((كلمة الأستاذ محمد سعيد طيب))
|
سيداتي وسادتي نحن في هذه الليلة إزاء شخصية لم تأخذ عشر ما تستحقه من دراسة واستيعاب أولاً، قبل أي تكريم أو إشادة، فنحن إزاء شخصية استثنائية حقاً، وإذ قلت سيداتي ساداتي إن قصتي مع الشيخ محمد سرور الصبان، هي قصة غريبة وعجيبة، بل مخجلة فأنا لا أبالغ، طبعاً عندما أقول مخجلة أعني ذلك لي شخصياً وليست لتلك الشخصية البازخة. نحاول في هذه العجالة، أن نستعرض لقطات سريعة ومشاهد سريعة، ومعظمها مخجلة حقاً، وأشعر بكثير من الحرج في إيرادها وسردها، إلا بهدف الاعتراف بالرعونة الشديدة وغرور الشباب وسوء التقدير إلى الأمور. نأخذ مشاهد: |
(المشهد الأول): كنت تلميذاً في المرحلة الابتدائية، أو في نهايتها تحولت قراءتنا من علي بابا وسندباد- مجلة الأولاد في كل البلاد- إلى أن نقرأ في ذلك الوقت صحيفة السعودية ونتابع المقالات ونستقبل الصحافة المصرية الوافدة ونقرأها. في تلك المرحلة قرأنا في صحيفة البلاد السعودية أن الشيخ محمد سرور الصبان، أصدر الكتابين المشهورين (المعرض، أدب الحجاز). نزلنا السوق لنحصّلها فلم نعثر عليهما. فكتبت خطاباً للصبان ألتمس منه أن يتفضل ويرسل إليّ بنسخة من الكتاب، لم تمر أيام إلا وتمّ استدعائي من قبل مدير المدرسة. جاءني أستاذان، ومراقبان. وقالوا لي: المدير يريدك رحت ووجدت أمامه خطاباً. وقال لي: أنت من؟ وما هو مستواك لتعرف الشيخ محمد سرور الصبان، أجبته بأنني كتبت له ألتمس منه أن يرسل لي كتاباً. فقال هذا الخطاب منه انظر ماذا يقول. فتحناه فإذا به خطاب جميل في سطرين، ثلاثة فيه: الابن محمد سعيد طيب، بالإشارة إلى طلبكم وددت أن أرفق لكم -هذا– اعتبروه هدية مني أيها الابن. |
(المشهد الثاني): كنا قد كبرنا وبدأ وهج الأمور من حولنا يسيطر علينا، في العام 1952م، كان هناك حدث جلل جرى حولنا، آثاره امتدت وإشعاعاته أيضاً، وكانت الأفكار أن الشيخ محمد سرور الصبان بالنسبة إلينا رمز من رموز الفساد ولا يمكن أن نفكر فيه، ونحن جالسون مع محمد عمر العامودي، عند الأستاذ محمد عمر توفيق، وكان أيامها هو المشرف على مكتب صحيفة البلاد في مكة المكرمة، وهذا الكلام في بدايات عهد الملك سعود 1374هـ أو من هذا القبيل، ثم استأذننا الأستاذ محمد عمر قائلاً: "أنا مضطر إلى الذهاب لأن الشيخ جاء من مصر، وأريد السلام عليه". والحقيقة أنا استكبرت هذا وسألته يا أستاذ: "هل ستذهب للتسليم على الشيخ؟ ما هي أهمية الشيخ حتى تذهب عنده؟" قال: "عندما تكبرون ستفهمون". اختصر الكلام معي، وذهب قائلاً:" لنا حديث حول هذا الموضوع". |
(المشهد الثالث): كنا شباباً أكثر نضجاً، نحضر حفلاً لأم كلثوم في القاهرة، أواخر الخمسينات الميلادية، وكانت الأحاديث حول الوحدة في العام 1958م – 1959م، وفي الاستراحة معي زميلي الدكتور سعود سجيني والدكتور عصام قدس (رحمهما الله). |
