((كلمة الأستاذ الدكتور سليمان علي الشطي))
|
|
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
وبعد، |
هل جاءكم نبأ ذلك الحكيم؟ أذكركم به أو أقص عليكم طرفاً من حكايته: ورد هذا الحكيم على مدينة، وعند مشارف أسوارها استوقفه أمرٌ، وجد أن القبور الممتلئة مكتوب على شواهدها فلان عاش ساعتين، وآخر ساعة واحدة، وثالث يوماً واحداً، وآخر مر على الدنيا ولم يعش بها، وسأل عن السر، فكان الجواب نحن نحسب العمر بلحظات السعادة التي عاشها الفرد وليس بالسنوات التي مر بها. |
إذا كان الأمر كذلك فأنا بدوري أقول إن لحظتي هذه بينكم هي واحدة من اللحظات التي عشتها في هذه الدنيا، وأود أن تسجّل لي، فلا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أتجاوز هذا الطوق الجميل من ورود محبة نزلت علي من أقطار الدنيا الأربعة، فأتحسسه بقلبي وسأحتفظ به في مكان مكين من قلبي، وإذا كان التكريم عادةً يغمز لنا بطرف وبإشارة مهذبة إلى أن دورك قد أصبح وراءك، أو هو كما يقال ركلٌ إلى أعلى، جَدٌّ يجلس في الركن يُستمسح به للبركة، فإنني أراه الآن بعين أخرى، أشعر به قوة دفع للأمام، فشكراً لكم. |
لا أدري عمّ أحدثكم؟ يقولون من خيَّرك حيَّرك، والأحبة تركوا لي الاختيار، وأنا من جيل كُتب عليه أن لا يقتصر دوره، إذا أراد أن يكون فاعلاً، على جانب واحد، كلٌ منا يتمنى أن يختار شيئاً واحداً يخلص له، يفني عمره، ويسعد بإنجازه، ولكننا نحن جيل جاء في لحظة فاصلة تبدأ بداية جديدة، الفراغات كثيرة، طابور احتياجات الوطن يمتد، فإذا كان من البُدّ لمن وضعتهم المصادفة. فالمصادفة وضعتنا في هذه الحقبة الزمنية أن يكون لنا في كل بناء قبضة تراب نؤسس بها، لذلك لعلكم رأيتم المفردات الكثيرة من الأنشطة، التي توزعت بين القصة والبحث الأدبي والمشاركة المسرحية وتأسيس المؤسسات الثقافية، أخوتكم مجبرون وليسوا من المختارين، قُدِّر لنا هذا فقمنا به ما استطعنا. |
لو قدر لي أيضاً أن أختار شيئاً لاستقرت إرادتي عند فن القصة، فهو الذي أجد نفسي فيه، وتمنيت أن أعطيه مساحة من عمري ولكن كان ما كان، ولو كان جهدي توقف عند القصة لبرزت مشكلة أخرى خصوصاً في هذا اليوم، وأحمد الله أن الشيخ وزميلي المقدم وزميلي المعقب خففوا عني العبء، فمن يكتب الفن لا يستطيع أن يتحدث عن فنه، آخر واحد يستطيع أن يتكلم على فنه هو الفنان نفسه، لا بد أن يهرب من هذه الزاوية الورطة، لأن النص الأدبي ملك لقارئه، وليس أفكاراً نتحدث عنها ولكنه رؤى وحالات متغيرة في كل لحظة عصية على التنظيم، نافرة من التحديد، حتى قال لنا المحدثون كما تعلمون إن هناك كاتباً حقيقياً وهناك كاتباً ضمنياً وهناك راوياً وهناك قارئاً يساوي هذه المحاور الثلاثة أيضاً، إذاً لنا أن نلجأ إلى قول عمنا وتاج رأسنا الكبير (أبو الطيب المتنبي)، عندما سئل عن شعره أشار إلى العلامة ابن جني وقال: ابن جني أعلم بشعري مني، فإذاً هذه واحدة قد كُفيتها ممن شرفوني بكلماتهم قبل قليل. |
الآن سأضرب صفحاً (صفحاً هذه كلمة فصحى لكن لا بأس بذلك)، صفحاً عن هذا الجانب متشبهاً بكريم الشعر والأدب: المتنبي. وأختار لكم ما يمكن أن أتحدث عنه وهو الأدب أو تاريخ الأدب. لقد غمست مداد الحبر في مجالين أو إطارين يوحد بينهما منطلق واحد، أما المجالان فهما توجه نحو بؤرة الخروج الأولى، حنين الدم والثقافة والدين، ذلك التراث الذي رضعته صغيراً، أما الثاني فذلك الوتر، وتر الحب والميل والانفتاح مع الأدب الحديث، ويأتي المنطلق الجامع بين الاثنين: السؤال، لقد علمونا، وقالوا لنا إن السؤال هو الأصل، إذا عرفت كيف تسأل فكل أبواب المعرفة تفتح أمامك. لذا من دون شعور، ومن دون تخطيط كان هذا المنطلق مفتاحاً فاعلاً بالنسبة إليّ، جاء السؤال الأول مبكراً، في الستينات وأوائل السبعينات كان الهوى والتوجه في البحث إلى تلك الدراسات، التي تنحو نحو النزعة الاجتماعية الواقعية، أي الواقعية الاشتراكية وغيرها، وكان نجيب محفوظ نقطة عسل انقض عليها الدارسون باعتباره رائداً للواقعية. وهنا جاء السؤال عندي: ماذا لو اخترت العكس وجئت من زاوية معاكسة؟ الواقعية نقيض الرمزية، هناك حرب بينهما، فجاء السؤال: لماذا لا أدرس الرمزية في عقر دار الواقعية؟ وأدب نجيب محفوظ في منطلقاته وفي تحولاته يساعد ويلامس هذا الخط بقوة، بل لماذا لا ندرس البناء الكلاسيكي بمنظور رومانسي، أو ندرس العبثي بمنظور كلاسيكي ما المانع؟ والعكس حاصل. جاء موضوعي الأول: الرمز والرمزية عند نجيب محفوظ، تناثرت اللقطات الرمزية في الكتاب ولو حدثتكم لاستغرق وقتاً طويلاً، لأن الكتاب عبارة عن أربعمائة صفحة، ولكن سأشير إلى نقطة واحدة مركزية تتناثر حولها الرموز من أكثر من جانب، وسأحتاج لها بعد ذلك في وقفة ثانية. |
أدب نجيب محفوظ باعتباره دارساً للفلسفة، تمحور حول قضيتين رئيسيتين هما: المشكلة الميتافيزيقية (ما وراء الواقع)، والقضية الاجتماعية، ونعيد تقييم وتسهيل القول إنها مشكلة السماء ومشكلة الأرض، إن الإنسان بين قضيتين. برزت القضية الاجتماعية واضحة عنده في المرحلة الأولى والثانية في المرحلة الثانية، ولكن في كلتا المرحلتين كانتا حاضرتيْن، تجسدت دلالة رمزية علاقة أساسية أحب أن أشير إليها كتلخيص لملامح أقوال هذا الكتاب، هما علاقة الأمومة والأبوة في أدبه، أينما وجدت الأم عند نجيب محفوظ تبرز المشكلة الأرضية، وأينما جاء الأب تجلى السمو والتعالي لتطل القضية السماوية، فبينما كانت أميمة، وهي تعادل في أولاد حارتنا الأم الأولى، في أولاد حارتنا حُكم عليهم بالخروج من البيت الكبير، السماء، كانت الأم تنظر إلى الأرض وتقول: سنتعب كثيراً حتى تتيسر لنا الحياة، بينما كان أدهم (نظير آدم) مشغولاً بالبيت الكبير الذي طُرد منه فكيف يعود إليه. |
بسيمة عمران في رواية "الطريق": هربت مع رجل من الطين، ولن ينقذ صابر ولدها من هذا الوحل إلا والده سيد سيد الرحيمي، الذي يقدم الحرية، الكرامة، السلام، الموجود وغير الموجود، لذلك كان أول مخاطبة في أول سطور الرواية: تذكّر ربك. |
في "اللص والكلاب"، مشكلة الأم الأرضية ومرضها وطردها من المستشفى كانت البوابة التي نفذ منها سعيد مهران إلى التمرد والثورة والمسدس ورؤوف علوان، أما الأب فطريقه قاده إلى التصوف والإنشاد الديني والشيخ الجنيدي الذي يقول له: توضأ واقرأ. هذا ملمح من ملامح في صفحات كثيرة من الكتاب. |
بوابة أخرى فتحها السؤال لي وشجعني على الإقدام: ماذا لو كان النص واحداً والعيون مختلفة، عيون العصور مختلفة، كيف تكون الرؤية؟ وجاء الاختيار على هدي هذا السؤال، المعلقات، أقدم نصوص شعرنا الرفيع، وهذه العصور تتالت كل عصر يحدق فيها، فماذا قالوا؟ لذا، أدخلت نفسي في عش دبابير شائك، وأكوام من أوراق كما السحاب المتراكم في غابة استوائية، كتب متضخمة، شذرات متناثرة في زوايا الموسوعات والنوادر، مخطوطات سكنت هادئة تحت غبار السنين، رطانات غربية، أقوال مرسلة، فقلت لنفسي: سامح الله الأسئلة. |
ومع ذلك جاءت رحلتي شاقة ممتعة، أنظر إليها كما نظر سندباد إلى رحلته السابقة فتحفزه إلى القيام برحلة تالية، لست متيقناً من أنني وجدت إجابة ترضي السؤال، والكتاب بعد ذلك مطروحٌ بتمهيده وفصوله السبعة، التي تناولت شُرّاح المعلقات القدماء المعلمون: الأعلم الشنتمري، البطليوسي، وغيرهم، التبريزي، اللغويون: ابن الأنباري، ابن النحاس، أصحاب الذائقة الفنية، الزوزني. ثم عرجت على نظرات النقاد المتناثرة في كتب النقد، بما فيها الوقفات المطولة مثل: الباقلاني ومعلقة امرئ القيس. |
وعندما يأتي العصر الحديث أيضاً صافحنا المعلمين الأوائل، ثم كان النافذون إلى المعلقات يروضون مناهجهم الحديثة، اجتماعية، نفسية، جمالية أسطورية، بنائية وتوليدية. |
رحلت، وامتدت الرحلة من الشيخ اللغوي في القرون الأولى متشحاً بعباءته تحت أعمدة المساجد في بغداد العباسية والأندلس الأموية والقاهرة الفاطمية إلى الحداثي، الذي يتأبط نص المعلقات في قطارات أنفاق لندن. |
كنت مثل صيادٍ يطرح شباكه يشدها فتشده، أجري وراء سوانح أفكار، وكم تحت الخبايا من زوايا، وأذكر لكم فقط طرفاً واحداً من قول جعل النوم يجافيني، خصوصاً عندما ترى المشهور المعروف يُدخلك في مجاهل لا تخطر على بالك، وأن ما ظننته مما يُلتقط على الساحل فإذا هو في الأعماق موجود وغير موجود. |
تعرفون كلكم خبر المعلقات على الكعبة، حكاية يعرفها خباز الشارع الذي بجانب بيتنا، قضية ليست مجهولة، وخبر تعليق القصائد على الكعبة خبر معروف، ونحن عندنا علم الخبر عندنا نحن أصحاب (العنعنة)، العنعنة الأصيلة، نرتبه ترتيباً تاريخياً حتى نحدد مصدره، وما أسهل خبر التعليق وأيسره، ولكنني عندما وضعت الأخبار في حقول أزمنتها وجدت خبراً يقف على قمتها، فناراً يطاول السماء، ما أسهل المبتغى! |
كان النص لابن الكلبي توفي 204هـ أي أنه من رجال القرن الثاني، إذاً النص قديم، وهو من نصوص المعلقات، إن صحت النسبة فإذاً هذا كشفٌ لأننا لا نعرف خبراً إلا متأخراً، وقد أورده دارسو الأدب الحديث: أحمد الحوفي -رحمه الله- بدوي طبانة، جواد علي، يحيى الجبوري الذي نقله عن عبد السلام هارون، الذي لم يشيروا إلى مصدرهم، لا أدري من أي سماء نزل، وجاء بعدهم من نقل الخبر إلى يومنا هذا، ينقلونه مطمئنين واثقين، ولم يشر أحد إلى مصدر قديم. وبعد تتبع للخبر وجدت أنهم كلهم قد رجعوا إلى الرافعي، نقلوه من كتاب الرافعي الذي طبع في 1911م حسب ما أذكر، ولكن الطبعة كانت الجزء الأول والثاني أما الجزء الذي جاء في هذا الخبر فإنه لم يُنشر في حياة الرافعي، ومن ثم لم يُعرف مصدره، إذاً من أين جاء به الرافعي؟ درت أخوتي السبع دورات، لم أترك محلاً ولا باباً ولا مرجعاً قلبته مرة ومرتين أعود خاوي الوفاض، فثباته مهم، وبعد لأي وجدت شيئاً ولم أجد يقيناً، الرحلة نصف خائبة، فما وجدته فقط هو مصدر الرافعي، كتاب مطبوع في نهاية القرن التاسع عشر في تركيا، والغالب في السنوات الأخيرة على هامش الطبعة، مخطوطة على هامشها لا نعرف من كتب هذا الخبر، إذاً هذا لا يثبت يقيناً ولا يهدئ بالاً بل يضيف خيبة وبقيت القضية معلقة. |
آن الأوان لأنتقل إلى موضوع آخر في ثلاثة أسئلة، ليس بالضرورة أن نستقريها كاملة، حسب الزمن المتاح، نبدأ بواحدة: لفتت نظري، بل أغاظني مرة كاتب تحدث عن طبقات ابن سلام، أنا بطبعي محب للأدب الحديث، ولكنني بي عصبية لكتب التراث، أحبها ولذلك لاحظتم أنني أنتقل من الرمزية إلى المعلقات، وهذ الموضوع كان موضوع نقاش طويل، لماذا تنتقل؟ هذه نقلة عجيبة يعني، عادة الواحد يأخذ الرسالة من المجال نفسه تنتقل من ألف سنة للخلف هكذا التراث أحبه! إذاً، أعود إلى موضوعي، لفت نظري وأغاظني كاتب تحدث عن طبقات ابن سلام، وتناول مقدمته فذكر فيما ذكر من معلومات ولكنه هجاها وعابها وتحذلق عليها بأنها مختلة منهجياً، مضطربة، والأفكار غير متجانسة، وقولٌ.. وقولٌ.. وقولٌ حتى أوشكت أن أصفع الكلمات، لا عجب طبعاً فكثيراً ما نتشاجر نحن مع الورق، والكلمات الصامتة كثيراً ما تتحول إلى أشواك، تندفع إلى بؤبؤ العين تفقؤه فتدميه، هكذا فعل معي هذا الكاتب عندما داس على رداء ابن سلام النقي. |
لم أتسرع "فغضب يفوت ولا أحد يموت"، ومرت سنوات، وأنا أعود إلى كتاب الطبقات مراجعاً أو موثقاً وفي كل مرة يتجدد ذلك الوخز القديم حتى جاء يوم فانفتحت أساريري، انفتحت الأسارير هذه مثل بخلاء الجاحظ، بخلاء الجاحظ الذين يسمون أنفسهم أصحاب الاقتصاد والتدبير، هم ليسوا بخلاء، ولكن أصحاب اقتصاد وتدبير، فإذا عثروا على طريقة للاقتصاد تنفتح أساريرهم، أنا مثلهم انفتحت أساريري على ماذا؟ قلت لنفسي: هذه المقدمة عندما كتبها صاحبها وهو من هو، أليس هناك نسق معين في ذهنه؟ بلى! هذا النسق عند ابن سلام هل هو واضح؟ واضحٌ لأنه نابع من إحساسه بمشكلات طرحها بانفعال واضح وفي حالة جدل، وكما تعلمون أن المجادل دائماً يرد على أسئلة ضمنية في ذهنه، كما نحاور في الأحلام شخصاً آخر فالذي يحاور يضع أسئلة ضمنية أمامه وتتوالى في ذهنه، لا يذكرها ولكن يسطر الإجابة عليها، إذاً لكي نعرف، سألت نفسي، أو وضعت هذه المشكلة أمامي، لكي نعرف مسار الإجابات وصواب موقعها في هذه المقدمة علينا أن نكتشف الأسئلة المضمرة وأخذت أنظر في الكتاب فماذا لاحظت؟ هذا السؤال كان مفتاحاً سماوياً راح يرتب القضايا ترتيباً منطقياً متتالياً فإذا المقدمة تستوي أمامي نسقاً واحداً لا اضطراب ولا تشتت فيه، تمد لسانها لذلك العائب المتسرع، ابن سلام واجه الأسئلة التالية بمنطقية، شخص يؤلف كتاباً عن الشعر، كتاب عن الشعراء وعن الشعر، فما هو أول سؤال يخطر على باله؟ من هو الشاعر؟ سؤال منطقي، ولذلك نجد أن أول ثلاثة سطور في الكتاب حدد ابن سلام الشاعر فقال: ليس كل من قال شعراً أضحى شاعراً، فالشاعر من غلبت عليه صفة الشعر، بمعنى أن امرأ القيس شاعر مع أنه أمير، والشافعي فقيه مع أنه شاعر، وابن المعتز شاعر مع أنه أمير، فإذاً من غلبت عليه الصفة أي من الفحول المختصين فحدد من هو الشاعر. |
جميل، ما السؤال الثاني؟ ما هو الشعر؟ ولذلك قال: ليس الشعر المفتعل مصنوعاً، ولكن أي شعر هو حجة في عربيته، وهذا ربط بين اللغة والشعر، ثم الشعر في غايته: أدب يستفاد منه، بمعنى يُستخرج، مثل يُضرب، الثالث مستوى الأداء الفني: مديح رائع، فخر معجب، نسيب مستظرف، إذاً هو حدد ما هو الشعر؟ أو ما الشعر؟ |
يأتي السؤال الثالث على هذا السؤال، إذا كان الشاعر هو كذا، والشعر هو كذا، إذاً كيف نصل إليه؟ كيف نصل للشعر الذي يتحدث عنه ابن سلام؟ قال: من مصدرين، من بيئته، أي من الشاعر نفسه أو من قبيلته، أو من عالم مختص، هذان الطريقان، إذاً إذا احتجنا الآن إليهما، طبعاً البيئة ليس كل إنسان يلجأ إليها، ولكن المهم هنا العالم الآن، ما صفات هذا العالم؟ وبلغتنا ما صفات هذا الناقد؟ حددها بأمرين، الصنعة والثقافة، الصنعة هي الحرفة، والثقافة هو الاستغراق في الصنعة، ولها تفصيل طويل درسته في المقدمة ولكنه هذا هو مجمل القول، وأفاض في الدفاع عن التخصص، هذا جميل، جاء السؤال الرابع كان منطقياً، ما دام عندنا مصدر، وعندنا عالم، إذاً لماذا فسد الشعر؟ لماذا الشعر أصبح فاسداً يا ابن سلام؟ قال: إنه لم يؤخذ من مصدره، إنه لم يعتمد على عالم، أن الذي رواه من لا علم له بالشعر حتى ولو كان عالماً في غير الشعر، ابن إسحاق عالم في التاريخ لكن ليس عالماً في الشعر، أيضاً هناك أسباب اجتماعية، القبائل قالت زادت من.. والرواة وغيرهم.. يأتي سؤال كيف نرد هذا الشعر الفاسد؟ تولى ابن سلام الرد عليه وقدّم حججه، وهكذا ترون أن ابن سلام في القسم الأول من مقدمته كان منطقياً واضحاً لا لَبْسَ فيه، جميل يا ابن سلام. أنا وجهت السؤال إليه، يا ابن سلام أنت أسقطت الأدب القديم كله فماذا أنت فاعل؟ يبدأ ابن سلام يقدم لنا التاريخ البديل، مقترحه: تريد أن تكتب الآن اكتب بهذه الطريقة، ما هو التاريخ البديل؟ منطقياً تاريخ الإنسان نفسه معتمداً على علم دقيق عندنا وهو علم النسب، فإذاً عامود النسب هو العلم المنضبط عند العرب، وعلم النسب هما قوم لهم لغة فعلينا قبل أن نتحدث عن تاريخ الأدب لا بد أن نعرف تاريخ اللغة، فالأداة الحاملة –التي هي اللغة- مُعدة قبل المحمول، ومن ثم فاللغة العربية الحديثة تبدأ بسيدنا إسماعيل عليه السلام، والشعر تال فهو بعصر عدنان، وتاريخ العربية يستدعي تاريخ علم العربية حتى وضع علم العروض فتكلم عليه، وليس هناك أحد في العالم كله يكتب تاريخ الأدب إلا ويبدأ بالحديث عن القوم وعن اللغة، نبدأ باللغة الإنكليزية كيف تأسست وهكذا فعل ابن سلام. |
سؤال: كيف بدأ الشعر؟ تريد أن تضع تاريخاً جديداً كيف بدأ الشعر؟ يقدم إجابة منطقية كل الأشياء تبدأ صغيرة وتكبر، الشعر المروي: |
إن آدم عليه السلام قال: |
تغيرت الأرض من عليها |
فوجه الأرض مغبرٌ قبيحُ |
|
|
لكن يقول لا، الشعر يبدأ صغيراً ثم يكبر، ويضرب أمثلة على أن أبيات يقولها الرجل –حسب تعبيره- بين يدي حاجته: |
أوردها سعد وسعدٌ مشتمل |
ما هكذا يا سعدُ توردُ الإبل |
|
|
وهكذا أمثلة، ثم تتطور القصيدة فيكون أول من هلهل القصيدة المهلهل، فإذاً أخذها. وهكذا، تترى الأسئلة حتى ينتهي ابن سلام بأسلوب منطقي لا شيء فيه يمد اللسان للنظرات المستعجلة الخاطفة التي تلامس السطوح، ولا طاقة لها بالسباحة في محيط علمٍ مثل ابن سلام وأضرابه. |
سأتوقف عند هذا السؤال: وأضرب صفحاً عن الأخير مع محبتي له، أنا دائماً ترحل بي السوانح من سؤال إلى سؤال، ومن زمن إلى زمن، فكما رحلت مع الجاهلية ثم العصر العباسي أعود مرة أخرى لنجيب محفوظ ويعيد بي، فهكذا قضيت عمري زائغ النظرات، كل ما أخشاه أن يصدق عليّ الحديث المرفوع: "المُنْبَتُّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" وزيد فيه: "فاعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبداً، واحذر حذراً تخشى أن تموت غداً". أنا أقف عند مفترق الطرق عاجزاً عن المقصد، ولم أقضِ واجباً، وأهلكت راحلتي، ولكن هذا ما قُدِّر علينا. |
