شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور عاصم حمدان))
 
محمد سرور الصبَّان، الرمز والانعطافة المهمة في تاريخنا الفكري والأدبي والاجتماعي.
شهد عام 1391هـ رحيل عددٍ مِنِ الرِّجال الذين أدّوا أدواراً إيجابية في تاريخ هذه البلاد، فمنهم العلماء مِن أمثال السيَّدين حسن يماني وعلوي المالكي، ومنهم الوجهاء مِنْ أمثال الشّيخ محمّد نصيف والسيّد حمزة غوث، ومنهم الأدباء وصُنَّاع الحرف مِنْ أمثال حمزة شحاتة ومحمّد سرور الصبَّان، وأتذكّر ـ ولعلّ في هذا الجمع الطَّيب من يتذكّر مثلي ـ ما صاحب رحيل هذين الأدبين مِنْ جيل الروّاد، وأعني الصبَّان وشحاتة مِنْ توديع مهيب تجسّد في عددٍ مِن المقالات النّثرية والقصائد الشّعرية التي كتبها بعض مُجايلي هاتين الشّخصيتين، وهذا التّراث بشقّيه الشّعري والنّثري هو ما يمكننا الاعتماد عليه إلى حدٍّ كبير في معرفة ملامح هذه الشّخصية التي تحتفي بها اثنينيتنا، أعني الصبَّان، وهي شخصية مهمة في تاريخنا الفكري والأدبي والاجتماعي المعاصر، فهذا الشّيخ الفقيه والشّاعر ضياء الدين رجب-رحمه لله-، والذي كان إلى حدٍّ كبير قريباً مِنْ شخص الصبَّان، يقول في مرثية تذكّرك بمراثي أبي تمّام والبُحتري وأبي العلاء المعرّي:
 
الحُبُّ يا صاحُ قَدْ ذلّلتهُ هَدَفاً
وصُغْتَهُ صَوْغَ نَحّاتٍ ومَثَّالٍ
والمَجْدُ يا صاحُ قدْ أنْهكْتَ مَنْطِقَهُ
حتَّى بَدَا الذّئْبُ في أطْيافِ رِئْبَالِ
وحاربَ اللّفْظ مَعْناهُ مُنَاقَضَةْ
تُمَازِج السَّقْطُ في دُنياك بالغالِي
زَحَمْتَ نَفْسَكَ بالأعْبَاءِ مُثْقلةً
حَمل المُرَوّضِ أثْقالاً بأثْقالِ
وما تسَخِّرُ مالٌ في مُكابدةٍ
تسْخيرَكَ المالَ في خصْبٍ
فلْسَفته فَلْسفاتِ المَجْدِ فاضْطربتْ
به المسالِكُ في وَفرٍ وإقْلالٍ
وعزَّ حيْناً.. وبَعْضُ العزِّ مَهْلَكةٌ
وأعْنَفَ الكَرب ذُلُّ النّفْسِ بالمالِ
وكنتُ وحْدِي أدْري ما تُخبِّئُهُ
وربّما جاوزتَ نجواكَ أمثالي
 
ويصوّر شاعرنا -حمه الله- ذلك المشهد المهيب يوم تشييع الفقيد إلى دنيا الخلود والبقاء:
 
لو أنْ عَيْنا عَلَى الحَدْباءِ شاخِصة
موْصُولةٌ بِكَ تَرْعَى المَوْكِبَ الغالي
تُبْصِرُ الحَشْدَ حَوْلَ النَّفْسِ أفْئِدَةً
وألْسُناً مِنْ صُنُوفِ الصَّحْبِ والآلِ
وما أذاعُوا وما خطُوا وهلْ نسخوا
رأياً برأي وأقوالاً بأقْوالِ
يا مَنْ أعِزُّ وحُبُّ الرّوحِ منهلُه
ثرٌّ برغمَ الرَّدى يسْخُو لنَهَّالِ
خلَّفتُه أثراً يجْرِي لِغَايَتِهِ
يحْكِي الصُّوي في دياجير وأوْحَالِ
تعيشهُ وتظلُّ النّاسَ دَوْحَتهُ
لا.. كالحُطَامِ تَهاوى بين أطْلالِ
يا مَنْ أعزُّ وأسْتارُ النّوى انْسدلتْ
وأسْرَعتْ دُونَ إبْطاءٍ وإمْهالِ
قدْ كُنْتَ تَحْمدُ صبْري إثْرَ فاجِعةٍ
كانتْ كأعنفِ إعْصارٍ وزلزالٍ
ما حيْلةُ المَرْءِ في أحْكامِ خالِقِهِ
وكلُّ أقْدَارِه تَجْرِي لآجالِ
وأجْمَلُ الصَّبْرِ ما يُطْوى على حُرَقِ
فكاتِمُ الوَجْد غيرُ الصّابرِ السّالي
 
