حفل التكريم |
(( كلمة الافتتاح ))
|
افتتح الشيخ عبد المقصود خوجة حفل التكريم بهذه الكلمة: |
الحمدُ لله الذي أنعمَ علينا بنعمة العلمِ وفضَّلنا على كثير ممَّن خلَق، والصلاةُ والسلامُ على عبدهِ ونبيِّه خيرِ البَشر، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين. |
الأحبةُ الأكارم: |
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه: |
يطيبُ لي أن أُرحبَ باسمكم جميعاً أجملَ ترحيبٍ بفضيلةِ العلاّمة الدكتور الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي، الذي نتشرَّف بالاحتفاءِ به في هذه الأمسيةِ المباركة إن شاءَ الله، كما نرحِّبُ بصاحبيه الكريمين فضيلةِ الشيخ محمّد سلـيم بعيوني وفضيلةِ الشيخ عبد الرزاق دياب حيثُ تجشموا جميعاً مشاقَّ السَفر من دمشقَ الفيحاء إلى هذه الرحابِ الطاهرة لنتواصلَ على الخيرِ والبِرِّ وفي طريقِ العلمِ على هَدْيِ سلفِنا الصالح. |
إن شيخَنا العلاّمةَ الذي نسعَدُ بالاحتفاءِ به هذه الأمسية يمثِّلُ علامةً بارزةً في مجتمعهِ، فقد آثرَ العملَ والجهادَ واختارَ طريقَ الدعوةِ إلى الله سبحانَه وتعالى في ظروفِ بالغةِ التعقيد، واقتدى في ذلكَ بوالدهِ الفقيهِ العالمِ الشيخِ مُلاَّ رمضان البوطي عليهِ رحمةُ الله.. وعندما نظرتُ إلى مسيرةِ شيخِنا المحتفى به، وجدتُهُ يَترَسَّمُ معالم الطريقَ الذي اختطَّه له والدُه، وبالرُّغم من أن احتكاكيَ الشخصيِّ بشيخِنا المحتفى به لا يزيدُ عن معايشةِ الكثيرينَ منكم له، إلا أن قراءتي لكتابِه عن والدِهِ أفسحَتْ لي الطريقَ واسعاً لكي أرافِقَهُ منذُ نعومةِ أظافره حتى أعرف عنه بعضَ أدقِّ تفاصيلِ حياتِه الخاصَّةِ والعامَّة. |
وشيخُنا المحتفَى به، شأنُه شأنُ كثيرٍ من العلماءِ الأفاضل، يصعُبُ على المرءِ أن يبتسرَ الحديثَ عنه في صفحاتٍ قلائل، ولكنَّ محطاتٍ هنا وهناك قد يُساعدن في التعرُّفِ على ملامحَ من حياتِه الزَّاخرةِ بالعطاءِ والتواضعِ الجمِّ والزُهدِ والحِرصِ على أن تكون حياتُهُ في مجمَلها عملاً خالصاً لوجهِ الله تعالى.. فقد كانت طفولتُهُ في جزيرة (بوطان) من أعمالِ تريا، امتداداً لحياةِ الشظفِ التي عاشَها الأكرادُ منذُ آلافِ السنين في تلكَ البقاعِ المُجدِبةِ، والأصقاعِ الباردةِ، والتضاريسِ ذاتِ المسالكِ الصعبة.. من تلكَ الطبيعةِ الحادَّة القاسية.. ومن ممارسةِ رعي الغنم.. ومن واقع موتِ إخوته الصبيان في صغَرهم.. تكوَّنتْ معالمُ شخصيةٍ محددةِ الملامح.. كانتْ فقط في حاجةٍ إلى صقلٍ ومتابعةٍ لتؤتِيَ أُكُلَها كل حين بإذن ربِّها، ولم تكن الحياةُ في بادية (بوطان) تفي بأقل المتطلبات اللازمة للتحصيل والدرس، وأقصى ما يطمح إليه شاب في تلك الفترة أن يمتَهِنَ حِرفةً يدوية تُدِرُ عليه دخلاً متواضعاً، وتتوزع أدوار حياته ما بين طلب الرزق ومراعاة احتياجات الأسرة، ويبقى طلب العلم في آخر القائمة، أملاً يُداعبُ النفوسَ، بعيداً كنجمةٍ تومضُ في أفقٍ لا نهائي.. فهل إلى وصولٍ من سبيلْ؟ |
|
من هذه البيئة التي حاولت رسمها بكلمات قلائل انطلق العالِمُ الزاهدُ الشيخُ ملاّ رمضان البوطي بأسرتِه الصغيرة عبر الحدود التركية إلى أرض الشام.. كانت هذه الرحلة تمثِّلُ لهم مغامرة كبيرة في أرض قاحلة تعُجُّ بقطاع الطُرق والحيوانات المتوحشة وغيرها من الهوام.. إنها هجرة نحو النور، ونحو موئل العلم ومهد الحضارات.. وفي أرض الشام بدأ الشيخ الكبير يتلَمَّسُ طريق الرزق الحلال بعفوية تامة تحرسه رعايةُ الحق سبحانه وتعالى، لم يمارس التجارة من قبل، وليس له مهنة يُجيدُها.. ولكنَّ تقوى الله كانت تملأُ نفسه وتفيض على من حوله.. ومنهم ابنه محمد سعيد الذي كان في بواكير طفولته.. وحفرَ الشيخُ الجليلُ في صخر الغربة بأظافره أروعَ ملاحم العطاء والصبر على المكارِه.. ولم يتكسَّب ببذل علمه على قارعةِ الطريق، أو يتَّخذه سُلَّماً للوصول إلى الحُكَّام وعِليةِ القوم ووجهاء المجتمع، بل آثَرَ أن يدخُل معتركَ الحياة من أوسع أبوابه، فعمِلَ بتجارةِ الكُتب التي لم يكن يجيد غيرها أو يتعامل مع شيء سواها.. فكانَ يجوبُ الكثيرَ من المناطق يحملُ الكتب النادرة التي يُحبُّها الأكراد المهاجرون في تلك المناطق، ومن دخلِها المتواضع ينفق على أسرته الصغيرة.. ويُكافحُ ليلَ نهار من أجل حياة كريمة قوامها العيش الحلال، راضياً بما قسمه الله له من رزق قلَّ أو كَثُر. |