كنا خارجين في أبهى صورة لنا، في هذه اللحظة يدخل الشيخ كنجم من نجوم هوليود في أفخم زي، وعندما رأوه الشباب قالوا: "لنذهب ونسلم عليه". فأمسكت بهم برعونة، وقلت لهم: "لِمَ السّلام على الشيخ؟" نظر إلينا بابتسامة جميلة وحانية، نظرة فيها معنى (غداً يكبرون ويعرفون، هذا عنفوان الشباب) - لما أستعيد هذا الموقف يتعرّق جسدي كاملاً. |
(المشهد الرابع): كنت موظفاً مسؤول مدير مكتب الأستاذ العظيم المربي الكبير محمد فدا وهو معروف ولم يكن شخصاً عادياً، وهو أهم من كثير من الشخصيات. وإذ بي أراه يفتح باب السيارة للشيخ محمد سرور الصبان، وأنا مازلت عند ضلالي، فسألته: "كيف تفتح باب السيارة للشيخ محمد سرور الصبان"، نظر إليّ وقال: "عندما تراني، أشعر بالسعادة وأنا أفتح السيارة لأي كائن من كان". يمكنك أن تتساءل، ولكن نحن عندنا واحداً اسمه محمد سرور الصبان، وأنتم لا تعرفونه، غداً ستعرفونه. |
(المشهد الخامس): نحن في الرياض وقد أصبحت مدير مكتب الوزير الأستاذ محمد عمر توفيق -قبل هذا- كان هناك مشهد حينما نظمت عكاظ مسابقة كبرى، وكنت أنا الأول بعد منافسة بيني وبين حسن القرشي (رحمه الله) الّذي فاز بالمركز الثاني، وكانت الجائزة عبارة عن سيارة (ايكديان)، اهتمت عكاظ بالموضوع ونظمت حفلاً كبيراً جداً ودعت إليه السفراء، والقناصل والوزراء، والوجهاء والشخصيات العامة والثقافية، في فندق (قصر الكندرة)، وكان المطلوب من الفائز الأول أن يلقي كلمة وهو -شخصي المتحدث إليكم– والأستاذ محمد فدا (رحمه الله) علّمنا حينما نقف أمام الميكرفون من العيب أن نحمل ورقة، فوقفت من دون ورقة، طالعت في الصف الأول فوجدت أمير المنطقة وبجانبه الشيخ ورأيت أمير المنطقة يحدق فيّ بصورة غير معقولة ومربكة، وأحسست بارتباك، وعندما تحولت بنظري إلى الشيخ فإذا هو ينظر إليّ نظرة الأب لابنه وكل لحظة - يهز رأسه- فيما معناها (جيّد). وعندما أنهيت كلمتي، وقف الشيخ، وهنا اضطر الحضور كله أن يقفوا. وعندما جئت لمصافحة أمير المنطقة، سمعت الشيخ يقول كلمة واحدة: (أحسنت يا بني). جاءنا بعد المغرب في عكاظ الإعلامي بدر كريم. قال الشيخ محمد سرور: "سأذهب لأصلي صلاة المغرب عند الشيخ حسين شبكشي، أبو علي شبكشي"، وقال: "إن الشيخ خبّر أن الأستاذ زيد ألقى كلمة -الكلام لبدر كريم- وقد قال للأستاذ زيدان: "التلميذ حلّق والأستاذ أخفق". هذا نص كلام الشيخ. فجاء بدر كريم يبشّرني بأن الشيخ أشاد بخطابك. فكان جواب الأستاذ زيدان قوله: "يسعدني أن يحلّق التلميذ ويخفق الأستاذ". وقد تركت هذه الجملة فيّ أثراً كبيراً. |
في الرياض أصبحت مدير مكتب الوزير، أذهب إليه في البيت كل يوم لأخذ ورقة وأنجز شغلي. وفي إحدى المرّات، كنت أريد الخروج، فطلب مني أن أتناول العشاء لأن الشيخ قادم إليه، الحقيقة كنت أخجل، لذلك اعتذرت. فقال: "لقد رتّبت الأمور لنا الثلاثة (أنا، أنت والشيخ)". فأجبته: "آسف يا أستاذ". وشاءت لي رعونتي وطيشي أن أحمل الورقة وأغادر. |
