرر كثيراً، فأهلاً وسهلاً ومرحباً به بين أهله ومحبيه ومتذوقي أدبه. |
الأستاذ أنيس منصور لا يحتاج إلى تعريف.. وأشك في أنَّ مثقفاً عربياً لم يقرأ على الأقل ربع إنتاجه الغزير، وذلك قدرٌ معرفيٌ لا بأس به كماً وكيفاً، وكما هو معروفٌ فإن الكاتب المتصالح مع نفسه هو ذات الشخص الذي نقرأه على الورق، حتى كأنك تسمع نبرات صوته من خلال ما تقرأ، وتحسُّ مشاعره في كلِّ جملةٍ وكلمةٍ وفاصلة، لا يترك أكثر الأمور دقةً إلا ويلج إليها ليمحصها ويوضحها ويقتلها بحثاً لأنه يريد أن يكمل صورته أمام القارئ، وقد نحصل على بعض ملامح الكاتب من مؤلف معين، ثم تظهر لنا ملامح أخرى كُلَّما تناولنا المزيد من مؤلفاته.. وأخيراً يتربع الكاتب في مخيَّلة القارئ بكل الحبِّ والتقدير، وذلك جزءٌ من سلوك الطريق نحو الخلود الذي يسعى إليه الإنسان منذ فارق آدم وحواء جنان الخلد إلى شقاء الدنيا. |
ضيفنا الكبير، ليس أديباً عاديَّاً، ولكنه كما يقول عن نفسه: أديبٌ مشتغل بالفلسفة، أعطته الصحافة كلَّ ما يتمنَّاه كاتبٌ، وأعطاه الأدب كلَّ ما يحلم به أديب.. وأعطته الفلسفة كلَّ الأعماق والآفاق والقدرة على النفاذ والفهم والاستيعاب. |
بهذه الأبعاد الثلاثة (الأدب، والصحافة، والفلسفة) نستطيع الاقتراب من عالم الأستاذ أنيس منصور.. ونصل إلى التنُّور الذي يصهر كل تلك المعارف في بوتقةٍ واحدة، فيجعل منه كاتباً متميزاً، ليس على نطاق الدُّول العربية فقط، بل على نطاق العالم كلّه.. ذلك هو تنوّر الحبِّ، الذي يؤجِّج نار المعرفة، ويشعل قنديل حبِّ الاستطلاع.. فلأنه يريد أن يرى، وأن يعرف، وأن يفهم، يبدأ من حب كلِّ شيء، فالحبُّ والأُلفة والتعطُّش إلى المعرفة والقدرة على تدوين كلِّ جميلٍ لا بدَّ أن يبدأَ من الحب. |
وحسب قول ضيفنا الكبير، فهو يرى أن الأدب ترجمة ذاتية للكاتب.. وما دام الكاتب يقول: أنا رأيت.. أنا أحب... أنا أكره.. فهذا أدب.. وهو ترجمة ذاتية.. ونقلٌ لما في ذاته إلى ما في ذات القراء.. وكتب ضيفنا أكثر من مائةٍ وسبعين كتاباً مما ألَّف وترجم ما يمكن أن توصف بأنها ترجمةٌ ذاتية، والجدير بالذكر أن الهيئة المصرية العامة للكتاب قد احتفلت في عام 1996م بأن كتبه باعت أكثر من مليون وأربعمائة ألف نسخة عند ناشرٍ واحدٍ هو "دار الشروق".. أما الناشرون الباقون فقد أعلنوا أن كتبه حتى ديسمبر الماضي باعت أكثر من أربعمائة ألف نسخة. |
|
ويعتبر كتابه "في صالون العقاد - كانت لنا أيام" أهمَّ كتبه التي تتحدث عن ترجمته الذاتية لعالمية الأدب الفلسفي.. ولجيله من الأدباء والمفكرين في مواجهة عباقرة الفكر والأدب والفن والسياسة والدين في مصر، وهو بشهادة معظم النقاد المصريين والعرب من أحسن ما ظهر في الخمسين عاماً الماضية. فهي أيامٌ وسنواتٌ في صالون شخصية فذةٍ أعجب بها وارتبط بها اتفاقاً واختلافاً.. ففي صالون العقاد وبالرغم منه أيضاً رأى أن هناك عظماء آخرين.. تأخَّر في معرفتهم والالتقاء بهم مثل: طه حسين، والحكيم، والمازني، ولطفي السيد، وسلامة موسى وغيرهم. |
|
إن الأستاذ أنيس منصور يمثل نصف قرن من العمل الصحفي.. وعندما نحتفي به إنما نؤكد على أننا نشدُّ على يديه لدأبه وحرصه على استمرارية الخط المهنيِّ للصحافة الحديثة، رغم اختلافنا واتفاقنا معه على بعض التفاصيل، لكنَّ ذلك لا يمنع تنصيبه بكل تقدير أديباً بارزاً، وصحفياً لامعاً، ودارساً متبحراً في الفلسفة والأفكار الغربية.. ولا شك أن دورهُ في الترجمة يقف شاهداً على ما بذله من جهدٍ مقدَّرٍ لكي يقرِّب للقارئ العربي آفاق هذه المفاهيم الجديدة، حتى لا يقنع بالمسميات فقط، أو يقف على ضحالة النقل المبتسر، بل ساعد بدرجة كبيرة لكي يبحر في تيارها ويناقش أساطينها، ويتفق أو يختلف معهم وفق ثوابته وآرائه الخاصة.. فالانفتاح على الآخر من أهمِّ سمات هذا العصر، وقد ساهم ضيفنا الكبير بجهدٍ مقدَّرٍ في هذا الجانب، وانعكس ذلك على الأفكار التي تتخلل بعض أعماله، وعندما نقرأ كتابه "البقية في حياتي - لوحات تذكارية على جدران الطفولة" نتعامل معه رأساً على أساس أنه قصة حياة وجودية الدلالة، تشي بالفلسفات التي قرأها وتفاعل معها. |
|
أما كتبه عن الرحلات فهي من صميم الأدب الذاتي، أو الترجمة الذاتية، أي السَّفر والترحُّل شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، بحثاً عن الذات في ظروفٍ مختلفة، ولعلَّ من أشهر كتبه في هذا السياق "حول العالم في 200 يوم" وقد أثر في تفكير آلاف الشبَّان المصريين، ودفعهم نحو الهجرة واكتشاف عالم جديد، وأثرى حياتهم بمنظور جديد نحو العالم من حولهم.. وقد نال هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية سنة 1962م، وجاء في حيثيات اللجنة التي منحت تلك الجائزة القيمة عن هذا الكتاب: "لأول مرةٍ في تاريخ أدب الرحلات نجد فناً جديداً في الرواية والعرض والأداء.. فعبارته جميلةٌ قويّة.. ونظرته نافذةٌ عميقة.. واحتضانه لموضوعاته رقيقة دافئة ساخرة.. ولم نعرف كاتباً قبله في كل الأدب العربي، حديثه وقديمه، قد توفرت لديه الدراية الواسعة بالفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأدب والتشويق والإثارة، في أسرع عبارة، وأدق وصف، وفي الكتاب صفحات من الجمال والفتنة والرقَّة والقوة والجاذبية والسُّخرية التي تشدُّك وتبهرك، وفي النهاية لا تملك إلا أن تعجب وتتعجب لهذه القدرات الفريدة التي عرضها هذا المؤلف... فكتاب "حول العالم في 200 يوم " هو من أمتع وأبدع وأعمق وأشمل ما عرف الأدب العربي من حكاياتٍ ونوادرٍ وحقائقٍ في كثيرٍ من دول العالم.. لا يقدر عليها إلا كاتبٌ ذكيٌ تمرَّس في التجربة - تجربة المشاهدة، والمعايشة، والأدب الجميل بعد ذلك". |
|
لا يسعني بعد هذه الشهادة الضافية الوافية إلا التأكيد على حقيقة تعلمونها جميعاً وهي أن ضيفنا الكبير قد جعل الكرة الأرضية مسرحاً للتعبير عن أفكاره وآرائه وغسل الحزن والخوف والقلق الذي تعرض له في طفولته وشبابه وكهولته، فصنع من العالم قريةً صغيرةً يبثُّها تلك المشاعر الغامضة.. ويلوِّن عواطفه بمختلف ثقافات الشعوب والأعراق والعادات والتقاليد ليظهر لنا في النهاية كإنسان كونيِّ، ديدنه الحبُّ، والانفتاح على الآخر. |
|
أخيراً.. قد لا يعلم الكثيرون أن ضيفنا الكبير يجيد ست لغاتٍ من اللغات الحية، قراءةً وكتابة، وتطرح هذه المعرفة علامات تقديرٍ كبيرةٍ لما يجب أن يكون عليه الأديب الذي يريد أن يتسلق قمم المجد بجهدٍ عظيم ليصل إلى المرتقى الذي يليق بهذا الجهد، ممّا يمكنه من رؤية الكون من علٍ، وهو في مكانته السامقة، فيرى ما لا يراه كثيرٌ من الآخرين.. رؤية بصيرة، قبل بصر. |
|
أشكر ضيفنا الكريم على إتاحة هذه الفرصة لنا لإمتاعنا بصحبته، والتحاور معه حول بعض القضايا الأدبية والفكرية التي وضَّحها عبر كتبه المختلفة، ولكن تبقى المصارحة واللقاء وجهاً لوجه ذات خصوصيةٍ فريدة بين المبدع والمتلقِّي، وتلقي بظلالها الوارفة على هذه العلاقة وتُثريها، وتسير بها أشواطاً واسعةً نحو آفاقٍ أرحب من الفهم المشترك، والبحث عن حلول لمشكلات تمسُّ طرفي العلاقة، ويجد لها المبدع - بحكم تكوينه - تفسيراتٍ مختلفةٍ تستحق الدراسة، وتبادل وجهات النظر. |
|
ضيف أمسيتنا القادم الدكتور سعيد عطية أبو عالي، الذي ساهم بقسط وافر في صحافتنا بعطائه المميّز، وعلى أمل أن نلتقي مجدّداً مساء يوم الإثنين القادم للاحتفاء به، وتعطير أمسيتنا بنفحات حضوره وحديثه الممتع. |
|