قرأت ملحمة "الحرافيش" بعد سنوات من هجري لمحفوظ عدت وقرأت الحرافيش، استمتعت لكن بعد فترة دخلت شياطين الأسئلة، ماذا وراء هذا العمل؟ الماضي الرمزي الذي عشت معه، يعشعش في عقلي ويخرّب علاقتي بالأشياء، فليس كل ظاهر هو حقيقي أو مقصود، ماذا وراء حجب اللغة وتحت أحداث الرواية وعلاقاتها؟ هناك أجوبة كانت قيلت لم تقنعني، حتى بزغ جواب لا أدري مقدار صحته ولكنه جواب حفر حفرة في زاوية من عقلي وجلس مطمئناً وتركني في متعرجات الحيرة، فسجلته، ماذا قال السؤال؟ انطلقت من ربط رواية "الحرافيش" برواية أخرى تمثل انعطافة التي هي "أولاد حارتنا" الرواية التي أشرت إليها من قبل، "أولاد حارتنا" متفق عليه لا أحد يختلف على أمرها، أنها تقدم تاريخ البشرية من خلال الرؤية، التي سجلها التاريخ المعروف والمعهود والذي هو موجود في الكتب الدينية والمتعلق بها، من أيام آدم، فجبل، فرفاعة، فعرفة وانتهى بعد ذلك حتى عصر العلم عرفه، وحنش: عصر الفكر، يختلفون ولكن الكل يقول هذه الرواية تاريخ كما سجلته الرؤية الدينية من الجنة إلى الأرض، أما "الحرافيش" عندما تأملتها وجدتها تروي الحكاية ذاتها، ولكن في هذه المرة التاريخ لا علاقة له بالمعطيات السابقة، التاريخ رسمه بعض العلم لا أقول كل العلم، الذي يقول إن الإنسان ابن المصادفة، طبعاً أستعمل كلمة "مصادفة" لأنها لغة عربية صحيحة، (أما أغنية عبد الحليم صدفة، صدفة، فهي ليست عربية)، فيقولون إن الإنسان ابن المصادفة، خلية تطورت ثم توالى تاريخها بعد أن أصبح إنساناً، هذا هو التاريخ الذي يأتون به، تاريخ العلم المادي، هذا هو المفتاح الذي بدأ يفتح لي مغاليق الرواية، نشرتها في الدراسة التي أُشير إليها، الرواية جاءت في عشر حكايات، فصلها الأول يظهر "عاشور الناجي" من هو عاشور الناجي؟ أدهم خرج من البيت الكبير وله أب، أما عاشور فهو ابن المصادفة، لقيط وجد على قارعة الطريق، وتشير سطور الرواية الأولى إلى أنه عابر بين العدم والحياة، الأرض هي الأم والأب لمن لا أم له ولا أب، وإذا كان في "أولاد حارتنا" إدريس (إبليس)، فهنا درويش يقدم الحاجة واللذة والمنفعة، الإنسان البدائي وحركة الغرائز هي البارزة عند هذا الأب البداية. |
تتطور البشرية حسب التاريخ المادي أيضاً في مرحلة الصعود إلى الروح، ولذلك جاءت الحكاية الثانية ما اسمها؟ (شمس الدين)، مرحلة الروح الدينية وهذا جزء أساسي معترف بها، فإذاً (شمس الدين) شخصية لا تعتمد على القوة البدنية سكب كما يقول في قلبه أعذب الألحان، ينزع إلى النجوم، متصل بالزوايا الصوفية، تُعلِّق زوجته وتقول: لا يبقى إلا الإيمان، وكان دعاء أتباعه الأخير: اسم الله عليه.. اسم الله عليه. |
إذاً هذه مرحلة "أولاد حارتنا" كاملة لكنها مرحلة، ثم تأتي المرحلة التالية أتوقف عندها، مرحلة عصور الظلام وغيرها وغيرها، أنا سأتوقف عند الفصول الأخيرة التي تقدم صعود أوروبا، التي يقدمها من خلال شخصية امرأة لأول مرة وهي: زَهيرة أو زُهيرة - لا أعرف كيف تنطق - شخصية هذه المرأة شخصية جمعت العقل طبعاً يساوي الفكر والتدبير والتخطيط والإرادة، يلخص سماتها إحدى الشخصيات بأن زهيرة جوهرة لا قلب لها، وأنها تفلت من قبضته مثل الهواء، غير أنه لا يتصور الحياة من دونها، هي روح الحياة وعاداتها المسيطرة، وهي شديدة الخطورة لا يؤمن لها. تقول هي عن نفسها: أنا العقل.. أنا الإرادة.. أنا الجمال.. أنا الغريزة، وتقول لولديها: ليكن مجدكما فوق كل مجد. لخص في هذا الفصل معطيات عصر النهضة والفكر الموجود في ذلك العصر، من الذي تبعه؟ ابنها، من هو ابنها؟ جلال، جلال يكاد يكون المعادل الواضح لشخصية مهمة تمثل الإنسان الغربي "فاوست"، فاوست الذي باع نفسه للشيطان في سبيل المعرفة، جلال الذي هو طبعاً الجلالة والرفعة، أيضاً تَعاونَ بَحثاً عن الخلود وبنى مئذنة رمز لحضارته لا ترتبط بأي معنىً دينيّ؛ فتحولت إلى لعنة. |