(المشهد السادس): انتقل مكتب الأستاذ محمد عمر إلى جدة، فكان أن رتّب دعوة للشيخ ولكنه لم يخبرني، فقال لي: "لا تتأخر في المكتب، وتعالَ إليّ إلى البيت". ولما أتيت مساء ودخلت وجدتهم جالسين على العشاء، أصحاب المعالي كلهم (الشيخ أحمد زكي يماني، عبد الوهاب عبد الواسع، الشيخ أحمد جمجوم) كلهم محلقون والشيخ في صدر المائدة الرئيسة على الأرض. ألقيت عليهم السلام فلم يعبرني أي أحد منهم. لكن الشيخ عمل حركة عظيمة بيده، وقال لي: "عليكم السلام ورحمة الله". "نحن ماسكون لك يد". واكتفى بإشارة فأفسح الوزراء كلهم المجال لي، فأجلسني إلى جواره. ولم يزد كلمة على جملته الأولى". "نحن ماسكون لك يد"، كأنه يرى أن هذه الجرعة لهذا الشاب الأرعن المغرور كافية جداً، جداً. بعدما أنهينا تناول الطعام، وقفوا -والله– وكانت هذه آخر ليلة أراه فيها في حياتي. عندما ركب السيارة قال: "شكراً معالي الأخ". (دَوْبَنَا إلى مكتنا) وهنا ضرب على الوتر، وهو منظر لا أنساه أبداً. قفل الباب، وتوجه الشيخ ودخل الناس. |
قبل المشهد الأخير، نسيت مشهداً في الطائف، عندما كنت جالساً في مكتبي في الطائف نحو الساعة الثانية ظهراً، إذ بالشيخ يدخل بكل وهجه وأناقته وجماله ووجاهته، كان شيئاً باهراً. يا الله، وقفت بكل تقدير، قائلاً: "أهلاً معالي الشيخ حيّاك الله". وسألني: "هل أتى معالي الأخ؟" قلت له: "لا، لابد أنه على الطريق". كان يومها الأستاذ رئيس الدولة في قصر شبرا يمارس عمله ومجلس الوزراء هناك –المهم- قال لي: "حسناً". قلت له: "تفضّل معاليك". فقال لي: "شكراً، شكراً". أخرج بطاقة من جيبه، ولأول مرة أرى في حياتي بطاقة كتب فيها الاسم من دون عنوان، أو رقم هاتف، إلا (محمد سرور الصبان). قلت له: "معالي الشيخ أنت لا تحتاج إلى هذا". قال لي: "لا، لا، أعطيه إياه". قلت له: "معالي الشيخ أتوقع أن يكون قريباً". دقائق ويصل، لابد ذلك لأنّ هذا موعد وصوله. قال لي: "لعل له عذراً". أستودعك الله يا بني. خرجت معه إلى باب السيارة. دقيقة واحدة أو نصف دقيقة وأتى الأستاذ محمد عمر، طبعاً، لن تتصوروا وقع فكرة مجيء الشيخ محمد سرور إلى مكتبه وعدم اللقاء به، هذه كارثة من كوارث الدهر على الأستاذ محمد عمر توفيق. وقال لي: "كيف تتركه؟" قلت له: "لقد قال الشيخ لعل معك عذراً"، فأوصلته حتى باب السيارة. وهو لديه خلفية عني (قليل أدب، أرعن، مغرور). ردّ علي قائلاً: "الشيخ محمد سرور الصبان رجل يحترم نفسه ومن المؤكد لم يجد التقدير اللائق به". قلت له: "والله يا أستاذ وجد مني منتهى التقدير والاحترام". قال لي: "لا، لا". لأن الشيخ محمد سرور معروف بأنه رجل يحترم نفسه. وكان ذلك اليوم يوم نكد بسبب زيارته له ولم يلتقِ به. |
