((كلمة سعادة الدكتور محمد سالم بن عبدالله سرور الصبَّان))
|
|
جاء توقيت تكريم الراحل الشيخ محمد سرور الصبَّان متزامناً مع مرور 90 عاماً على إصدار كتاب المعرض، و91 عاماً على إصدار كتاب أدب الحجاز، وكلاهما من أوائل الكتب التي صدرت في عصرنا الحديث. |
ومنعاً للتكرار وفي إطار التنسيق مع الإخوة الكرام المتحدثين في هذا التكريم، فإنني سأركز في مداخلتي على دور محمد سرور الصبان كرائد اقتصادي، في وقت عزّ فيه وجود الاقتصاديين بالمفهوم الفكري الحديث، كما هو رجل أعمال وصاحب منشآت اقتصادية عديدة. هذه الأعمال كلها، التي بدأها قبل التحاقه بالعمل الحكومي كمستشار للملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه، ومدير إدارة بوزارة المالية في عهد المرحوم عبدالله السليمان، قبل أن يصبح ثاني وزيرٍ للمالية في المملكة العربية السعودية. |
وهو الذي تقدم بعد التحاقه بالعمل الحكومي، باعتذار من الملك عبد العزيز يطلب فيه إعفاءه من العمل الحكومي؛ لاستحالة تركه لعمله الخاص، الذي توسع فيه وقتها بشكل كبير. فكان أن وافق الملك عبد العزيز رحمه الله على أن يجمع بين الاثنين، ويكاد يكون الأمر الملكي الوحيد الذي صدر منذ تأسيس المملكة العربية السعودية بجواز جمع العمل الحكومي مع العمل الخاص. |
هذا الحس الاقتصادي الذي ولد به المكرّم المرحوم محمد سرور الصبَّان جاء في مدة كان الاقتصاد السعودي في مراحله المبكرة، ولم يكن وقتها قد اكتشف البترول (اكتشف عام 1936)، أو أن دخلنا منه كان كافياً لإنعاش الاقتصاد السعودي وتطويره في مرحلة مسكه لزمام وزارة المالية فيما بعد. |
ورث محمد سرور الصبان الحس التجاري والاقتصادي من والده، الذي بدأ تجارته في القنفذة مع بعض الموانئ الغربية المقابلة المطلة على البحر الأحمر، قبل أن ينقل تجارته إلى مدينة جدة ومن ثم إلى مدينة مكة المكرمة. |
وهو وإن بدأ بشركة عائلية ضمت أخويه عوض وعبدالله رحمهم الله جميعاً، إلا أنه اتجه إلى تكوين كيانات تجارية، والخروج من عباءة الأسر التجارية إلى نظام الشركات التجارية لأسباب عديدة أهمها: |
1 ـ توفير رؤوس الأموال الكافية للتوسع في مختلف النشاطات التجارية، خصوصاً وأنه لم تتوفر وقتها بنوكٌ تجارية تقوم بمهمة الإقراض. وبالتالي فمهما امتلكت شركته مع أخويه، فلن تتمكّن من تغطية احتياجات التوسع والمجالات الاستثمارية المتعددة. |
2 ـ توزيع المخاطرة والتقليل منها في ظل نظام حكومة ورقابة يفرضه وجود شركاء عديدين، والحاجة إلى استقلالية القرار الإداري. |
كما ذكرنا فقد كانت البداية عبارة عن شركات عائلية ضمت الأخوة الثلاث، وبدأت بتأسيس مكتبة تتيح مختلف الكتب من خارج المملكة سواءً من مصر أو بلاد الشام، إضافة إلى كتب أدباء المهجر، وسميت بـ ((المكتبة الحجازية)). وواضح أن هدف هذه المكتبة لم يكن تجارياً بحتاً بقدر ما هو خدمة للمثقفين من أبناء الحجاز، وأنشئت هذه المكتبة قبل العهد السعودي، الذي كان عام 1343 هجرية. |
كما أنشأ الإخوة الثلاثة شركة الفلاح للسيارات وقد أدارها المرحوم عوض سرور الصبان قبل أن تنضم إليها شركة القناعة للسيارات، التي امتلكها سابقاً الشيخ محمد الطويل رحمه الله، لتعرف الشركة الجديدة بالشركة العربية للسيارات. ويعدّ مجال شركات السيارات مجالاً حيوياً لنقل الحجاج والمعتمرين إلى مكة والمدينة، وكان يلبي طلباً متزايداً ما يدل على الحس الاقتصادي، الذي لم يكن وقتها بحاجة إلى ما يُعرف حالياً بـ ((دراسات الجدوى)). |
وباتجاه المرحوم محمد سرور الصبّان إلى الشركات والكيانات غير العائلية، أسس شركات عديدة تلمس حاجة المجتمع لها، مثل الشركة العربية للتوفير والاقتصاد والشركة العربية للصادرات لتهتم بتصدير العدد المحدود من السلع المنتجة وقتها مثل الجلود والملح البحري والمسابح، والتي كانت تحمل عبارة >صنع في مكة< ما أوجد لها سوقاً كبيراً في الدول المجاورة لتستوعب كل ما ينتجه الحجاز. |
أما بقية الشركات التي أسسها فتمثلت في شركة ((مصحف مكة))، وشركة ملح وكهرباء جازان، والشركة العربية للطبع والنشر، التي اشترت ملكية جريدة صوت الحجاز وامتيازها من المرحوم محمد صالح نصيف، وهي المعروفة حالياً بـ((جريدة البلاد السعودية)). |
كما كان المرحوم محمد سرور الصبان رائد إنشاء مؤسسات العمل المدني، إذ أنشأ بعض الجمعيات الخيرية، التي وجد أن المجتمع بحاجة لها مثل ((جمعية الإسعاف))، التي كانت بجانب دورها الطبي مركز اجتماعات ومحاضرات المثقفين. وكلنا يذكر المحاضرة العصماء التي ألقاها المرحوم حمزة شحاته في هذه الجمعية، وغيرها من المحاضرات، حيث مثلت الجمعية منتدىً أدبياً يجمع مثقفي ذلك العصر. كما أنشأ ((جمعية القرش)): ادفع ريالاً تنقذ فلسطينياً، و ((جمعية المواساة)) وكلتاهما تهدف إلى مناصرة القضية الفلسطينية. |
ومع انشغال المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان، ابتعد تدريجياً عن الإشراف على هذه الشركات وأوكل أمرها إلى بعض الشركاء، نظراً إلى انشغاله بوظائفه المتعددة في السلك الحكومي، ومنعاً للحرج مع تزايد مسؤولياته الحكومية، الناشئ عن جمعه بين العمل الخاص والعمل الحكومي، على الرغم من الموافقة الملكية على استثنائه بالقيام بذلك. وكان لتأخير بعض هذه الشركات في تحقيق أرباح، أو تعثر بعضها، أن قام بتعويض من يرغب من المساهمين فيها بالقيمة التي اشترى بها أو قيمتها الفعلية أيهما أعلى، وكم وجدنا من أسهم لمساهمين لم تُحول ملكيتها إلى اسمه، على أنه قد تم تعويضهم عن قيمتها. |
هذه التجربة الاقتصادية المتراكمة التي سبقت عمله الحكومي مكّنته من إدارة وزارة المالية منذ أن التحق بها وإلى أن أصبح وزيراً لها، بعقلية اقتصادية وحنكة إدارية على الرغم من الظروف المالية الصعبة والإنفاق الحكومي الكبير المقيّد بإيرادات بترولية ضعيفة وقتها. وهو أول وزير للمالية والاقتصاد الوطني بعد أن كانت تعرف بوزارة المالية فقط في عهد أول وزير لها المرحوم عبدالله السليمان. |
إذا، نحن أمام رائد اقتصادي كما هو رائد ثقافي، وغالباً ما يُهمل هذا الجانب، مقارنة بجوانب تميزه عن الأخرى. ولا ننسى ما قاله الدكتور عبد العزيز خوجه في إحدى تغريداته بأن ((محمد سرور الصبان هو شخصية عظيمة بكل المعايير، فهو رجال في رجل: فهو الاقتصادي، ورجل دولة، والمثقف، والمفكر، والأديب والوجيه)). |
وأختتم ببعض أبيات من القصيدة التي رثاه بها صديق عمره ورفيق دربه، الأستاذ إبراهيم فوده، يقول في مطلعها: |
وجبَ الوفاءُ فما عليَّ ملامةٌ |
إنْ بُحْتُ بعدَ الصمتِ بالإطراءِ |
قد كنت التزمُ السكوتَ مخافةً |
من أنْ يُقالَ مُداهنٌ ومُراءِ |
|
|
|
إلى أن يقول: |
يا من شغلتَ الناس ملْءَ قلوبِهِمْ |
حيًّا،ومِلْءَ جيوبِهِمْ بسخاءِ |
وشغلتَ كلَّ الناسِ مِلْءَ عقولهِمْ |
نقداً وفلسفةً وجِدَّ مراءِ |
وشغلتَ بعضَ الناسِ مِلْءَ نفوسِهِمْ |
حسداً وتلكَ ضريبةُ الكُبَراءِ |
|
|
ويقول فيها أيضاً: |
أسهمتَ في رفع البناءِ بِطاقة |
منحتكَ حظَّ الصانعِ البنَّاءِ |
|
|
ويختتم مرثيته بأن المرحوم: |
سيظلُ شُغْلَ الناسِ بعدَ وفاتِهِ |
ما كان شُغْلَ الناسِ في الأحياءِ |
|
|
وقد صدق حَدْسُهُ. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
|
|