الفصول التالية وخصوصاً فصل (حكاية فتح الباب) و (غرس النعمة)، ملخص واضح للثورتين الفرنسية والاشتراكية الروسية أو السوفياتية التي سقطت. وهل يُسدل الستار؟ لا، الحكاية الأخيرة هي: (يوتوبيا المستقبل)، الجمع بين العدالة والقوة، فالحكاية العاشرة والأخيرة تتمثل في (التوت والنبوت)، أي القوة والعدل، القوة والمعرفة، والشخصية الرئيسة (عاشور)، عاشور الأول في الحكاية الأولى، وعاشور الثاني في الحكاية الأخيرة، وتُختم الرواية على أن بابيْ الرضا والسعادة الدائمة سيُفتحان ذات يوم لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة. |
هناك سؤال ثالث معلق، وهو الأحب على قلبي ولكن لا أريد أن أستأثر في الوقت، فأتوقف فقد اتسع صدر الوقت لي وكان حليماً صبوراً، ولم يبقَ في منزع القوس شيء، فليسكت الراوي مُسلِّماً شاكراً. |
الشيخ عبد المقصود خوجه: لكن لا نزال ننتظر السؤال الثالث! بكل جدية. |
الأستاذ سليمان الشطي: السؤال أنا سأجمل القول ببضع كلمات، هو أيضاً سؤال متصل بالإسلام والشعر، كما تلاحظون انتقلت من (الحرافيش) إلى (صدر الإسلام)، ولي وجهة نظر محددة واضحة وبسيطة وتعتمد على المقارنة العددية وفحص النصوص مباشرة، يعني أول أمر ناقشت قضية الإسلام وموقفه من الشعر، نحن كمسلمين موقف الإسلام يتبدى لنا من خلال أمرين لا ثالث لهما: النص القرآني الكريم، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرهما وأفعاله، عندما نأتي نجد أن الآيات التي وردت في القرآن ستة مواضع، وردت كلمة شعر وشاعر، هذه المواضع كلها ليس فيها حديث عن الشعر كفن، إلا الآية الأخيرة سأتكلم عليها، أحياناً تكون رد وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ]يس: 69[، ما علمناه الشعر، وما علمناه الطب وما علمناه الهندسة، هو نبي هذا ليس نقداً للشعر من حيث هو شعر، لكن قالوا عنه: "إنه شاعر"، فقال لهم: "ما علمناه الشعر"، لا حديث عن الشعر كفن، هم يقولون شاعراً، قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ]الحاقة: 41[ هم يقولون، وقالوا أيضاً إنها أضغاث أحلام، بل هو شاعر، يعني أحلام وشاعر أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ]الطور: 30[، كلها.. ليس هناك آية تتكلم على الشعر كفن، إلا الآية الوحيدة التي جاءت في آخر سورة الشعراء وهي وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ]الشعراء: 224[، وهذه واضحة هي تتكلم على واقعة تاريخية محددة بالاسم ولها حديث أيضاً يقف بجانبها، روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن يمتلئ أحدكم.. الحديث في جوفه قيئاً خير من أن يمتلئ بهذا الشعر، الشعر الذي هُجيَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي قيل، فإذاً الآيتان كلاهما تتكلمان على حالة معينة طبعاً نعرف بعد ذلك الاستثناء إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ]الشعراء: 227[ إلى آخره، فإذاً موقف الإسلام واضح من الفن، والرسول موقفه واضح من الفن، أجاز وأعطى وغيره، إذاً نحن الآن لا جدال في هذه النقطة. |
نأتي للنقطة الثانية، قول أنا لا أُسلّم به، أن الشعر في صدر الإسلام قد هبط، أو أن الإسلام... (اسمح لي بوجهة النظر) هو ليس الإسلام الذي أهبطه، لننظر إلى تاريخ الأدب أولاً، تاريخ الأدب كله، دائماً القمم ليست متساوية، في الآداب كلها، نبدأ بالإنكليزي يصعد شكسبير العصر ثم ينزل بعد ذلك ثم يصعد، ونحن عندنا أيضاً لا يزال إلى الآن العصر الجاهلي هو قمة القمم، لا يزال إلى الآن، ثم جاء هبوط ثم صعود في عصر المتنبي، ثم في القرنين الثالث والرابع، فإذاً نحن الآن حركة طبيعية لظروف معينة منها ظهور الإسلام وغيره، هذا واضح، الأمر الثاني: هل كان من في الجزيرة العربية في ذاك الوقت قد تركوا الشعر؟ هناك عدد كبير لم يدخل الإسلام، أو قالوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، ومع ذلك لنلجأ للحساب، نحن ندري تماماً أن الإسلام قمة الإسلام هي الهجرة، 1 للهجرة تعدّ انتصار الإسلام الأكبر، الأعشى شاعر كبير مات سنة 7 للهجرة بغض النظر عن كونه شاعراً إسلامياً أو غير إسلامي، هو شاعر جاهلي لكن لا يزال الشعر قائماً، الأعشى يقول الشعر، ومع الأعشى يعيش الحطيئة، وكعب، والخنساء في المرحلة ما بين سبعة إلى عشرين أو ثلاثين، في العشرين ولد الأخطل، بعد سنة أربعين بدأت عندنا الحركة الثانية التي هي العصر الأموي، إذاً لدي فترة حاسمة تاريخياً فيها لا يزيد عن خمسة وعشرين عاماً من سبعة إلى أوائل الثلاثينات عندما ذكروا أن الفرزدق بدأ يقول الشعر وضربه الإمام علي وله قصة معروفة، إذاً في هذه المرحلة في مرحلة العشرين أو الخمس وعشرين سنة يعيش فيها الخنساء وحسان والحطيئة وكعب، إذاً هي ليست خالية من الشعراء، بل منطقة فيها شعر، صحيح ليس شعراً إسلامياً مئة في المئة لأن الإسلام جديد، لا بدّ أن يأخذ وقته، حتى الفكر الإسلامي ينظم قصيدته الخاصة لتصل بعد ذلك إلى القصائد الدينية وغيرها، لكن المساحة الجغرافية ليس فيها ذلك الضعف الذي نقوله هناك فعلاً اختلاف وهبوط على العصر الجاهلي، وأعتقد أن العصر الجاهلي أيضاً ليس بالنسبة إلى زمن الرسول، حتى الأزمان التالية له ليس هناك من زمن يساويه في مكانته. |
على كل حال الدراسة فيها تفصيل طويل ومناقشة لعشرات الأحاديث والأقوال، ولكن مررت بشكل سريع حتى أستجيب لرغبتكم وأكرر شكري مرة أخرى. |
عريف الحفل: شكراً لك أستاذ دكتور سليمان، وقد عيشتنا معك لحظات الأسئلة ودهاليز البحث عن إجابات لها، أفدنا حقيقة من هذه التساؤلات التي عشتها وعيشتنا إياها معك هذه الليلة، مرة أخرى مرحباً بك. |
سنرحب أيضاً من خلال الأخوات في قسم السيدات بضيفنا الكريم، ونبدأ الحصة الثانية من هذه الأمسية وهي مرحلة الأسئلة والتساؤلات التي نرجو أن يتسع صدر ضيفنا لها للإجابة عنها. |
الشيخ عبد المقصود خوجه: قبل طرح الأسئلة معنا الدكتور عبد الله منّاع هذا الرجل مسكون بالمسرح، ولا يمكن أن يأتي ذكر المسرح إلا يأتي الدكتور مناع، وله زوايا متعددة نتفق معه ونختلف في الكثير منها، ولذلك يبدو لي بعد ما قدم الضيف وما قدمه عبارة عن دراسة في الحقيقة وليس كلاماً عرضياً، وقد أثرى المسرح بما طرحه، فأنا أحب أن أسأل صديقي وعزيزي الدكتور منّاع، هل لديه فيما يختص بالمسرح من خلال ما قاله ضيفنا الكريم أي شيء؟ |
|