الشاهد الآخر جاء عام 1969م بالهجري 89، كنت أدرس في أمريكا وأتيت في الصيف فجاء فريق مسعود وأخذني -ضربة واحدة- سافرت خمس سنين ونصف. من الدقيقة الأولى إلى الدقيقة الأخيرة جلست في زنزانة لوحدي. حجز كامل، مضت السنة الأولى، الثانية، والثالثة ودخلنا في الرابعة. والله، لا أبالغ ومن المفارقات العجيبة، ومن مفارقات القدر، وأنا في السنة الرابعة وقد ضاق صدري، لأن الزمن يمضي ونحن نتآكل، وبينما كنت منتظراً الغداء، نمت خمس دقائق أو عشر دقائق، رأيت الشيخ في منامي. (دخلت عليه في بيته وهو جالس بالفانلة البيضاء، اللافتة وشعره أسلاك الفضة المعروفة وبكامل أناقته، كنت أحتجّ قائلاً: "هل يُعقل يا معالي الشيخ معقول أن نرمى هكذا في السجون لسنة واثنين وثلاثة. أين أنتم من هذا؟ لا أحد يتكلم، ولا أحد يحتجّ". نظر إليّ وقال لي: "يا بني أنت تظن، أننا ساكتون، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها. وكل شيء إن شاء الله يسير خيراً". كانت الإجابة جميلة فيها عطف، واحتواء. صحوت من النوم، كان الصيف شديداً، والهواء أيضاً. في الرياض سموم، ويظهر أن ذلك لفّ شريحة من جريدة المدينة، كان الجنود يأكلون عليها الأرز، حتى ظهر فيها آثار الأرز، لفت وتعلقت بقضبان الحمام. وكان عالياً، كدت أجنّ لما رأيت جريدة، وكان لابد من أن أحصل عليها، كنت شاباً فاجتهدت واعتليت الحوض إلى أن وصلت إلى القضبان، انتزعت الجريدة ونزلت من الأعلى إلى الأرض محدثاً صوتاً وبشكل لافت. انتبه العسكري فنادى: "ماذا تفعل أيها الولد؟" طبعاً، وضعت الجريدة خلف الباب وخرجت نحوه قائلاً: "لا شيء، لقد تزحلقت"، قال: "لا، لا، على من هذا الكلام، ليست هذه بزحلقة، هذا هرج فيه كلام". انتظرت بعد سلم عسكري آخر ولففت الجريدة في المنشفة وخرجت لأقرأ ما فيها، طبعاً كنت وقتها في السجن لمدة سنتين، ثلاث، أربع، ولم أقرأ ربع جريدة، ولا كتاب، ولا أي شيء، وكنت لا أدري ما يدور في الدنيا. وإذا بي أقرأ في الجريدة تقرير الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد صالح القزاز يقدمه لرابطة العالم الإسلامي، ويقول في نهايته: "وأجد من واجبي أن أنوه هنا للمجهودات الكبيرة التي قدّمها معالي الأمين العام السابق الشيخ محمد سرور الصبان (رحمه الله)". يا الله، لقد كنت جالساً أحتجّ على الرجل وأقول له: أين أنتم من هذا؟ وهو ميت منذ سنة. والله، كانت هذه من مفارقات القدر، وأنا سجّلتها في كتاب السجين رقم (32)، لأنني أردت أن لا تمر هذه الواقعة من غير أن تورد. لم أسأل كل من التقيته من وزراء وغيرهم عن الشيخ محمد سرور الصبان إلا وكان الإجماع منعقداً أنه شخصية عظيمة، وفريدة، من شعراء ومن أدباء ومن كتّاب. أختتم بالقول إنه إذا كان الحجاز، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مهداً لثقافة المحبة والتسامح والتعايش والوفاق بين مختلف الأجناس والأعراق والألوان والملل والنحل، فإن محمد سرور الصبان هو ابن الحجاز البار ورمزه المتميز وأيقونته البديعة والجميلة (رحمه الله). |
مداخلة معالي الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه: أحب أن أعلن باسم "الاثنينية" إعادة طبع الكتابين (أدب الحجاز، المعرض). |
|