شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أين هؤلاء من الرحمة المهداة للعالمين ..!؟
في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات الميلادية كنت أتابع نشوء جماعة يسارية متشدّدة داخل حزب العمال البريطاني، وكان اسمها يدل على توجهها المتشدّد وهو (Militint Tendency)، وهي حركة انشقت عن الحركة الأم التروسكيتية (Troskite)، وكانت هذه الحركة ترى أنه يجب تحقيق مفهوم الاشتراكيّة عن طريق القوّة، ولكنّ حزب العمال بجميع فئاته وقف في وجه هذه الحركة لأنّه رأى فيها خطرًا على المجتمع. وسمعت زعيم الحزب آنذاك مايكل فووت Michael Foot يقول في جمع من أنصاره: "سوف أقاتلهم، وأقتلع جذورهم من الحزب ما بقيت فيّ أنفاس تجري". كان فووت ينتحب، وهو يتحدّث بصوت متهدّج، فلقد رأى الخطر الداهم يحيق بمجتمعه والحزب الذي ينتمي إليه والمبادئ التي يؤمن بها من جراء سلوكيات هذه الجماعات المتشدّدة، فالتشدّد تحاربه كلّ المجتمعات؛ لأنها ترى فيه خطرًا يتهدّد حياتها ووجودها.
نرى اليوم في العالم العربي بكلّ حسرة وأسى نشوء جماعات متشدّدة؛ ترى أنّ الطّريق الوحيد لتحقيق برامجها أو أهدافها هو (القوّة)، حتى لو أدّى ذلك إلى انتهاك الأعراض، وقتل الأنفس البريئة، ورمي الآخرين في عقائدهم وأعراضهم وإيذائهم في أعزّ وأنْفس ما يملكون؛ وللأسف فإنّ بعض هذه الجماعات قد اتّخذت الدين ستارًا لها، بل سيفًا تشهره في وجوه كلّ أولئك الذين يخالفونها الرّأي، ولا يتفقون معها في تصوّرها إزاء مفردات هذه الحياة والتصرّف إزاءها.
ومن أدبيات هذه الجماعات المتشدّدة التي شوّهت صورة الإسلام، وجنت على المسلمين الذين يعيشون في جميع بقاع الأرض، أنّها تعتبر الرّحمة والشفقة من السمات التي يجب اقتلاعها من النّفوس، وإحلال القسوة والشدّة والغلظة والجفوة مكانها، مع أنّ الله عزّ وجلّ ربط بين كرمه على عباده بالمغفرة ودخول الجنّة بكظم الغيظ والعفو عن النّاس، وهي سمات متّصلة بمفاهيم الرّحمة والشفقة والإنفاق في وجوه الخير، ومتّسقة مع مقاصد الشرع الحنيف في كلّياته ومبادئه. يقول عزّ وجلّ:وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاس وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (آل عمران: 133-134). بل إنه سبحانه فتح باب التوبة لعباده، وهو الباب الذي يوصده هؤلاء المتشددون، وكأنّهم بذلك ينفرون النّاس من دين الله بكل ما في وسعهم من السبل والوسائل؛ يقول عزّ وجلّ مخاطبًا عباده بكرمه وعفوه ورحمته:وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون (آل عمران: 135). بل إنّ الله عزّ وجلّ وصف نبيّه بالرحمة نافيًا عنه فظاظة الخلق وغلظة القلب، يقول عزّ وجلّ في حقّ سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم والذي يستكثر البعض عليه في زمننا للأسف سمة السيادة التي هو جدير بها بين البشر وينفحها لمن لا يدانونه صلّى الله عليه وسلّم في منزلة وخلق وعظمة، يقول الربّ واصفًا الرّحمة التي أودعها قلب خاتم رسله وأنبيائه وشفيعهم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ. (آل عمران: 159). وأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنّه في حال إعراضه عن البعض لحكمة معينة أن يخاطبهم بيسر ووداعة، فقال عزّ من قائل:وَإمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِن ربِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (الإسراء: 28).
بل إنّ أهل العلم جعلوا رحمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم عامة بجميع الأمة، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان خاتم الأنبياء والمرسلين فقال الربّ في وصف نبيه المصطفى والمجتبى:وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107)، ويقول المفكّر والكاتب الإسلامي زين العابدين الركابي في كتابه القيّم "علاقات الكبار: النبي محمّد يقدم أخاه المسيح للبشرية"، في صفحة رقم 111، والمسلمون يحبّون النّبي محمّداً لأنه (رحمة خاصة بهم) بسبب إيمانهم به كما هو رحمة عامة للإنسانية كافة:لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة: 128).
ولقد أجابت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن خلقه كان (القرآن) مصداقًا لقوله تعالى:وإنّكَ لَعَلَى خُلقٍ عَظِيم (القلم: 4)، نعم.. لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطف ويرحم على الصّغير والكبير، والمرأة والرجل، فأين قوم بليت بهم الأمة يقسون ولا يرحمون، وينكّلون بمن يخالفونهم ولا يرحمون ضعفهم وقلّة حيلتهم، ويكشفون ولا يسترون، ويشتطون في كلّ شيء حتى لتخالهم بدون قلوب، وخلوا من كلّ رحمة، وأبعد ما يكونون عن الدين وهَدْيه.
 
طباعة
 القراءات :324  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج