- وختام هذا كلمة طيبة للأستاذ الدكتور عبد اللطيف توفيق الصباغ، أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز بجدة: |
(( بسم الله الرحمن الرحيم ))
|
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد، |
فإن هذه الأمسية السعيدة أمسية طيبة مباركة إن شاء الله، لأنها أمسية تكريم للعلم وأهله، وأمسية تقدير وعرفان لمن يستحق التقدير والتكريم والعرفان، فأكرم بالمكرم والمكرَّم، وأكرم بالمحتفي والمحتفى به، فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، "قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون". وأي تكريم أولى وأجدرُ من تكريم علماءِ الأمة ورواد فكرها ودعاةِ نهضتها وصحوتها، وحُداةِ ركبها وقافلتها السائرة نحو معارج التقدم والفضيلة. والخير والفلاح في الدنيا والآخرة؟ |
أيها الإخوة الكرام: لقد عز علي أن تكون هذه الأمسية احتفالاً بتكريم أخينا الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى ثم لا أشاركُ في تكريمه والاحتفاء به وبيان فضله وأثره الحميد في هذه الأمة، فلقد عرفتُه منذ خمسة وثلاثين عاماً أخاً كريماً وزميلاً صادقاً مستقيماً، وكاتباً بارعاً، وأديباً محلقاً، وداعية موفقاً، ومعلماً ناجحاً مخلصاً، وصديقاً وفياً، وخليلاً طيب العشرة، خفيف الظل، مهذب الكلام، شفاف النفس، رقيق الحاشية، مزدحم المعلومات، فياض المشاعر والروح، أفلا تكون المشاركة في تكريم هذا الأستاذ الجليل واجباً من واجبات الوفاء بل تكريماً لنفسي عندما أحشرها وأنسبها إلى زمرة العلماء والأدباء؟ وأنّى لي ذلك! |
- حقاً إن تكريم أخينا العزيز فضيلة الأستاذ الدكتور سعيد هو تكريم للعلم والعلماء كلهم، وتكريم للدعوة والدعاة إلى الله على بصيرة وحكمة واستنارة، وتكريم للأدب والأدباء، وتكريم للالتزام بقضايا الأمة ومشكلاتها الفكرية والاجتماعية والحضارية، وتكريم للعقل والحكمة والاتزان والاعتدال، وتكريم للجهد والإنتاج في مجال الفكر والدين والتربية والاجتماع والحضارة. |
- فهل نذكر أخانا المكرّم بالعلم والفقه والأصول، ونصفه بأنه العالم الفقيه الأصولي باعتبار تخصصه العلمي والأكاديمي، وهو صاحب الكتاب المرجع عن المصلحة وضوابطها في الشريعة الإسلامية، وهو صاحب كتاب مباحث الكتاب والسنة في أصول الفقه، وصاحب كتاب مسألة تحديد النسل في الفقه الإسلامي، وهو كتاب رائد في موضوعه، وهو الذي خاض في كثير من مسائل الفقه والأصول وكثير من مشكلات الحياة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة بعقلية فقهية مرنة ومتبصرة بعيدة عن لا مذهبية سطحية منحلة أو متحللة، ولكنها في الوقت نفسه بعيدة من العصبية المذهبية والجمود الفقهي وتعطيل طاقة التجديد والاجتهاد مع تمكن تام ومعرفة عميقة ودقيقة بأدلة الأحكام ونصوص الشريعة ومقاصدها، الأمر الذي جعل منه مرجعاً موثوقاً في كثير من مسائل الفقه المعاصر، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى المؤسساتي في المؤتمرات والمجامع والندوات الفقهية العلمية؟! |
- أم أننا نصفه بالكاتب الأديب، الذي تميز بأسلوبه الرائق وعبارته الجميلة ومفرداته المتناغمة وصوره الحيّة وبراعته في الاستهلال، سواء في إنتاجه العلمي والفقهي والأصولي أو في إنتاجه التربوي والحضاري، أو في إنتاجه الأدبي الخالص؟ لعل كثيراً فعلاً يعرفون أن الأستاذ الدكتور سعيد صاحب ذائقة شعرية ونثرية أدبية رائعة، وأنه منغمس في فنون الأدب ومظاهره إلى درجة كبيرة، وهذا سر جمال وسهولة الكتابة عنده، وحديثه له من ذلك نصيب كبير، ألم نقرأ منذ أكثر من ثلاثين سنة كتابه الأولي الفذّ "مم وزين" وهي صياغة عربية أدبية راقية ورائعة لقصة الحب العذري الفريد الذي كان بين عاشقين كرديين رقيقين، أين منهما روميو وجوليت، فسالت منا الدموع على الوجنات وغلبتنا شهقة اللوعة ونحن نقرأ عبارات وكلمات كتبت بماء العين ودم القلب وذوب العاطفة. |
- أخي الكريم، لن أبالغ في المدح والثناء، ولن أمدحك بما ليس فيك، فقد يخشى عند ذلك أن يكون كلامي نوعاً من المجاملة أو الاستهواء والانفعال، وقد يخشى كذلك أن أذمك بما ليس فيك، وأعيذ نفسي أن أكون من هؤلاء أو أولئك، بل أنت يا أخي غني عن المبالغة والإطراء الكاذب، وإنني متيقن، لمعرفتي بك وبتواضعك وتذلك لله عز وجل، أنني لا أقصم بذلك ظهرك، وأن فيك بحمد الله من ما وهبك الله تعالى من المحامد والمناقب ما يغني عن اصطناع المديح وتكلفه أو التهويل فيه، رغم أن المقام مقام إعزاز وعرفان وتكريم، وكم يكثر الإطناب، في مثل هذه المناسبات، في ذكر المحاسن والمحامد حتى يبلغ درجة الإملال والابتذال! |
ولن يفوتني أن أذكرك بصفة المفسر المتبحر في علوم التفسير والقرآن، ولا أزال أذكر طريقتك البارعة في بيان إعجاز القرآن ومصدره الإلهي من الناحيتين البيانية والنفسية، وقدرتك الفائقة على تصوير ذلك والإقناع به. |
- وأما التربية الإسلامية فأنت من رجالها وروادها الأوائل في بلاد الشام على الصعيد النظري التأصيلي وعلى الصعيد العملي التطبيقي، وكم كان كتابك المبكر عن تجربتك في التربية الإسلامية مناراً ومنهجاً للكثيرين ممن جاؤوا بعدك. |
- ولا تزال دروسك وكتبك في فقه السيرة النبوية وفي علم العقيدة وتأسيسها مراجع مهمة لمن أراد أن ينهل من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويعمق محبته له واقتداءه به، ولمن أراد أن يصل إلى الحقيقة اليقينية الكبرى أو إلى كبرى اليقينات الكونية في هذا الوجود وهي وجود الخالق وعبودية المخلوق. |
- وإن أنس فلن أنسى إطلاعك على الفلسفة الحديثة وتياراتها المختلفة والرد عليها بمنطق وهدوء عظيمين يدلان على عمق الفهم والثقة بالنفس وبالحق الذي أنت عليه، لقد كان كتابك في نقض أوهام المادية الجدلية (الدياليكتكية) فتحاً في مجال الدراسات الإسلامية الفلسفية الحديثة، وكذلك كتبك الأخرى عن مشكلاتهم ومشكلاتنا ومحاورة الخصوم الفكريين والمتغربين حول مذاهب التطور والحرية والمادية والتحرر النسوي لإثبات أن الإسلام هو ملاذ كل المجتمعات الإنسانية وأن فيه الحلول الناجعة لكثير من مشكلات الحضارة المعاصرة، وأن سعادة المرأة وكرامتها تكمنان في لطائف التشريع الرباني بعيداً عن طغيان النظام الغربي. |