|
وفي تلك الأثناء لم يتوقف عن التدريس في الأوقات التي يجد فيها مُتَّسعاً من الوقت لذلك، ورويداً رويداً سمع العلماء بالشيخ الذي يعمل بالتجارة ثم يجلس في حلقات الدرس، وكان ذلك شيئاً غريباً عليهم.. ولعلَّهم حاولوا إثناءَه عن هذا الطريق، لكنّه رحمه الله كان في غنىً عن نصائحهم، وتمسَّكَ بمبدئهِ في الكسب من كَدِّ يده ليُنفِقَ على عياله.. وجاهد جهاداً موفَّقاً ليرفع من شأن مجتمعه ويُحارب العادات الضارة والفتن الماحقة التي كانت تعترضُ طريقَهُ.. |
|
وأنشأ مسجداً في منطقة تسمّى الحارة الجديدة، تقع في أعلى ساحة "شمدين" وكانت تُعَدُّ وكراً لعُتاةِ المجرمينَ وقاعِ المجتمع، وتعرَّضَ لبعض ما كان يفعلُه أبو لهبٍ بالمصطفى عليه الصلاةُ السلام، لكنَّه كافح ونافح حتى انبثقَ نورُ المسجد بعد بضعِ سنين، وتمَّت توسعتُه عدَّةَ مراتٍ لاستيعابِ الأعدادِ الكبيرةِ من المصلّين وطلبة العلم الذين بدءوا يتوافدون على ذلك الشيخ الزاهد، التقيِّ، النقيِّ، الوَرِع. |
|
في هذه البيئةِ الصالحة نشأ ضيفُنا الكريم، وارتحلَ إلى الأزهر الشريف لينهَلَ من العلم ويحصُل على شهادة العالمية.. حُلُم كلِّ الشبابِ في ذلكَ الوقت، وقد كان له ما أراد، ولكنه عندما عاد إلى موطنه فخوراً بشهادته فوجئ بوالده يرفضُ انضمامَه إلى سلك التدريس في الوقت الذي كان يتمنَّى كل إنسان أن يحصُلَ على تلك الدرجة العلمية التي تؤهله لكسب مادي كبير بمقاييس ذلك الزمان.. ولكنَّ المربي القدير كان يهدف إلى تعليم ابنه الناشئ أنَّ العلم ليس مجالاً للتكسب، وإنما العلم جهاد ودعوة لوجه الله تعالى.. فانصاعَ الشابُّ لرغبةِ والده عن قناعةٍ وفي غير ضَجر، متأكداً من أن العلم الذي حازَهُ إنما هو سلاحٌ ووسيلةٌ للتقرّبِ إلى الله وليس مجرد أسلوب من أساليب كسب العيش.. وعندما اطمأنَّ الشيخُ إلى أنَّ ابنه قد استوعبَ ذلك الدرس الأخير سمح له بممارسة التدريس، ومن ثَمَّ المشاركة في كثير من المحافل والندوات والاجتماعات الإقليميَّةِ والدولية، والمساهماتِ الإذاعيةِ والتلفازية والصحفية، وغيرها من النشاطات التي لا غنى عنها للذود عن حياضِ الدين، وكبحِ جماحِ المتهورين. |
|
وبعدُ أيُها الأحبَّة.. فهذه ملامح يسيرة من مشواري مع عالمٍ جليلٍ.. لم تتح لي الظروف أن أتشرف بالتعرف عليه عن كثب، والجلوس إليه والأخذ منه، ولكنَّ الركضَ عبر صفحات كتابه عن والده مكَّنني بحمد الله من تلمس بعض جوانب شخصيته التي ذاع صيتها وعمَّ الثناءُ عليها، فألسنةُ الخلقِ أقلامُ الحقِّ، ولا نزكي على الله أحداً.. سائلاً الله سبحانه وتعالى أن ينفع به وبعلمِه ويحفظه سنداً لإخوانه، وأن يجعل الخير في ذُريَّتِه الطيبة المباركة، وأن يستمرَّ مشعل العلم مضيئاً بأيدي أبناء هذا البيت الذي لم يَدَّخِرْ أهلُهُ وُسعاً في جعلِ كلمةِ الله هي العليا. |
|
أيها الأحبة.. يُسعدُني في هذه الأيام والليالي الطيبة وامتداداتها الطاهرة، التي تسبق قنديل الشهور، أن أزجي إليكم أجمل التهاني بقرب حلول شهر رمضان المبارك، راجياً المولى عزَّ وجلَّ أن يُعيدَهُ عليكم وعلى جميع المسلمين باليُمنِ والخيرِ العَميم.. |
|
ولأننا جميعاً سنكون في شُغلٍ بما هو أهمُّ في ذلك الشهر المبارك، فإن الاثنينيةَ سوفَ تحتجِبُ مؤقتاً على أن نواصلَ مشوارَنا في تكريمِ رُوَّادِنا الأفاضل وعلمائنا الأكارم بعد عُطلَةِ عيدِ الفِطرِ المباركِ بمشيئة الله.. وكلُّ عامٍ وأنتم بخير. |
والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه. |
|