شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة لسعادة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين ))
تكريم الشاعر الأستاذ محمد التهامي:
فإن هذا التكريم له أثره في نفس الأديب، لأنه قيمة يقدم إلى قيمة. وله أثره في المجتمع أو صفوته، أو قل لدى ذوي الحس من النخبة.. التي تقدّر الأديب وتحترمه، وتُعني به، لأنه مشعلٌ يُضئ بفكره طريق السائرين.!
والتكريم للشاعر والكاتب، الذي يحترم نفسه ويحترم قلمه ومجتمعه. وكانت القبيلة حين يولد فيها شاعر، ترتفع رؤوسها، وتفاخر بما نالت، وتحقق لها من مجد، لأن شاعرها سيكون لسان حالها، يتغنّى بأمجادها ومفاخرها، ويذود عن حياضها، وصوتَها الذي يرتفع، ليحمي كيانها من أن يُنال بمكروه، وتخشاها القبائل التي ليس لها لسان يحميها ويدافع عنها. ثم أصبح الشاعر صوت الأمة عبر المسار الحضاري، لكن الشاعر الملتزم يجوع ويعرى، لأنه أدركته حرفة الأدب، فإذا أراد أن يعيش.. بمقاييس الحد الأدنى من العيش، ليأكل "خبزاً حافياً"، ولا سبيل له إلى ذلك إلا أن يداجى ويتملق ويضعف ويتدانى، وأوشك أن أقول يذل، عند من لا يقدره، ويقدّر فنه الرفيع !.
وبعيداً عن التحفظ، فإنه لم يعد اليوم للشاعر صوت، ولم يعد للشعر قيمة.! فكيف يعلو صوت الشاعر؟ وكيف يصبح للشعر جمهور، وقراء ومتذوقون وأنصار وأمة تغار عليه؟
إننا أصبحنا مشغولين عن هذا الفن الرفيع. عند الشعراء المجيدين. لأنا أصبحنا: "نعشق اللهو ونهوى الطربـا". كما يقول حافظ إبراهيم رحمه الله، فكسدت سوق الشعر، لأنه فقد متذوقيه ومقدريه وعاشقيه من ذوي الحس المرهف. وانصرفت الأذن العربية عنه، فقد أصبح بضاعة مزجاة.
كثير منا مضوا إلى الفضائيات ومغرياتها ومحافلها، وكثير شُغلوا بالدنيا وهمومها والمال والترحال. وفسدت الأذواق بالرخيص من الذي هو أدنى من القول والعبث، مما يعرض وينداح على الساحة. حتى الغناء، بَعُد عن الجميل من إيقاع القول إلى رخيصه، وبدلاً من الارتفاع بأذواق الأمة، كان الهبوط بتلك الأذواق، مما يكال ويقدم ويعرض بلا حساب، ليُتلقف بنهم وجري وراءه، لأنه رخيص ومتدنٍ. وتُرك جمالُ الفصحى وبليغُ الشعر الغنائي الماتع، تُرك لأنه قيمة، إلى اللاقيمة.
لأن الأدنى فُضّل على الذي هو خير، والمحطات لا تتذوق ولا تبالي، ولا تريد أن تحسن الاختيار، ولكنها تفضل الهبوط لأنه أيسر من الارتفاع إلى العلو.
إن الذين يعلنون تراجع الشعر القوي، يغفلون وينسون أنه أصبح سلعة كاسدة، لأن الناس انصرفوا عنه إلى لهوهم وشهواتهم وفراغهم، فلم يعد للشاعر صوت، ولم يبق للشعر قيمة، فكيف يعلو صوت الشاعر، ليملأ الأسماع، ويهزَّ المشاعر، ويثير الجوارح. ورحم الله زمناً، كان فيه المتنبي شاغل الناس، بل شاغل الدنيا، حتى قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
 
وبمناسبة الذكرى الألفية للمتنبي، ألقى الشاعر أمجد الطرابلسي قصيدة رائعة من روح المتنبي، بدأها بقوله:
هكذا المجد همـة وصعود
وحياة بعد الردى وخلود
 
ويخاطب غرّة الأمة العربية يومئذٍ، (سيف الدولة) مذكراً له بمكانة المتنبي العالية ودوره الذي لا يُبارى، لأن صوته يدفع بالجيوش المسلمة إلى القتال والموت، وحين شرع المتنبي في الترحال إلى كافور الأخشيدي، وقال قصيدته قبل الوداع، التي مطلعها:
واحـر قلباه ممـن قـلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
 
حتى قال، ولعله بيت القصيد كما يقال:
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا
ليحدثـن بمن ودعتهم ندم
 
ويقول المؤرخون: لقد ندم سيف الدولة، لأنه فقد الصوت الذي كان يدفع بالجيش إلى الشجاعة والبسالة والموت.
قال الدكتور أمجد الطرابلسي، مخاطباً سيف الدولة:
يـا بـن حمـدان أنـت لولا أبـو الطيّـ
ـب أنَّـى لـذكرك التخليـدُ
أنت أولـيته العطايـا جـزافـا
والعـطايا مـع الـزمان تـبيد
أنـت لولاه مـا رأيناك في السَّا
ح وللـحرب ضـجة وبنـود
 
وأتساءل: أين اليوم موقعُ الشاعر المجيد الملتزم المحافظ؟ إنه في العراء "وهو مليم"، لأنه لم يقل ما يريد الناس، أو لم يؤبه لشعره وفنه. ورحم الله المتنبي القائل:
فـلا مجد فـي الدنيا لمـن قــلَّ مالـه
ولا مـال في الدنيا لمن قلَّ مجده
وأتعـب خلق الله مـن زاد همّه
وقصَّر عما تشتهي النفسُ وُجدُه
 
لقد اختلطت اليوم الأوراق بالتعبير الحديث، حيث ترتفع بعضُ أصوات النّقاد.. أن الرواية أزاحت الشعر من طريقها، وتصدرت مكانته. وأقول إن هذا محال، فالأذن العربية باقية وستبقى إن شاء الله عاشقة لهذا الفن الرفيع، لأنه مرجع في العربية. وهو إيقاع عال، تعشقه النفوس الكبار والعقول ويرضيها، ومطرب في سماعه وقراءته وترديده.
ولا عجب أن يقول المتنبي، وهو يعي ما يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
 
والأذن العربية، لن تفقد حاستها ورهافتها، ولن تجنح إلى العجمة والطلاسم والألغاز، ولن تتحول عما ورثت وألفت وانطبع فيها، وراثة وتذوقاً وحساً. ولن تَحُل الرواية محل النشيد، الذي يهز الأسماع، في الفخر والشجاعة والرثاء والوصف. ويقولون: فسد الزمان، غير أن الذي فسد هم أهل الزمان أنفسهم.
وقالوا قديماً:
نعيب زمـاننا والعيب فينا
ومـا لزماننا عيب سوانـا
 
إن الشاعر المُجيد.. الأستاذ محمد التهامي، من بقية جيل الكبار، لعل في مقدمتهم علي الجارم ومحمود غنيم وأبو ريشة والجواهري ومن إليهم، الذين يذودون عن اللغة العربية، ويحمون ذمارها.. من عاديات الهجمات الشرسة، من العامية ودعاتها، الذين يتربصون بلغة الكتاب العزيز الدوائر، "عليهم دائرة السوء".
 
وإني سعيت إلى ساح شاعرنا الكبير، مشاركاً في الترحيب به.. مع صاحب هذه الدار، الذي يقدر الرجال والعلماء والأدباء ويحتفي بهم، ويسعى إليهم في زمن جحود، وأهله كنود، بلغة بني مالك. يعمل الأستاذ عبد المقصود هذا الجميل، إدراكاً منه بواجب تخلّى عنه القادرون، وعدّه أبو الطيب: (عيباً) في نقص القادرين.
 
وإني كذلك أعتذر إلى شاعرنا الكبير، بما ألممت من تصور عن الشعر والشعراء، وإهمالهما في هذا الوقت العسير الصعب، فلست أجنح إلى أن أنكأ الجراح، ولكنها خواطر تنثال، حين تتاح لها مثلُ هذه المناسبة العزيزة، في تكريم شاعر، وتقدير أديب؛ وأمامي مقولة: إن التشجي يبعث الشجى - إنها مشاعر تتزاحم.. حين يقدّر لها أن تتنفس، فتفضي بما يعتمل فيها. وأردد مجدداً قول أمير الشعراء رحمه الله:
إنمـا يقدر الـكرام كـريم
ويقيم الرجالُ وزن الرجال
 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :532  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 139
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.