- أما والدك الجليل يرحمه الله، فقد كان والدنا جميعاً نأوي إليه ونتفيأ ظلاله، وكان رحمه الله وأكرم مثواه مدرستك الأولى ومدرستك الثانية والمستمرة حتى وفاته، ألم تجد في تربيته وعلمه وحاله وقاله وتوجيهاته الصائبة خير تربة تنشأ فيها وتترعرع ويقوى عودك فيها ويسمُق؟ وكأني بمدرسة الشيخ سعيد النورسي الفكرية والتربوية تخصب هذه التربة وتردفها بالصقل والرعاية، كما أصّلتها وعمّقتها مدرسة الشيخ حسن حنبكة الميداني رحمه الله تعالى، إلى جانب مدارس فكرية ودعوية وإصلاحية التقت كلها لتكوين شخصية الأستاذ المكرم وصقلها معتمدة على ذكاء فطري وموهبة فذة وهمة لا تعرف الضعف والكلل على حد قول الإمام الشافعي الذي تنسب إليه: |
همتي هـمة الملوك ونفسي |
نفس حر ترى المذلة كفرا |
|
|
- وليس معنى كلامنا السابق أننا نوافقك ولا نخالفك في كل كبيرة وصغيرة، وفي كل نقطة وجزئية في منهجك وطريقتك وأسلوبك وآرائك العلمية والنتائج التي تتوصل إليها بعد طول بحث وعناء اجتهاد، فليس منا إلا من رد ورُدَّ عليه إلا صاحب الروضة السعيدة صلى الله عليه وسلم، وإني لأقدر فيك استقلالية الفكر والتحليل، وأعتقد أنك تقدر وتحترم استقلالية الآخرين ومنهجيتهم وآراءهم، وليس يفيدك أن يختلف الناس معك، ولكن الذي يضيرك ويضيرنا معك أن يتخذ بعض الناس من الاختلاف في الرأي ذريعة للتحدي أو التشدد أو الاتهام بالباطل. |
- لقد كان لك محبّون كثيرون في الجزائر عندما كانت أحاديثك ودروسك توافق هواهم وما يرغبون، أما عندما أصبحت أهواؤهم وشهواتهم بعيدة عن منهج الحق والإستقامة، وهو المنهج الذي تتبناه وتدعو إليه، انفضوا عنك ومن حولك وانصرفوا، فما زادك ذلك إلا يقيناً باستقامة منهجك ودعوتك وما زادك ذلك عند العلماء والحكماء إلا تقديراً وإجلالاً، فالعالم مجمعه يجري في طريق الحق ثابتاً راسخاً، ولا يجاري أهواء الذين لا يعلمون. إن للعلم سلطة، وهي سلطة تفرض نفسها بقوة العلم وعمقه وبإخلاص العمل وصدق اللهجة وبالحكمة والاتزان والاعتدال (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)، ولقد أحسنت تمثيل هذا السلطة عندما عرفت معناها ومسؤوليتها وحدودها: |
علم بدون غرور أو تعالٍ |
ودعوة بدون فظاظة أو غلظة |
وتعليم بدون تقعر أو تعقيد |
وأدبٌ بدون فُحش أو إسفاف |
ونصيحة بدون خداع ولا تشهير. |
|
|
أفلا يستحق كل ذلك أن يُكرّم؟ بلى! بل إن حضورك حفل تكريمك، أيها الأخ العزيز، في هذا البلد الطيب الكريم هو بحد ذاته تكريم لهذا الجمع الكريم ولهذه الاثنينية والقائمين عليها، والحمد لله الذي بنعمته تتم العطاءات. |
- صاحب الفضيلة شيخنا العلاّمة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى كل هذه الوجوه الطيبة أتت من أماكن بعيدة لتصافحك بعيونها في يوم تكريمك، فماذا تقول والكلمة لفضيلتكم: |
|
|