شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفتوى والفرار من التكفير
ما تعيشه الأمّة من نكبات ومآسٍ كافٍ في حدّ ذاته أن يشعر الإنسان معه بكثير من الألم والحزن والإحباط، ولو رجعنا إلى أصل الدّاء لوجدنا أن تفرّق الأمّة وتشتّتها عامل رئيس في ما نعانيه على يد العدو الذي يحرق الأرض، ويهدم الدور، ويقتل بدم بارد الأطفال والشيوخ والنّساء كما حدث في مجزرة (قانا) الجديدة، التي أراد أوليمرت الـ(كاديمي) أن يذكّر العالم بأنّه أكثر دموية من (بيريز) العمالي، وبدلاً من تسابق البعض إلى التّعاطف مع إخوانهم في الدّين واللّغة والدم، نجدهم يتسابقون لانتقاض حقّ إخوانهم المنكوبين بأقوال وآراء يستفيد منها العدو المتربّص بالأمّة ويسخّرها في إعلامه وصحافته ويبيّن أفراد مجتمعه والذين يرفض بعضهم سلوكيات حكومته الدمويّة والنّازية الشّريرة.
ولو رجعنا إلى سلوكيات السلف الصالح لوجدنا مثلاً أنّ الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم مع ما آتاهم الله من سعة العلم يجمعون علماء الصّحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل، يستشيرونهم ويستنيرون برأيهم، ومن هذا اللّون من الفتاوى الجماعية نشأ الإجماع في العصر الأول (انظر: الفتوى بين الانضباط والتسيب) للدكتور يوسف القرضاوي، القاهرة، 1408هـ/ 1988م/ ص 21).
وقال عطاء بن السائب: (أدركت أقوامًا إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنّه ليرعد). وقال سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار. وسئل القاسم بن محمّد، أحد الفقهاء السبعة في بلد الطّهر والإيمان والتوحيد الخالص، عن شيء؛ فردّ عليه: إنّي لا أحسنه، فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك، فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة النّاس حولي، والله لا أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي ألزمها. فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: (والله لأن يُقطع لساني أحبّ إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به)، وسئل الشّعبي عن مسألة، فقال لا أدري، فقيل له: ألا تستحي من قول "لا أدري" وأنت فقيه العراق؟!، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا). وكان إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأشد في الابتعاد عن الفتيا، فلقد كان يقول: من سُئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب فيها.
ولقد بليت الأمّة بقضايا التكفير في السلم والحرب، ولكأنّ البعض قد ملك مفاتيح الجنّة والنّار بيديه، وما نشاهده في بعض البلاد العربيّة والإسلاميّة من سفك للدّماء بين الأخوة في الدّين والعقيدة والوطن إلا ووراءه هذا التكفير والتفسيق والتبديع المجاني، ورأينا في الأمم الأخرى أنّه ما يوجد من الخلاف بين طوائفها كما هو الحال بين البروتستانت والكاثوليك في الدّيانة المسيحية هو أكثر ما بين طوائف المسلمين وجماعاتهم، وما رأيناهم يحملون سلاح التكفير ويشهرونه في وجوه بعضهم البعض، وإن احتقرنا الآخرون أو ازدرونا فلا نلوم إلا أنفسنا. ولو رجعنا إلى أقوال أئمتنا وعلمائنا لوجدناهم يحذّرون من مغبّة هذا الدّاء الذي استشرى بين المسلمين وفرّقهم وذهب بهيبتهم بين الأمم؛ فهذا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل عن المخالفين له من الفرق أكفّار هم؟ فقال: لا، إنّهم من الكفر فروا، فقيل أمنافقون هم؟ فقال: لا.. إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيرًا، فقيل: أي شيء هم؟ قال: قوم أصابتهم الفتنة وصموا، وهذا الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله يحذّر من مغبّة التّكفير فيقول: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التّكفير ما وجد إليه سبيلاً فإنّ استباحة الدّماء والأموال من المصلّين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمّد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، فإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضمينًا على أهل القبلة فكيف نتحلّل من ضمانة شفيع الأمّة وهاديها لهم؟!.
 
طباعة
 القراءات :362  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 55 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.