 
وكتب الأستاذ الكبير عزيز ضياء -رحمه الله- في رثائه نثاراً أدبياً رفيعاً، حمل عنواناً مثيراً وهو: ((الشّيخ))، يقول أبو دلال: والشّيخ هو اللّقب الذي ندري كيف اصطلحنا على أن نُعرِّف به محمّد سرور الصبَّان، فقد كُنّا ونحن في عنفوان الشّباب وفي فورة التوفّز نقول فيما يدور بيننا مِنْ أحاديث (قال الشّيخ: وقدم الشّيخ، وأخطأ الشّيخ، وأسرف الشّيخ. وحيث أصف الشّيخ بأنّه ظاهرة ((نادرة)) فإنّي أحاول أن أكتفي بهذا الوصف عن الكثير مِنْ مناقبه وسجاياه.
ثمّ سرد لمحاتٍ مِنْ تاريخ حياته التي كان النّجاح فيها أقرب إلى منطق الأسطورة منه إلى منطق التفوّق والأسباب والعلل، وإن كان في مقدّمة هذه السباب مِنْ هيكل الأسطورة كما يخبرنا عارفوه الأقربون أنّ محمّد سرور الصبَّان كان مثالاً للابن الحريص على رضا والدته، بحيث ظلَّ إلى أنْ توفيت وهو في مركز مرموق مِنْ مراكز الدّولة يَنحني على يديها، ثمّ على قدميها بالقُبلِ التماساً لرضاها، وطمعاً لدعائها له بالتّوفيق. ونجد الكثير ممّن يعرفون دخائل حياته يقولون: ((رضا تلك الوالدة ودعاؤها هما الركيزة الكبرى التي دعمت مسيرة محمّد سرور وأمدته بما أُغدق عليه من الثروة والجاه)).
يذهب الأستاذ عزيز إلى أكثر مِنْ ذلك عندما ينقل صُوراً حيّة عن تسامح وصبر الشّيخ الصبّان حتّى أولئك الذين يلوكون ألسنتهم بما لا يليق، أو يتجاوزون حدود اللّياقة، التي تعارفت بها النّاس في تعاملها مع رموزها، ولكنّنا للأسف الشّديد في كثير مِن الأحيان كما ذكرت يوماً في سياق آخر أنّنا أمّة لا تحتفي بروّادها وتهمل تاريخها. يقول الأستاذ عزيز. والنّجاح في حياة الشّيخ كالنّجاح في حياة كلِّ إنسان كان يُثير دوماً ألواناً مِن الحقد تغلي به الصُّدور التي تأكل على مائدته وتنعم برفده وعطائه، بل وتدين له بما أصابت مِنْ نعمة وما تحقّق لها مِن استقرار، وكان له مِنْ لماحيته وذكائه ومِنْ ((عيونه)) و ((آذانه)) ما يتيحُ له أن يرى كيف تشتعل النّار في تلك الصُّدور على الرغم مما تُبْديه مِنْ تزلّفٍ وما تمارسه مِنْ ملق ورياء، ويحسب الذين يعرفون أنّه يرى ويعلم أنّه يوشك أن يقابل الحقد بمثله، ولكنّ الشّيخ رحمه الله-ظاهرةٌ نادرةٌ، يتعذّر أن تَخْضَع للمألوف، وأن تساير منطق الأشياء إذْ ما أكثر ما يتساءل صحبه وخلصاؤه عن منطق هذه الظّاهرة حين يبدو الشّيخ وكأنّه لا يعلم شيئاً ولا يدري عن شيء، ثمّ حين يرون قدرته على أن يزيد في رفده، وعلى أن يوالي رعايته وحفاوته فلا يسع للمتسائلين إلا أن يقولوا: ولله في خلقه شؤون.
صدق أستاذنا المرحوم عزيز ولله في خلقه شجون، فقد كان الصبَّان ظاهرة لم تُدرس بعد، كما أنّ شحاتة قمّة لم تُكتشف بعد، وصاحب المصطلحين واحد. واليوم بعد مرور أكثر مِنْ أربعين عاماً على رحيل الرّائد الصبَّان، نجتمع في هذا المنتدى الأدبي، وبمبادرة كريمة وغير مسبوقة مِن الشّيخ الأديب عبد المقصود خوجه، لنقول شيئاً عن رجل كان أمّة لوحده، وكان عظيماً بسلوكياته الإنسانية الرّفيعة، التي وهبها له الله فاجتمع على حبّه الأقاربُ والأباعدُ، والخاصّة والعامة، والمشتغلون في فنون عدّة وعلوم متباينة، وتاريخ الأمم قاطبة يُحدّثنا عن شخصيات برزت فجأة وأدّت أدواراً مهمة ومفصلية في حياة المجتمعات الإنسانية، وأضاءت بسلوكياتها ما يتعدى هذه الحياة من ظلمات فتتوق الأرواح إلى مَنْ يزيح عنها ذلك الرُّكام ويبدّد عنها تلك الوحشة، وأرض مكّة المكرمة التي تنزّل النّور المحمّدي الخاتم بين شعابها ووديانها وجبالها أهدت إلينا على مرّ التاريخ نماذج وأمثلةً نادرةً مِنْ بينها هذا الرّجل، الذي نحاول أن نقول عنه شيئاً حتى لا تلومنا الأجيال اللاحقة التي ربّما لم تسمع باسمه وأسماء أخرى مثّلت انعطافاتٍ مهمة في حياتنا الفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
طباعة
 القراءات :462  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 194 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج